باسمکِ نادیْتُ

تشابكت أيديهم.. وامتزجت الأصابع، فكونت شبكة سميكة ثم تغير الانفعال وقد عبثت الأصابع بعضها ببعض.. ليشع الدفء في الأجساد كلها!!

يجنح الخيال.. تتوه.. الأفكار.. تتصاعد.. تتبعثر في ذرات الهواء.. تطير إلى أي مكان.. إلى كل مكان.. ثم تخفق الأفئدة، لتخرس الألسن.. ثم يجنح الخيال أيضاً.. تتركز الأفكار.. تهبط. تستقر بين خلايا العقل.. يهدأ خفقان القلوب.. تتحرك الألسنة، وتخرج.. الكلمات.. تهمس الفاتنة: إلى متى سننتظر؟!.. يتنهد العاشق الولهان تخرج كلماته بدورها:

.. ألا ترين بنفسك؟!

الأفكار تتخبط في مجاهيل الغبطة والألم.. ترتطم بصخور توتره.. يتساءل بدوره بينه وبين نفسه!!

كم يؤسفني يا ساحرتي أن أجيب عن سؤالك بسؤال.. لكن هل هناك حل…؟

السيارات تمر من أمامها.. خالية، والسائق يسير بسرعة فائقة لا ينظر يميناً أو شمالاً، حتى لا يصطدم بالواقع.. فهناك الأذرع الممدودة والألسنة والكلمات العنيفة، والأعصاب المتوترة.. كلها تآزرت ضده، أو هكذا يتخيل السائق، تنادي.. أغثنا نحن في طريقك.. لماذا تفضل الموت.

… لعلك أثريت إلى حد التعامل مع سيارة الأجرة كأنها سيارة خاصة.. ما الذي دهاك يا سائق؟! والثاني والثالث والخامس والعاشر؟!.. أهناك اضطراب أو إضراب؟!

عيناه تتابعان الطريق، وخصوصاً سيارات الأجرة، وكلمات والدة خطيبته تلاحقه.. لا تتأخر «أميرة» أمانة في عنقك.. ميعاد المتنزهات معروف، والمسافة من المنزل إليها معروفة أيضاً.. هذه أمسية الأحد.. ووسط المدينة يكثر الزحام بشكل ملحوظ، فالمحال مفتوحة… احترس يا بني.. ضعها بين عينيك.. اسمع:

… أوه.. لقد مللت.. اسمعي دعينا نسير قليلاً..

قالت والتوتر يلفها بخيمته.. لم لا ننتظر قليلاً؟! ماذا دهاك يا عزيزتي؟!.. ألم تكن هذه رغبتي؟!

لعل الملل انتقل من قلبي وعقلي إليك.. يا لها من عدالة ومع كل، لم لا ننتظر حقاً؟!

عيناه تلمحان كائناً غريباً يحتمي في الزقاق الضيق، لعله مثلهما يعاني.. بل هو حقاً يعاني، يرنو إليها.. ماذا؟!.. ربما يخصه وحده بالمشاهدة قد يكون من عوامل الترفيه فالمصيبة عندما تصيب واحداً وآخر وثالثاً، وآخرين.. ربما يهون المصاب!!

كيف تنتقل أفكاره بعد أن تحولت إلى عش.. إلى هذا الكائن.. لكن لم التعجب، أليس من خصائص الأعشاش سهولة التنقل؟!.. فاتنته التي تحمّل الكثير من أجلها.. تحصل على البطولة الثانية أيعقل هذا؟!.. كان غرامهما في هذا الزمان يمثل نمطاً غريباً تزاملا معاً في المعهد، أحس بجاذبيتها تماماً كقطعة المغناطيس التي تتعامل معها والدته في أثناء حياكتها للملابس تلتقط بضعة دبابيس في لمح البصر.. ربما ابتسامتها.. ربما نغمة صوتها. ربما طريقة سيرها.. ما أجمل الخيال عندما يمتزج بالواقع وما أروع الواقع عندما يكتمل بأجنحة الأماني.. التي تطير به في سماوات الجمال والعشق والأحلام!!

