ينساب كالدم في شرايين الجسد.. تنبض الحياة لتمتد بمسيرتها على مسافات العمر المقبل.. خيط طويل بين العدم والوجود يمتد العمر معه، ثم تبدأ حياة جديدة عندما يتعب العمر من مسايرة تدفقه المستمر.. تخرج حياة وليد لترافق دربه الطويل، تنبت البذور في ثنايا انسيابه. وقف مع الواقفين على ضفته تأمل مده وجزره كان الخور يحكي بحب حياة أفراد عشقوا البحر فكان مسكناً لهم، عند الجزر شاهد أعداداً من الصيادين يجمعون من أفواه الصخور أعشابه البحرية الخضراء ويودعونها قوارب صغيرة تجوب امتداد الماء لتكون غذاء لأسماك تصبح، من بعد، قوتاً لسكان البحر. مراكب شراعية شامخة تغني للبحارة. غمره الحب العظيم الرابض على امتداد البحر، دب مع الساعين للبناء، عندما يفيض الخور بالحنان ويمد أضلعه إلى أقصى مدى يضع ملابسه فوق رأسه ثم يعانق موجة حبه، يتلذذ بشهقاتها حتى ترتعش رعشتها الأخيرة على الضفة الأخرى.. يغتسل ثم يرتدي ملابسه، يمر بالسكيك الضيقة، يجتاز رصيف الفرضة، ينزلق من تحت سلم خشبي يمتد طويلاً ليصل أحد المباني الطينية، يعبر السوق ثم سوق العبرة، وعندما يصل إلى بيته حيث تمتد أشجار العوسج بجوار المقبرة يدلف إلى أحد الأكواخ، يمدد جسده على حصير قديم، ثم ينتظر الصباح.
عندما نامت المدينة على ظهرها فتحت أزقتها على اتساعها ومدت يديها بموازاة رجليها وتدارت العشش خجلاً من منظر العشق والتوحد العمراني (!) كان أيضاً معهم أينما رحلوا، بنى عشته وسط أعداد كبيرة من العشيش والمساكن الصغيرة. لم يبعده ذلك عن مصدر رزقه وحبه وباعث الحياة في عروق من يشربون من البحر. عند تباشير الصباح الأولى خضبت خيوط الفجر مياه الخور كان يأتي مع أسراب النورس ليطبع قبلة حب على ثغر الماء.
مواد بناء.. أكياس رز.. حبوب.. بهارات.. مواد مختلفة، كانت القاطرة البشرية لا تتوقف عن العمل بين السفن الخشبية وشفة الخور يمتد لوح خشبي طويل يشكل طريقاً يعبره بخفة ومهارة حاملاً فوق ظهره ما حواه بطن السفن.. يبعث الحياة في المدينة.. تطحنه.. تمتد خطوط الزمن حافرة وشم البناء على الينبوع الذي لا يتوقف.. نظر إلى الرافعة الجديدة التي وطأت عجلاتها رصيف الفرضة أول مرة.. تحسس عضلات يديه، أحس بالوهن والضعف والتعب.. كم هرب من أسنان الزمن من فك إلى فك، ولكن أنى للمحاصر أن يجد مخرجاً؟ أن لا تهوي عليه المطارق (!).. عصارة العطاء والحب بذلها بسخاء من أجل أن تستمر الحياة وأن يظل الماء منساباً في جداول العمل والبناء.
تحت ظل مبنى قديم افترش قطعة كبيرة من أوراق الاسمنت وبجانبه أعداد كبيرة من العمال يفترشون الأرض على امتداد الظل.. فتح لفافة بداخلها طعام، تمر ورز وسمك. تناول ببطء، ثم مضغ غليونه، دون أن يكلم واحداً من العمال، حتى عندما سأله أحدهم عما يفكر به، لم يجبه.
قال له مسؤول العمل وهو يسلمه مستحقاته:
- أتمنى لك الصحة أيها العجوز.
