نورة الخوري

فِتنةُ اللَّيمون – نورة عباس الخوري

اخترق رنينُ المنبّه المتكرّر أُذنَي لمياء، عجّلت لتسكِتَه بإصبعَيها قبل أن يوقِظ زوجَها وابنَتها الصغيرة. فركَت عينيها وأخذت نفساً عميقاً، محاولةً تذكّر أي مرحلة من تجهيز العجينة عليها أن تنهض لإتمامها الآن. لقد اعتادت ضبط المنبّه على أوقاتٍ غريبة من الليل منذ أن بدأت نشاطها الجديد. اتّجهت مترنّحةً ببقايا النوم المبتور إلى المطبخ، وغسلت وجهها في مغسلة الأطباق. لا تريد إشعال الأنوار الفسفوريّة البيضاء وإفساد نومها أكثر، لذا استعانت بمصباح هاتفها.

بصعوبة استطاعت قراءة خربشات الملاحظات التي كتبتها على دفترها في الليلة الماضية – أي قبل ساعتَين تحديداً – بحبرٍ سائلٍ انتشر بعد أن سقطت عليه بقعة زيت وتغبّشت بعض الكلمات. تعبُ النومِ المتقطّع لم يُسعفها، والتركيزُ بدا مستحيلاً، لكنّها ضيّقت عينيها وألحّت على عقلها ليقرأ أو يتذكّر ما كُتِب.

– ما هذه الكلمة، لا أدري.

بعد لحظاتٍ جاء الفتح، وتذكّرت أنّها في مرحلة تحضير العجينة من الخميرة الحامضة التي حضّرَتها آنِفاً.

 خلط

 (الساعة 4 فجراً)

صُنع الخُبز بالخميرة البريّة ليس سهلاً لأيّ خبّاز، وبالأخصّ للهاوي المبتدئ في الأساسيات مثلها. رحلة إنتاج رغيف واحد طويلة مُتشعّبة، جداول المعايير والمواقيت لا تنتهي، بطارية ميزان المطبخ الصغير تحتاج للتبديل مراراً، والأمرّ والأصعب هو الارتباط الزمني والجسدي (والروحي – فالخَبز كالطهو يحتاج إلى “نَفَس”) بالخطوات الكثيرة التي سينتج عنها رغيف متوسّط الحجم من الخبز البَيتي، الصحّي، الآمِن على معدة الأطفال. صحة أطفالها هي ما جعلها تغيّر من نشاطها السابق. توقّفت كلّياً عن العمل في مشروعها الأصلي من أجل ابنها الأكبر الذي بدأ يعاني آلاماً في معدته بسبب ولَعِهِ بتناول الخبز التجاري “المصنَّع”، والذي وصل حدّ إدمانه له.

لهذا السبب أخذت لمياء على عاتقها تعلّم الخَبز بالخميرة الطبيعية الحامضة.

أخذت إجازة من مشروعها الأساسي إلى أجَلٍ غير محَدّد، وتضايق منها زبائنها الدائمون المفتونون بما تبدعه أناملها من حلويات الليمون بأنواعها المختلفة – مشروعٌ ناجح درّ عليها الخير على مدى سنين.

طالت المرطبان الزجاجي من طرف طاولة المطبخ ورفعته إلى ناظريها. تمعّنت في الفقاعات المتكوّنة جرّاء هضم الخمائر الطبيعية – تلك الكائنات الغريبة الكامِنة التي لا تحيا إلّا إذا غُذَّيَت – لبروتينات القمح وإطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون. أُعجِبَت بالفقاعات اليوم – كبيرة، صغيرة، واسعة، مكتظّة ببعضها بعضاً، فاغرة أفواهها كأنها تريد التهام الخميرة الأم. نشّطت لمياء الخميرة قبل ست ساعات، أعطتها غذاءها وتركتها تأكل وتهضم وتكبر. ارتفعت الخميرة داخل المرطبان فوق مستوى رباط المطاط المؤشِّر بعدة سنتيمترات: الدِلالة الأولى على نشاطها الزاخر.

