علي عبيد الهاملي

فنجـان آخـر من القهـوة

على حدود الخط الفاصل بين معانقة الحياة ومواجهة المجهول كانت تودعه، أو كان هو الذي يودعها في حقيقة الأمر. عند الهزيع الأخير من الليل، قبل أن يرتفع صوت المؤذن منادياً «الصلاة خير من النوم» كان يحمل عدة صيده، تلك الأدوات القديمة التي لم تطلها يد الحداثة بعد. يتفقد قاربه الخشبي المتهالك.. يحدق جيداً في صفحة الماء.. ينظر بعيداً مخترقا ظلمة الليل.. يحاول أن يسبر غور البحر.. أن يتنبأ بحالة الطقس. يغريه سكون الماء فيرفع راحتيه بالدعاء كي يوفقه الله لصيد يوفر عليه مشقة الخروج يومين أو ثلاثة. وعندما ينزل يديه المعروقتين يتأمل مقدار ما حفرت المجاديف فيهما من خطوط وتضاريس، وما تركت عليهما الحبال والأسلاك من آثار وندوب. يتحسس باطنهما فيخال له أنه يلمس جدار كهف حجري في جوف جبل.. يعجب من لونهما الذي استحال إلى السواد لكثرة ما أطبقتا على ألواح المجاديف.. وما أمسكتا من أسيام القراقير «1». يشعل فتيلة الفنر القديم «2» بعد أن يتأكد أن به من الجاز «3» ما يكفي حتى العودة من الرحلة، ويضعه على سطح مقدمة الزورق كي تتفاداه السفن الكبيرة، وتبتعد عنه التكات «4» الداخلة الى الخور والخارجة منه في هذه الساعة المتأخرة من الليل، حيث يكون النوم قد أطبق على أعين بحارة السفن عادة، وتلاعب النعاس بعيون المناوبين منهم، فلم يعد بمقدورهم رؤية زورق صغير كزورقه، يحسبه الناظر من فوق سفينة كبيرة ريشة سقطت من جناح طائر، تتقاذفها الامواج لتلقي بها حيث شاءت لها الأقدار أن تذهب أو تستقر. ينزل قاربه في البحر، ورويداً رويداً يدفعه في المياه الضحلة حتى يصل الماء إلى ما فوق ركبتيه، ثم يقذف نفسه داخله في حركة يعجز عن أدائها شاب في مقتبل العمر. أما هو فقد أصبح يؤديها بخفة لكثرة ما قام بها على مدى سنوات عمره التي جاوزت الستين.
“فوق الستين” إجابته التي لم تتغير منذ سنوات كلما سأله أحد عن عمره. كم عاماً فوق الستين يا راشد؟ لو كان يعرف لأجاب.. لكنه هو نفسه لا يعرف عدد سنوات عمره، وليس الأمر بذي أهمية كي يجهد نفسه لمعرفته. ففي مدينة ساحلية صغيرة مثل مدينته، في بداية الستينيات من القرن العشرين، ليس مهماً أن يعرف الإنسان عمره، إذ لا شيء سيترتب على ذلك. فليس ثمة قانون معاشات يحال المرء بموجبه للتقاعد عند سن معينة، وليس ثمة وزارة شئون اجتماعية ستدفع له إعانة تساعده على مواجهة أعباء الحياة. الشيء الوحيد الذي سيكون للسن تأثير عليه هو فيما لو تقدم للزواج من فتاة صغيرة وتعرض للسؤال عن سنه.
آآآه.. لماذا تنكأ جرحاً ما فتئ ينزّ عليك يا راشد.. لماذا تفتح أبواباً تتحاشى أن تلمس مقابضها؟ ينظر حوله.. لا شيء سوى الليل يبدد شيئا من ظلمته ضوء القمر المنعكس على صفحة الماء. ينظر ناحية السماء.. يحدد مواقع النجوم ليعرف موقعه من البحر.. يحسب كم من الوقت قد انقضى، وكم تبقى للوصول الى المنطقة التي رمى فيها الدوابي «5» الليلة الماضية. لا شيء سوى النجوم ترشده في عرض البحر، فليس ثمة شجرة أو بيت أو معلم يهتدي به، وليس في قاربه بوصلة أو جهاز يستعين بهما كما يفعل بحارة السفن الكبيرة. على أي حال لم تعد هذه مشكلة لديه، فالقارب نفسه أصبح يعرف طريقه في عرض البحر لكثرة ما أبحر في اتجاهاته المختلفة.