أحس بمرارة وحسرة.. جال بنظره بين أكداس البضائع على الرصيف، ثم أخذته الخطوات بغير هدى على امتداد الخور.. كانت رائحة البحر الممزوجة بدخان الديزل المنبعث من عوادم «العبرات» تسري في رئتيه. عندما وصل إلى منطقة الرأس هذه منظر (بوم) كبير يخرج من فم الخور إلى الواسع، وصفحة الماء الممتدة بدت كحلم طويل.. ترانيم الأمواج ومزامير الرحيل تعزف لحن الأسفار البعيدة عبر مسافات الماء، تأخذك الريح عندما تمتد أشرعة مهاجرة مع النسمات وزبد البحر إلى الموانئ الجديدة.. عندما تبحث عن بقايا ذكريات قديمة لا تزال بالذاكرة تحس بنشوة ومرارة الرحيل.
بين الماء والماء يمتد العمر طويلاً ثم ينصهر كالشمع في قارورة. وعندما تدثرت المدينة بالليل أنار خطواته المتعبة انعكاس الأضواء على سطح البحر. كان صوت الأمواج الهادئة على الشاطئ يبعث في قلبه حباً خالداً كهمسات عاشقين في حالة توحد جسدي.
توقف عندما شاهد قارباً صغيراً يعبر الخور بخفة، كان لأصوات المجاذيف لحن شجي بملامسة سطح الماء، تمنى ألا تتوقف المجاذيف عن العمل حتى يستمر اللحن، وعلى سطح قارب قديم على ضفة الخور ألقى بجسده المنهك وكطفل صغير كانت الأمواج تهدّهده وتبعث في نفسه إحساساً بالاطمئنان والحب وكان البحر حارسه. أسلم جفنيه للنوم، وعلى أصوات قوارب الصيادين المقبلة إلى جوف الخور عند الفجر فتح عينيه لتعانقا وتعمدا الماء.. اغتسل ثم سالت قطرات البحر في جوفه أحس بطعم الملوحة لكنه انتعش.
وعلى مقهى صغير كان أول الجالسين تفصله عن رصيف الخور عدة خطوات، طلب من العامل الهندي أن يناوله كوباً من الشاي لكن النادل أجابه أن ينتظر قليلاً حتى يغلي الماء، أعجبته أسراب النورس التي تحوم على سطح الماء لتغوص بداخله لالتقاط بعض الأسماك.
تأمل حشود البشر التي تدفقت إلى سوق السمك.. تأمل أفكاره.. هؤلاء جميعاً يشربون من البحر – البحر أبو الجميع ولا أعتقد أن أحداً من هؤلاء يستطيع أن يبتعد عنه…
قضى ردحاً من الزمن يطوف بامتداد الخور والمباني العتيقة الممتدة على جانبيه. أخذ يحس أن كل شيء قديم في هذا البلد هو امتداد منه.. عندما يطوف بها ينظر بشفقة إلى الزمن الذي أنشب مخالبه في الجدران ومزق العديد منها.. أخذ ينظر إلى يديه فأدرك أن الزمن لم يعفه من الحساب أيضاً. فهذه العروق البارزة والممتدة كأعمدة خشبية في أسقف المباني العتيقة تحكي آثار مقاومة الزمن، والشقوق في الكفين دليل على أنها لم تكن تصفق عاطلة ولم ينم صاحبها على أريكة وثيرة…
يوم هادئ جميل طاف به السكيك القديمة في البلاد، سوق العبرة ثم السكيك المحيط بمسجد السوق الكبير. كان يقف طويلاً أمام المباني القديمة التي تمتد منها (البراجيل) عالياً وبعد أن جال في السوق مر بالسكة الضيقة، ثم سوق التمر القديم، وعند منطقة الرأس عانق جداراً قديماً. ردد أغنية قديمة تقول: «أنا أحب هذه الأرض حباً عظيماً» احتضن الجدار وكأنه يعانق محبوبته بعد فراق طويل. ارتفعت حرارته وتشبث بالجدار، وهناك وجد ممدداً.
رواد المقهى الصغير بجوار سوق السمك الذي اعتاد أن يجلس فيه رددوا عبارات الترحم، استرسلوا في حديث طويل عنه.
- لم يجدوا لديه أي شيء.. ورقة صغيرة أضاع العرق، الكثير من بياناتها وفي خانة المهنة كلمة لم تعرف بالضبط هي قد تكون «عامل أو عاطل». لم يتأكدوا من هويته. لكن أجمل ما فيهم أنهم دفنوه في هذه الأرض…
19/11/1986
عاشق البحر – من المجموعة القصصية (رياح الشمال)