أغمضت عينيها واشتمّتها، الرائحة معيار آخر – رائحة اللبن الحامض هادئة، طفيفة، نظيفة. وشوَشَت خميرَتها:

– أمالفي، أنتِ رائعة اليوم.

أمالفي ليس اسماً غريباً قد تختاره امرأة مثل لمياء بالذات للخميرة الأليفة التي تربّيها؛ فعِشقُها للّيمون فتح على قلبها حُبّ مدينة أمالفي الواقعة على الساحل الإيطالي والمشهورة بأشجار الليمون البريّة. كانت تسترق دقائق فراغها لتحدّق في صور المدينة على شاشة هاتفها، وتختلس الأمنيات فتفتح مواقع حجز التذاكر والفنادق لتعاين تكلفة رحلة سريعة إلى هناك. أحلام اليقظة لها مكانها الساحر في خيال لمياء. وأمالفي، خميرتها المتوارَثة لأكثر من ثلاثة عقود، تذكّرها أيضاً بالمدينة الحالِمة. ثلاثون سنة والنساء يتوارثن جزءاً من الخميرة الأم، حتى صارت بناتها في بيوت مئات النساء، ولمياء تعتبر نفسها واحدة من المتبنيّات المحظوظات. الخمائر الطبيعية من عجائب علم الأحياء، والخَبز بها معجزة الإنسان المنقِذة منذ أيام الفراعنة، إن لم ترجع لأبعد من ذلك.

تُغذِّي لمياء جزءاً من الخميرة في نفس اليوم كل أسبوع. فعلت ذلك نهار اليوم، والليلة تستطيع أن تعمل بالخميرة بعد أن نشِطَت. عيّرَت مقدار الطحين والماء والملح مع كمية الخميرة النَّشِطة، وأخذت تعجن برتابة هادئة، ترسل عبر راحة يديها كمية دفءٍ منتظم تدلّل بها العجين وتحثّه على الارتفاع لاحقاً. هي تهتمّ بالعجائن دائماً ولكنّها في كل مرة تخفق في الحصول على أرغفة مرتفعة مفعمة بالفقاقيع، كفشلِها في أمور أخرى في حياتِها، أبرزها هو ترك وظيفتها ووضع نهاية طوعيّة لمسيرة عملها. كان قراراً قاتلاً لشابة طموحة مثلها، أنهى آمالاً وبتر أحلاماً كبيرة، ولكنّه كان خطوة لا بدّ منها من أجل أبنائها.

طبطبت على الكتلة أمامها، غطّتها بوعاءٍ نصف كرويّ، وانسلّت إلى فراشها وغطائها.

مَدٌّ وطَيٌّ (الساعة 5.30 فجراً)

يقظة أخرى مع انشقاق الفجر، وقبل أن ينطلق المنبّه ذو رنّة صياح ديك أيقظَتها طفلتُها الرضيعة. غمغمت لمياء من نقص النوم وتقطّعه – حالة طبيعية لأي أم لديها طفل صغير، ومعضلة لأم لديها أطفال ومشروع بيتيّ يتطلّب النهوض في أوقات غريبة. في هذه اللحظة شاغبتها أمنية عابرة بالاستسلام للنوم بجانب ابنتها، وترك محاولات تطويع العجين لإنتاج خبز لعائلتها. تذكّرت أنّه الرغيف رقم ثلاثين الذي ستخبزه اليوم في معمعة محاولاتها منذ أن بدأت. إنها تدوّن كل الخطوات والتجارب والنتائج في دفتر خاص، وللحظة تشوّشت الخطوات في بالها، هل تخبز اليوم أم في الغد؟ خالَت أنها حضّرت عجينة منذ فترة بسيطة، نعم نعم.. اليوم يوم الخَبز.