مرة أخرى يعود إلى موضوع السن وتلك العقبة التي يمثلها في طريق تنفيذ الفكرة التي تراوده منذ مدة. هو لا ينكر أنه ليس شاباً كي يغري الفتاة التي سيتقدم لها وأهلها ويجعلهم يوافقون عليه، ولا ينكر أيضاً أنه ليس غنياً كي يشفع له ماله فيتغاضى أهل الفتاة عن كبر سنه إكراماً لخزائنه العامرة. آآآه.. كم كانت حياته ستتغير لو أن حصة أنجبت له ولداً كي يحمل اسمه ويتواصل نسله فلا ينقطع ذكره. يقسم بينه وبين نفسه أنه لم يكن ليعترض لو أنها أنجبت له بنتاً حتى. كان سيقنع نفسه بأن المولود القادم سيكون ولدا. بنتان.. ثلاث بنات.. لا بأس.. سيظل الأمل قائماً. أما أن تصوم تماما عن الإنجاب فهذا أمر فوق طاقته. هي نفسها لم تعترض على فكرة الزواج عندما فاتحها في الأمر، وإن كان قد حاول تغليف الحديث بشيء من المزاح. ولكن أين هي الفتاة التي ترضى به زوجاً والحال هذه؟. فكر في الزواج من امرأة مقاربة له في السن، لكنه خاف أن يكون قد فاتها قطار الإنجاب هي الأخرى، عندها تصبح المصيبة مصيبتين. ناهيك عن نظرات الشماتة التي ستلاحقه بها حصة. ليس مهماً أن تشمت حصة، لكن المهم ألا تشيع أن العيب فيه هو فيصبح في نظر الناس عاقرا. لا.. لا.. حصة أعقل وأنبل من أن تقدم على فعل كهذا. ولكن ما يدريه أنها لن تفعل ذلك؟ أليست هي في النهاية امرأة كسائر النساء؟ ألم يقل الشيخ عبدالرحمن في خطبة الجمعة قبل أيام إن النساء ناقصات عقل ودين؟ لم يفهم ساعتها ما يعنيه الشيخ عبدالرحمن، لكنه يتذكره جيداً. حصة ناقصة أولاد كذلك، فهي عاقر لم تستطع أن تهبه الذرية التي يتمناها.
مضى وقت غير قليل قبل أن يدرك راشد أنه قد وصل إلى المكان الذي ألقى فيه قراقيره، وأن عليه أن يبدأ في سحبها لإفراغ ما بها من أسماك والعودة إلى حيث ينتظر اليزّافة “6” وأصحاب البسطات الصيادين في سوق السمك بفريج الضغاية “7” لشرائها منهم وعرضها للبيع، أو نقلها إلى مناطق أخرى السمك فيها أندر وأغلى. يسحب دوبايته الأولى.. لا بأس، فكمية الأسماك التي فيها معقولة.. وكذلك الثانية والثالثة. الحمد لله.. في البحر خير كثير لم يبخل به يوماً على البشر، رغم أن بعض البشر يبخلون بالخير الذي عندهم. في طريق العودة إلى البر تراوده تلك الأفكار مرة أخرى. ثمة فكرة تلح عليه منذ فترة.. لماذا لا يفعل كما فعل صديقه مطر رغم أنه لم يكن مضطراً مثله، إذ لديه من الأبناء ـ ما شاء الله ـ تسعة؟ يقلّب الفكرة في رأسه مراراً فيستحسنها لأنها وحدها الكفيلة بحل المشكلة التي تقضّ مضجعه وتنغص عليه حياته.
في مساء ذلك اليوم، بعد أن صلى العصر في المسجد، وأمضى ما يقارب الساعة في حديث جانبي مع صديقه مطر، عاد راشد إلى بيته وقال لحصة التي كانت تنتظره بدلة القهوة في حوش البيت كعادتها:
– حصة.. جهزي لي تنكة “8” الملابس، فأنا مسافر مع مطر إلى الهند في المركب التي ستغادر الأسبوع المقبل.
لم تنبس حصة ببنت شفة.. صبت فنجاناً من القهوة تناوله منها راشد.. وفنجاناً آخر أخذت ترتشف منه وهي صامتة تنظر نحو باب البيت. تجمد الفنجان في يد راشد، وارتسمت علامات الدهشة على وجهه، فهذه أول مرة تشرب فيها حصة القهوة المرة منذ أن اقترن بها وضمهما بيت واحد قبل خمسة وثلاثين عاما.
__________
1 ـ أسيام القراقير: الأسيام الأسلاك، والقراقير جمع قرقور، وهو وسيلة صيد مصنوعة من الأسلاك على شكل نصف دائرة قاعدتها مسطحة.
2 ـ الفنر: السراج.
3 – الجاز: الكيروسين.
4 ـ التّكّات: الزوارق ذات المحركات التي تقطر بها الحاويات البحرية.
5 ـ الدوابي: جمع دوباية، وهي القرقور الكبير.
6 ـ اليزّافة: التجار الذين يشترون الأسماك من البحارة، وعادة ما ينقلونها إلى مناطق أخرى.
7 – فريج الضغاية: حي من أحياء مدينة “ديرة” بإمارة دبي. و”الضغوة” طريقة من طرق صيد الأسماك في الإمارات، تستخدم غالبا لصيد أسماك العومة “السردين”.
8 – التنكة: وعاء مصنوع من الصفيح، كانت توضع فيه الملابس قديما.
*قاص وإعلامي إماراتي