إلى (أمي 1978م، أبي 1980م): «كل شوقٍ، وأنتما شروقي».. «رحمه الله، رحم الله، رحم الله».
* * *
في المرآة .. نتجنب وعورة السكوت، ومشقة الكلام، وفي الليلة الماضية عشر، كانت المرآة وحدها جديرة بالابتهاج. الليل مازال قائماً، والأجواء ملبدة بأذان السؤال:
- أنت.. يا بن أبي قذيفة، يا بن أبي قذيفة..!!
- (الساعة الآن تشير إلى الرادعة لدغاً، والعزلة سيدة الطقوس. هو الوهم إذن.. رفيق العُزَّلِ، بشير المتعبين)..!!
- أنت، أيها الفجائعي العتيق: ماذا دهاك.. تشهر اصفرارك، وتردد نشيد الانشطار..؟!
- (يااااه.. كيف أن لهذا الانزواء، صولة الشتاء وبشارة الاقتناص. أظنه الشتات.. أظنه الشتات)..!!
- ويحك يا صامت.. اخلع أبا الهول، واقطع دابر الشوك باليمين.
- (هاه.. لا.. لا، لا، لا.. الساعة الخاسرة هجراً، والمكان حاضنة الغبار. لا مناص.. لا مناص): … …
- مـ.. مـ .. مـ.. مـ.. من؟! من؟ من؟؟ من؟!
- أنت..!!
- أ.. أ.. أ.. أنا؟!
- أجل.. هو أنت!!
- هه.. وكيف هو أنا يا أنت؟!
- بل قل: وكيف هو أنا، يا أنا..؟!
- كيف أنا.. وأنت هو أنت، وأنا هو أنا..؟!
- لا، لا، لا.. لا يا بن أبي قذيفة. لا تُفقد جمجمتك جاذبيتها العقلية، ولا تعرض الوقت للإرهاق. فكلانا نحن يا صامت..!!
- ويحك.. من أَذِنَ لك العبث بهدوئي ومطاردة الأنفاس..؟! من خوّلك إبرام لعبة الانعكاس..؟!
- هدئ من روعك يا فجائعي، وانظر حولك.. في الزوايا، والأسقف، والممرات. اقرأ الحائط الخرافي، وانظر مليّاً.. فستدركك حتماً..!!
- ماذا؟ المرآة؟ أدركني؟! هل … …؟!
- أجل .. المرآة..!!
- حدق، وحدق، وحدق، ثم انظر مليّاً ما يجنيه مبصرك..!!
- هو أنا ولا ريب..!!
- نعم.. هو أنت.!!
- ألم أخبرك يا بن أبي قذيفة؟ ألم أخطرك بأن من يحدّثك هو أنت..!!
- فقط، كيف..؟!
- دعك الآن من كل هذا الهباء، وبادر بمغادرة السكوت وارتياد الكلام.. كأن النسيان ضيفك الليلة..!!
- وما شأني والنسيان..؟! بل ما شأني ووعورة السكوت؟! فأنا، كما تعلم، أو كما نسيت، (صامت بن أبي قذيفة الفجائعي). فلا ارتباط لي بميثاق السكوت يا صوت الـ (… … …)..
- صه.. هو صوتك..!!
- صوتي..!!
- نعم صوتك!! ألا تتبين معالمه، وتتحسسس خصائص الاندثار..؟!
- صوتي..؟! كيف لي اللحاق به وإعادة النصاب إليه؟ كيف لي التقدم به واصطحابه إلى المنبر المعهود؟ كيف لي التحليق به عالياً في فضاءات النزال؟
- آآآه.. يا صوتي!! يا أيها المسافر بلا دراية أو استئذان..!! يا جذوتي وقرة بلاغتي. يا فقيدي، يا صديقي، يا حبيبي.. كيف لي اقتناؤك، وإطلاق سراح الكلمات؟!
- هو شأنك، واجتهاداتك البارعة.. فيما هذا الذي أرى، أظنه الذي تعرف..!!