جرّت رجليها إلى المطبخ بكسل ممزوج بتعب حقيقي، الهالات حول عينيها جعلت ملامح وجهها العلويّ تبدو كوجه راكون. تناولت كتلة العجين المختمر لقرابة الساعتين ودلّكتها بين يديها. رفعت الكتلة من وسطها ناحية جسمها، ثم طوَتها على جزئها الخلفي. سرّ النجاح هنا يكمن في عدم تقطُّع العجينة. عليها أن تمدّ وتطوي أربع مرّات، في كل مرة تلفّ الكتلة عكس اتجاه عقارب الساعة، وتعاود المدّ والطيّ، وفي كل مرة تظهر خيوط متكتّلة في العجينة، دلالة على حتميّة فشلها في الخَبز هذه المرة أيضاً.

تنفّست بعمق، سحبت هواءً من الفجر الصافي معكَّراً بتنبّؤات الخُبز الذي لن يرتفع، وزفرَت الخيبة. طوَت صفحة الدفتر بعد أن شخبطت عليها عبارات سخط من حالها – حال الحياة التي أجبرَتها على خوض هذه التجربة التي بدأت بحماسة ثم تخلّلها الإحباط في كل خطوة.

طوَت أيضاً حاجتها للنوم، وصنعت لنفسها كوباً من القهوة السمراء القوية ريثما عدّلت في إعدادات المنبّه.

حدّثها عقلها:

– لا حاجة لك بالخطوة القادمة. مصير العجين واضح، سيفشل ككلّ مرة مضَت.

صفع (بعد 45 دقيقة)

ضغطة قويّة، ثم خروج طفل صامت لم يصدر منه البكاء المتوقّع من وليد خرج للتوّ من بطن أمّه. صفعة تلو الأخرى على ظهره جعلت طبيبة التوليد تشكّ في استجابته، وبالتالي في صحّته. كاد قلبها النابض بقوة أن يسكت، هل سأفقد هذا الطفل أيضاً كما حدث مع طفلي السابق؟ لكنّه فاجأها، دوّى صراخه بين جدران غرفة الولادة الشاحبة، وضحك قلبها.

طمأنتها الطبيبة أنّ المؤشّرات كلها جيدة، وأنه بصحة تامّة، وأنه بإذن الله، سيحيا.
ما لم تتنبّأ الطبيبة هو أنّ هذا الطفل ذاته سيكبر ليعاني بعد سنين من مرض غريب في معدته، مقترن بشراهة عالية لتناول الخبز تصل الإدمان، وأنّ تلك الأم المستلقاة على سرير الولادة الناظرة بين ساقيها بترقّب مذعور ستعاني معه في كبره، وسيتحتّم عليها تغيير سير حياتها من أجل ابنها.

حملت كتلة العجين الرخوة إلى مستوى وجهها، نظرت إليها نظرة إصرارٍ للَحظة، وراحت تصفعها على سطح الطاولة عدّة مرات – تكسّري يا خيوط الجلوتين حتى لا تؤذي معدة ابني.

استراحة طاولة (20 دقيقة)

احتاجت عضلات ذراعيها إلى استراحة بعد خطوات المدّ والطيّ والصفع المتكرّرة، تماماً كحاجة العجينة للراحة والتمدّد بعد الإجراء المُضني الذي وقع عليها. تركت الكتلة الهامدة على الطاولة، وذهبت لتحضّر لنفسها كوب شاي هذه المرة، ألقت فيه شريحة ليمون لإنعاش خلايا عقلها التّعِبة، وأسندت كوعيها إلى الطاولة لتريح أصابعها من عناء العجن. نظرت إلى ساعة الحائط.

– لديّ بعض الوقت قبل إيقاظ الأطفال.

