- أنا وزوربا
أن ألتقي يوما ببطل رواية، حلم صعب التصديق. لكنني رأيته، زوربا اليوناني، بطل رواية ” نيكوس كازانتزاكيس“، يرقص في جزيرة كريت اليونانية، في حانة ” تافرن” نفسها. كان يستهل رقصته على نغمات البوزوكي ببطء، ثم ينتشي مع تسارع ايقاعاته ويشتد حتى يبدأ في الوثب مثل طائر سيقلع عن الأرض وينشر أجنحته في السماء.
سمعته يصرخ:” إذا ضاقت الدنيا بالهموم، عليك بالرقص.. ارقص.. ارقص، والناس يهللون ويصفقون له، فيزداد حماسة وجنونا ووثبا.
“زوربا” أمامي، بشعره الأبيض الاملس وقامته الطويلة وعيناه اللامعتان، يرقص وكنت أظن “نيكوس” مبالغا في وصفه، لكنه رجل سعيد حقا، لا تعرف إن كان يدرك معنى الحزن بالأصل، يبدد حزنه حينما يقفز به إلى الأعلى ويعود أكثر سعادة وقد نثره في الهواء وتخلص منه.
عندما اقترب مني، ابتسمت له، وكان بودي أن أسأله عما جعله يصرف أموال “باسيل” على غانية بدلا من استثمارها في مشروع ناجح، ولما فعلت ضحك حتى شقت القهقهة جانبي فمه وقال بأنه لم يفعل ذلك، ولم يكن ليفعلها، لأنه زوربا المنتشي بحب الحياة، لا يهمه مال ولا يفكر بمشروع أنجح من الرقص..
ثم مد يده ناحيتي قائلا:
-جربي اللحظة، وفكري إن ترغبي ملء جيوبك بالمال، أو بالسعادة.
ولم يتوقف “زوربا” عن الرقص إلا ليرقص!
(2) في فيينا
أخبرني بأنه قد حجز لي حجرة في عمق التاريخ، في فندق أمبريال* الذي كان قصرا فاخرا، يمثل العظمة الامبراطورية في فيينا منذ 140 عاماً. وقال لي بأنني سألقى فيه ترحيبا امبراطوريا يليق بأميرة فانا ذاهبة لأسكن في مقر الإقامة الخاصة لأمير فورتمبيرغ، الذي تحول من قصر فاخر رابض فوق رينغ فيينا الرائعة إلى فندق لا يسكنه الا الملوك والرؤساء والمشاهير، ثم همس بأن جدران القصر تطوي أسرارا من الحكايات، وربما ستسمعين شيئا منها الليلة وتسجلي أول قصة رعب ملكية.
أشار الى أعلى قمة في الدرج المصنوع من المرمر قائلا:
تخيلي كم مرة وقف” الديوك فورتمبيرغ” عام 1863 على قمة الدرج هناك مستقبلا ضيوفه بابتسامة ساحرة ولم يكن يعلم أنه سيختفي من الصورة ذات يوم لتحل مكانه على القمة تلك الحسناء المرمرية التي تستقبل ضيوف الفندق في عام 1873 وربما لم يكن سيصدق أن الجنود الروس سيقيمون فيه بعد هزيمة النازية في فيينا ما بين 1945 الى 1955 وسيترك أحدهم توقيعه مثل ذكرى في القصر.
في ذلك المساء، خرجت كل تلك الصور الضخمة التي تجسد شخصيات أصحاب القصر من اطاراتها واجتمعت عند قمة الدرج، تبتسم، وتومئ لي بينما كنت صاعدة الى الطابق الثالث، حيث تقع حجرتي . التفت باحثة عن الموظفين في قاعة الاستقبال، لكن الصمت كان يستبد بالفضاء، فكأن كل شيء تلاشى الى غير عودة، وكأني تركت وحدي في مواجهة مصيري أمام الديوك وزوجته أو ربما عشيقته.
لم يكن أمامي سوى المضي في الصعود، فأنا الآن أتلاشى من حاضري لأذوب خلف جدران القصر المرمرية ولم يعد بمقدوري سوى ابتلاع صرخة الخوف، عندما مد الديوك فورتمبيرغ يده ناحيتي، وشدني اليه لنرقص.
هل كان حلما أم ليلة مرعبة أغرقتني في كابوس، تجلى مثل حلم ساحر؟ لا أدري، لكنني رقصت ولم أتوقف عن الرقص حتى شق فجر فيينا عتمة الحجرة وكأنه لم يغرب أبدا.
- مع زائرة المتنبي
تلك الزائرة اللعوب التي أسهدت عيون المتنبي يوما فاجأتني الليلة، ولم تكن قد أبلغتني بموعد حضورها كما فعلت معه وكنت أظنها لن تطيل البقاء، وتعود أدراجها، وقد تحصنت منها بكل ما يمكنني بأدوية وعلاجات، لكنها كانت جريئة إلى درجة لا توصف، فقد قفزت إلى سريري وعانقتني لأدرك كم صرت أحمقا أمامها.
تسللت إلى جسدي رغما عني، لا يردعها خوف اقتحام عتمة غريب، ولا يمنعها جهلها بي.
وكنت لا أراها، لكنني أشم رائحة مرارتها وأشعر بأنفاسها اللاذعة تفح فوق عنقي. ضمتني إلى صدرها وبدأت تراقصني، وأنا أرتعد بين ذراعيها مثل ملدوغ. لم ترحمني طوال ساعات ولم تسمح لي بالفرار من حضنها ولا التوقف عن الرقص حتى دفنت أسفل شوقها المتوقد.
تمنيت لو أنها تحررني بعد انتهاء الرقصة وتدعني أتنسم هواء الخلاص، لكنها كانت قد دقت أوتاد خيمتها، ونصبتها فوق فراش أشعلت فيه حرائقا لا تنطفئ.
جاء الصباح وتوقعت أن تغادر خشية انكشاف أمرها، لكنها ومع هطول الظلام تسللت خارجة من أسفل الفراش، لتغرز أسنانها في عنقي وتسرق مني ليلة أخرى تشتعل بعشقها المحموم.