- أجل.. أظنه الذي يستلقي بين ركبتي مساءً، متدلياً من الجثة المنسوبة إلي..!!
- هو كذلك يا فجائعي..!! هو وجهك.. ثمرة وثوبك، وشهواتك البائسة. فبادر، بافتتاح بيوتات الكلام..!!
- وكيف لي بمشقة الكلام؟! وأنا رجلٌ.. نطق كثيراً، وضحك كثيراً، وهمس كثيراً، كثيراً، كثيراً. فأُسْكِتَ، وأُصْمِتَ، وزُجَّ به في غياهب الكبت والخذلان..؟!
- آآآه.. يا رأسي..!!
- وماذا يضج به رأسك الآن..؟!
- مثل دودة موبوءة، وجدتني ملقى بين أحضان هلاك…
- هاه..!! امض… الليل مازال قائماً، والنافذة توقد ذراعيها لعصافير الكلام..!!
- هل … … … ؟!
- أجل: سورة الكلام.. سورة الكلام.!!
- مضيتُ، أنا المأخوذ على حين عثرة.. مثل دودة موبوءةٍ، وجدتني ملقى بين أحضان هلاك. فأرتطم بقطعة أزلية مبتلة، كنت أبحث عنها في مجرة الوقت، بتحريض من رائحة الكافور، العالقة في قلبي المتوجع، وفي جثة “أمي” الصامتة.. منذ عامي الثاني عشر، وحتى عصري هذا.. بأعوامه، وأشهره، وأسابيعه، ولياليه، وساعاته، ولحظاته.
- هو وجهي، سريرة المتعبين.. تلفحه رياح قحط، تذيبه فقاعات شمس، وتعتريه أنفاس رماد.
- إليك إلي.. إليك إلي…
- ومضيتُ.. أبحث عن (رِدَّةٍ)* عتيقة، كنت أدير بها شقاوة مهذبة، وطفولة لم تمكث طويلاً.. وعن رجل.. له مذاق الصمت وسواعد الذاكرة، وله رائحة الرصاص ولذة الاجتهاد. رجل، له بريق الصوم وخلاصة الطقوس. رجل، يدعى “أبي”.. يمنحني ابتسامة، وصلاة، ثم يمضي.. يمنحني صافرة ويرتحل، إلى امرأة المياه والأوكسجين: “أمي”..!!
- لعله الوصول.. لعله الوصول..!!
- ومضيتُ.. أرتطم، أتعثر، وأنهض. أرتطم وأتعثر، أرتطم و ……، حتى زأرت في وجهي نواقيس دمار، وعششت في أوردتي أسراب رعب وعصافير غياب..!! فمضيتُ.. مثقلاً بنياشين سهاد، ومثخناً بأنفاس وجوم. يجتاحني طوفان ضباب، وتتقاذفني رذاذات سراب.. فيما نظرات تطوق عنقي بموت بطيء. نظرات تتسلل إلى صمتي، فتُسكنُ فيه هياكل رعب وأشباح احتضار..!!
- حزمة ضوء.. حزمة ضوء..!!
- وهناك، من العهد العتيق، يُقْبِلُ امبراطور القلق.. ينسج في ذاكرتي لموت متسلحف، ويتخذ من جثتي مملكة له ووكراً للكوابيس. فمضيتُ: نورس مكلل بالشحوب.. طفح البؤس في مقلتيه، وسئم الصمت من خافقيه.
- أجل: تجنب وعورة السكوت، بدد مشقة الكلام. اقْرَعْ طبول البوح، وشَيِّعْ جيوش التسوية.
- هل… … ..؟!
- أجل: المرآة وحدها جديرة بالابتهاج..!!
- هل… … ..؟!
- أجل: سورة الكلام.. سورة الكلام..!!
- هل… ..؟!
- أجل… …!!
- وإذن..؟!
الفاتحة: … … …
* “الرِّدَّة”: استراحة ظليلة، تستند إلى الحائط الشرقي من بيت الطفولة الأولى، في “الفريج المياني”، من مدينة “الرمس” القديمة: مسقط رأس ي ورؤوس أشقائي.