اعتقدت أنّ الراحة ستأتي إذا تفرّغت لبيتها وأبنائها، سيسقط همّ الدوام وترتاح من ثقل كبير. ولكن هيهات؛ أرهقها دَين سيّارتها بعد أن انقطع تدفّق المعاش الثابت، ومصاريف الحياة الباهظة التي باتت تنهك أي ربّ أسرة – زوجها تحديداً، وعلاجات ابنها التي لا يغطّيها التأمين الصحي. صار لزاماً أن تفكّر بدَخلٍ إضافيّ، فكان إطلاق مشروع بيتيّ بسيط. قد يبدو عاديّاً أو تافهاً اليوم، إلّا أنّها حين بدأته قبل أعوام طويلة كانت لمياء متفرّدةً به، وقد ملأت ثغرة بسيطة في سوق الأغذية المُحَبّبة لدى النساء بالذات، فذاع صيتُها كصانعة حلوى مربعات الليمون لا يُعلى عليها ولم يوجد لها منافِس. توليفة النكهات التي أبدعتها جعلت الإقبال على حلوياتها رائجاً؛ فتنفد الكميّات فَور الإعلان عنها. رائحة البيت مبهجة دوماً، كميات من السكّر المدعوك ببشر الليمون، توت أزرق تسيل عصارته الحلوة في الفرن، قشطة طازجة مخفوقة منكّهة بخلاصة الليمون وقطرات من ماء الزهر، وأوراق نعناع صغيرة تزيّن قِمَمها. كانت تلك البهجة من الروائح العطرية تنتقل إلى زبائنها ما إن يفتحوا العُلَب المُرسَلة، حتى ترتسم ابتسامات الهناء على وجوههم حتى قبل تذوّقهم لما طلبوه. وهذا ما يفسّر رجوعهم إليها في كل مرة. كوّنت لمياء من مشروعها البيتيّ الصغير ذلك نواة من الزبائن المخلصين الدائمين، وثروة لا بأس بها، سدّدت بها ديون السيارة في أقل من سنة، وابتاعت فرناً أكبر، وأمّنت احتياج ابنها من المكمّلات الدوائية لمعدته المعطوبة.

قطع وقت راحتها – واستراحة العجين – بكاءُ رضيعتها مع إشراق الشمس. هل تكمل العمل بسرعة وتترك الطفلة تبكي لدقائق؟ فنجاح الخَبز منوطٌ بتوقيت كل مرحلة. لا، الأرواح أهم من الأشياء. تركت ما بيدها وانطلقت إلى غرفة نومها، ناسيةً مُؤقِّتَ المطبخ الصغير الذي تعتمد عليه، ومتغاضية عن التوتّر الذي داهمها عن حتمية الإخفاق مجدّداً.

تشكيل (الساعة 7:10 صباحاً)

مرّت ساعة إضافية والعجينة ما زالت ملقاةً على الطاولة، امتدّت استراحتها إلى أطول بكثير ممّا تحتاجه، وبدأ سطحها يكوّن قشرة يابسة طفيفة ورقيقة. لم تدرك لمياء مرور الوقت. أثناء إرضاعها ابنتها غفَت هي أيضاً، وتأخرت على موعد التشكيل.

أحسّت بوخز في جانب خصرِها، وفتحت عينيها على وجه زوجها يوقظها بإصبعيه.

– تأخّرتِ على موعد إيقاظ الأطفال.

قفزت من سريرها:

– الخميرة! العجينة!

ركضت إلى المطبخ، ولحق هو بها بعد دقائق.

قال بصوت به قليلٌ من الحِدّة.

– عليكِ أن تعيدي النّظر في هوايتك الجديدة. نظر إلى عينيها بصرامة.

– اعتناؤك الزائد بالخَبز قلب وقتَك وأولوياتك رأساً على عقِب.

قال كلمته، وخرج إلى عمله، تاركاً إيّاها في صدمةِ واقعٍ لم تكن تعي عمقَه. هل يقصد أنها أهملَت أبناءها؟ إنها تقوم بكل واجباتها اتجاه البيت والأطفال. هل قصّرت حقّاً ولم تستوعب ذلك إلى أن جاءت الحقيقة على لسان زوجها؟

احتضنت كتلة العجين بين يديها، تلفّها وتضغط طرفها عند كل لفّة براحَتَيها، وضعتها في سلّة التخمير وتركَتها، كما حاولت بوعيٍ ترك الأفكار الرمادية التي اجتاحتها.

انشغلت في الساعات المقبلة باللّعب مع ابنتها الرضيعة ورجوع الأبناء الأكبر من المدرسة، وحين سنحت لها الفرصة للراحة فاجأها صدى كلمات زوجها وباغَتَ فِكرَها.

