ناصر الظاهري

وكر المستعرضين! – ناصر الظاهري

في المكان العامر بعلية القوم، في البهو الفندقي الكبير، في رواق كان يعتبر في يوم من الأيام وكراً من أوكار الجواسيس في العالم، في مدينة لا يمكن أن تتصورها إلا أن تكون بيروت، يلتقي اناس كثيرون كل يوم بعد العصر من مختلف جهات الدنيا، هناك من يستعرض بلاغته وفصاحته، مثلما يستعرض آخر أسنانه الجديدة، بعدما فتح الله عليه قريباً، وهناك من يستعرض أهميته الاجتماعية أوهكذا يوحي لناس المدينة العابرين، وهناك من يستعرض ملابسه التي شريت معظمها على عجل، ومن دكاكين متقاربة، وهناك من يستعرض مهاراته في النصب، ورخص الاحتيال، ولو خرج ظافراً بوعد، وهناك من يستعرض قدراته وممتلكاته، ويوميء بالفهم العميق لعازفة البيانو المضطربة دورتها الشهرية من خلال ابتسامة فاترة غبراء، وهناك من يستعرض رجولته التي لا تنم عن خير كثير، وهناك من يستعرض خليجيته، مخرجاً الكلمات بطريقة لولبية، مقطّرة، ومعطرة، هناك من يستعرضن أنوثتهن، وإغواء عطورهن، وملبوساتهن من ساعات ومجوهرات وحقائب، وهناك من يستعرضن بحراسهن الأمنيين الذين يكرهون المزينين، ومِحْنَهم البارد، في ذاك البهو جميعهم عارضون ويستعرضون.

خلق كبير، ومختلق عجيب يعج به المكان المرمري الذي يشعرك لأول وهلة أنه بوابة شيطانية لدهليز باخوس أو فرجة واسعة لمشروع أرملة لا تطيق البكاء كثيراً.
تلمح شخصين متعاكسين حول طاولتين متقاربتين، وتيقن أن هناك حواراً بـ” القفا” بينهما، بين دكتور شبه أكاديمي، رقيق الجلد، ونظره لا يساعده بعيداً، ولنظارته ثقل تشعر به، والغليون ما كان يبرح فمه، بدلته البيج واسعة، متهدلة الأكتاف، تشك أنه مصاب بالسكري من النوع الثاني، والذي يبدو من خلالها أنه يشتغل في هيئة الأمم المتحدة أو إحدى اللجان الكثيرة التابعة لها.
الشخص الآخر يبدو أن أباه كان وزيراً سابقاً أو من ذاك النوع من الوزراء الذين يراهم مجلس الوزراء مرة واحدة، حين تمر البلد بظروف استثنائية، ويخدمه الحظ كثيراً في تلك الأوقات، يبدو شخصية متعافية، يميزها السيجار الغالي، وجاكيت الجلد الذي لا تعرف قيمته إلا عن قرب، شعر أصابعه مرتب بطريقة ربانية، تعتقد بأنك ظلمته، لا شكله يوحي أن أباه كان رئيس وزراء سابقاً، وتم ذلك بشكل سريع أو أن أمه أعدته لهذا المنصب لكن الزمن والظروف لم يخدماه في بلده كثيراً، بدا اليوم وبعد أن رافق تجاراً من الخليج، ورجال أعمال جدداً وطارئين، أنه لم يفلح في تجارته، حيث لم يصب منها إلا الرحلات الصيفية إلى لندن وفرنسا وجنيف، وتلك السهرات العابثة التي تجعله يتقلب ما بقي من الليل، مهرولاً وراء إغفاءة، وتشعره بالحموضة الحارقة صباحاً.
تعود إلى الشخص الأول الذي لابد من أن يظل أحد منتبهاً له كتلميذ نجيب، ويبقى هو يحادث مجالسيه، وأكثرهم انتباهاً بنت ترتدي الحجاب الملون، ليس من مدة طويلة.
الشخص الثاني لا بد أن يكون بنطلونه رصاصياً ومفصلاً عند ترزي قديم ظل يهرم في محله وحده أو اشتراه جاهزاً، ولكي يلبسه عبثت به يد خياط حتى ضبطته على مقاسه.

الناس الذين مع الدكتور شبه الأكاديمي، كلهم يشربون شاياً فندقياً، مثل شاي المستشفيات والمطارات، والذين مع رجل الأعمال طبعاً لا يشربون شاياً.

وجه رجل الأعمال طويل، لا ينم عن فقر أبداً، وحدهما خدا الدكتور مائلان إلى الجفاف والتصحّر، الدكتور شربه الماء الفاتر، ولا ينسى حبة الدواء المسائية التي لا تزال زوجته توصيه ألاّ ينساها، والتي تكون عادة ملفوفة، وفي جيب جاكيته الأيمن.

الذين مع الدكتور حين يغادرهم، يذكرونه بالخير، ويتذاكرون ما قاله، ويشددون على بعض عباراته الحكيمة، والذين مع رجل الأعمال ما أن يهم ويغادرهم حتى يمطروه بسبابهم، ونميمتهم التي تتعداه إلى زوجته وفحولته.

الذين مع الدكتور روائحهم روائح طلاب أتوا من أماكن بعيدة، وبطريقة مستعجلة، وثمة عطور أنثوية قاومت منذ الصباح الباكر حضور الندوات، وركوب سيارات الأجرة. روائح الذين مع رجل الأعمال صابون وكولونيا ما بعد الحلاقة، وروائح سيجار، وسجائر أميركية، مختلطة بعطورهم، هي عادة هدايا من زوجات غير مخلصات دائماً.

بين الرجلين كان يجلس إنسان خبيث يحصي عليهما دقات قلبيهما، ونبضات أعصابهما، وأنفاسهما الطائرة، ليسجل هذا الحوار الصامت!