وردّ عقلُها على ذلك الصدى:

– لِمَ لَم تردّي عليه؟ كان لا بدّ أنّ تذكّريه بصحّة ابنه، لو ذُكِّرَ بتلك الحقيقة لَما وجّه إليكِ تهمة الإهمال. يظنّ أنها هواية جديدة! لم يكفّ عن السخرية من إبداعات الليمون حين بدأتِها وحتى بعد أن درّت عليكِ مالاً وأراحته من بعض الأعباء المادية، وها هو يكمل استنكاره لمشاريع البيت. عليكِ أن تردّدي عليه مراراً الحقيقة التي يختار هو أن لا يراها.

أسكتَت حديث نفسِها بسرعة، لا وقت للمَلام والجَلد؛ فعلى قائمة مهامِها اليوم أمور لا يستطيع إتمامها غيرها: موعد طبيب الأسنان لابنها الأكبر، مشروع العلوم مع ابنتها، زيارة والدها المريض، إحضار أغراض البيت، وطبعاً الاهتمام بالرضيعة اللّصيقة. في خضمّ فوضى المهام التي لا تنتهي، سقطت عن بالِها ملاحظات الخَبز، ونسِيَت تماماً توقيت التشكيل الثاني للرغيف.

تخمير بارد (أثناء الليل)

أخّرت نومها وغالبَت التعب تلك الليلة حتى تنقذ ما أفسدته خلال اليوم، عَمداً أو خطأً أو انشغالاً. توجّهت إلى المطبخ وناظرت العجينة مرتاحة في سلَّتِها، وتمنّت لو أنها تنعم بتلك الراحة في فراشها.

– لا طاقة لديّ لدورة أخرى من التشكيل والانتظار. سأبيّتها كما هي.
بسأمٍ واضح حَشَرَت سلّة العجين داخل الثلاجة المزدحمة، ورجعت إلى فراشِها، تسبّ وتلعن في داخلها قرارها المتحمّس قبل ثلاثة أشهر لاتّخاذ الخَبز بالخميرة الحامضة مشروعاً إضافيّاً لها، وكأنّ الانشغال بالبيت والأطفال وحلويات الليمون المختلفة لم يأكل من وقتها وعافيتها كفايةً.

إلى الفرن (اللحظة المنتظَرة)

في الصباح صاح منبّهان كانت لمياء قد ضبطتهما لتضمن نهوضَها المبكّر، على أمل أن تأمَن مزيداً من كلام زوجها الجارح. انتبهت إلى أنه يوم إجازة الأسبوع، وسيطول نوم الجميع، إلّاها.

سخّنت الفرن إلى أعلى درجة سيليزية، وقلبت العجينة الدائرية، المزخرفة بخطوط حلزونية بفعل طَبعة السلّة، في قِدْرٍ حديديّ زهريّ يستحمل تلك الحرارة. لا تبدو العجينة رخوة متماسكة كما يجب أن تكون. تنهّدت ببوادر إحباط وهي تكشط وجه العجينة بمِشرَط حاد، شقّت فتحة تسمح للأبخرة بالارتفاع والخروج، وبذلك يرتفع الخبز – هذا إن كان التخمير والتعامل معه من البداية ناجحاً. توقعاتها في كل خطوة كانت تنبئ بفشل محتوم. شكّت لمياء في نجاح الخَبز، وشكّت إصبعها خطأً بطرف المشرط الحادّ. خرجت منها صرخة، طار منها المشرط ووقع، ملطّخاً الأرض ببقعتَين من دمها الطازج. قبضت على إصبعها المجروح وزمّت شفتيها من حرقة الألم. حصل كل شيءٍ بسرعة. تداركت، فحصت العجينة ولم تجد أي دماء عليها أو حواليها. دفعت بالقِدر الثقيلة إلى قلب الفرن الحامي، وذهبت تعالج جرحها.
أي لعنةٍ هذه التي تلاحقها في كلّ تجربة خَبزٍ بالخميرة البريّة الموقَّرة عالمياً؟ هل هو حظُّها البائس؟ أم حوبة زوجها الممتعض من انشغالها الدائم؟ أم سخط زبائنها المخلصين الذين سُحِروا وافتُتِنوا بنكهة الليمون في حلوياتها على مدى أعوامٍ واستاؤوا من توقّفها؟ دارت تلك الأفكار في رأسها، وفي وسط زوبعة المشاعر الناتجة عزمَت بينها بين ونفسِها:

– هذه آخر محاولة، ثلاثون مرة كافية! إن فشِل هذا الرغيف، سأرجع إلى الليمون، فهو لم يخذلني قط. وسأتدبّر مرض ابني بطريقة أخرى.

قطع عليها استياءها وانتظارها دخول طفليها إلى المطبخ. دخلا مندَفِعَين، يستنشقان الهواء بمبالغة واضحة وطفولة عفويّة. لم تتمالك لمياء نفسها وضحكت برغم النبض المؤلم في إصبعها.

قال ابنها الأكبر:

– الرائحة رائعة يا ماما! هل سنأكل الخبز الطازج؟

دغدغت بطنه تداعبه:

– إذا نجح هذه المرة، نعم!

دخل الأب وراءهما حاملاً الطفلة الرضيعة، أغمض عينيه وابتسم، ممثّلاً انتشاءً بشيءٍ سَحَره:

– رائحة الخُبز، إنها آسِرة. متى سيجهز؟

أخرجت لمياء رغيف السَّعد الذي جمع أسرتها الصغيرة حول مائدة المطبخ – منظره ناجح، قشرته ذهبية مقرمشة، شقُّ المشرط مرتفع شامخ وأطرافه ملسوعة بلهب خفيف. إلى الآن كل شيء يبدو مثالياً. قلبت الخُبز الساخن ونقرَت عليه. صوت التجويف بالداخل قرعَ بخفّة، يطمئنُها أنّ قلب الخبزة مفعمٌ بفقاعات الهواء كما يجب. أقنعت الأطفال بالانتظار لنصف ساعة ريثما يبرُد الخبز.

بقي مؤشّرٌ أخير. خفق قلبها. طالت سكّينة مسنّنة وبدأت بالتقطيع ببطءٍ وترقُّب، وما إن انفصلت أول شريحة حتى بان ارتفاع الرغيف وظهرت فقاقيع الداخل جليّة، جميلة.

ابتسم زوجها في نظرة إعجاب.

– هذا أجمل رغيف رأيته في حياتي.

اشتبكت أصابع الطفلين على الشريحة الأولى، الأسرع بينهما سيظفر بها. أسرعت الأم في تقطيع شرائح طازجة للجميع قبل أن يبدأ عراكهما المعتاد.
رمقَت زوجها بنظرة فخرٍ مُدغَمة بتحدٍّ لطيف. فهمَها في الحال:
– ما زلتُ أفضّل الحلويات من يديكِ.

إنه يعرف إصرار زوجته ومثابرتها، وقد راقبها على مدى ثلاثة أشهر ولم يعجبه حالها وحال البيت كما صرّح لها. قد يكون هذا الموقف تلميحاً لبِقاً منه لها يحثّها على ترك فوضى الخَبز بالخميرة البريّة الحامضة رغم نجاحها أخيراً اليوم، وحجّته في ذلك أنّها لا تعدو أكثر من هواية رائجة ذاع صيتها عالمياً باسم الصحّة العامة. فهمَت لمياء محاولته لثَنيِها عن اتّباع شغفها في أمور تحبّ تجربتها، وعلى الرغم من اعتيادها على غياب الكياسة من أسلوب زوجها، إلاّ أنّها هذه المرة قرّرت ألاّ يفسد فرحتها شيء.

طالت مرطبان الزجاج ذا المطّاط البرتقالي من الثلاجة، وحدّقَت في الملصق الذي خطّت عليه اسم “أمالفي” بقلم أخضر عشبي.

– سأرجع إلى الليمون يا عزيزي، ولكنّي سأعتني بأمالفي من أجل ابنِنا. ومن يدري، قد أستخدم خميرتي الأثيرة في مخبوزات الليمون الشهيرة!

(المركز الثالث)