في هذا العمر.. قد تتغلب الأمنيات على الواقع الملموس.. في هذا العمر لا يحس الشاب بأنه شاب.. ولو أدرك لفضل الارتداد إلى بطن أمه ليولد من جديد!!

ما أجمل الشتاء!.. وما أجمل البراعم في أكمامها التي ترنو إليها بوله.. الورود المتفتحة، فالبراعم تحتوي على أسرارها داخل نفسها.. تتنفس عطرها الذي يتركز من وإلى داخلها.. يا ويله من يقتطع البرعم من غصنه.. هل يبرد العشق في حالة من الحالات؟ وكيف؟ هل يمكن أن يدوم الغرام بعد أن يكتمل.. وترتوي الأفئدة وتنغلق الجفون وتلتئم الشفاه، ويستريح التنفس؟!.. ما مقومات الحب الحقيقي؟!.. أهي الغريزة عندما تعوي ويتردد صداها في الفضاء؟! حينما يثرثر الشاب بالألفاظ الجارحة والحركات المثيرة؟!

ما الفارق إذن بين الحيوانات والبشر؟!.. هناك رقصات للحيوان في فترات التزاوج تسمى رقصة الغزل.. لعل الحيوان تفوق على الإنسان في الارتقاء بحسه إلى أجواء الخيال.. الطيور تتعامل بالأغنيات والشدو.. تتحاور أو ربما ينادي طرف على طرفه الآخر.. الذي يوغل في صمته وسكونه. تتابع ذبذبات احتياجاته وتتكون غلالة رفيعة ناعمة ذات لون سماوي تحد من رغبات الطرف الآخر!!

… الحب حياة.. والحياة حس وسمو.. فمن الذي تفوق على الآخر؟!

… إنه الآن يقف وسط الشارع مع حبيبته التي طالما تغنى بجمالها.. دوّن مشاعره في أوراق خاصة. سرعان ما تلقفها الهواء.. فشاعت وشاعت، ولكن.. يا لها من شائعات، لأن الخبر يبصم على القلوب قبل الألسنة!!

… الليل قارص.. والبطون خاوية… والأفئدة تبتسم متهكمة شأن وقت الغزل.. العشق لا يدفئ الأجساد العارية.. الغرام لا يطعم بطوناً فارغة. الهيام لا يأوي المخبأين في بيوت تحميهم وتظلهم.. حان وقت العمل.. الكائن الذي يقف في الزقاق يرنو إليهما.. بل هو قادم!

… قطعاً. يحدد بصره إليه هو.. فالمأساة واحدة.. شباب حائر.. قدرات يملكونها لا تملأ إلا بواطنهم.. هؤلاء الذين يتعاملون مع السيارات الخاصة، منهم شباب.. لكنهم قلة، ترى ما حكاياتهم؟!.. بعضهم تقمص دور الشاطر حسن والشاطر علي.. لجأ إلى الدروب الملتوية تماماً كأحلامه.. التي تحقق له الكثير، فهو يقطن قصراً ويقضي الشتاء في «سدوره»، وينتقل في الصيف إلى المزارع بالنخيل.. أو السفر خارج موطنه.. يتنقل من ميناء إلى ميناء من العالم.. على أجنحة طائر عملاق.. وعندما يزهد يهبط تحت جناحي الطائر الذي يملأ حجمه رقعة كبيرة من ضباب السماء.. ينقشع الضباب وتصفو السماء.. ثم تتفتح عيناه على رؤية جدران غرفة نومه ذات اللون القاني..

يثرثر البعض.. هؤلاء الشباب يختلسون يزورون.. ينصبون.. أيعقل هذا؟!.. ألكي تتحقق الأحلام يصحو المرء على مر الواقع؟!.. وما هي بصائرهم.. السجون تصبح ملاذاً، يتخرج فيه الشاب أو الكهل يغزو ميادين الدنيا.. ليرتد ثانية إلى زنزانته حيث التخطيط وتكنولوجيا التخريب!

خطيبته الفاتنة مازالت تهمس في أذنه.. دعنا ننتظر وسط الطريق والبرد قارس وكلمات أمها تحوّلت إلى قرط ثابت في حلمة أذنه.. ارعَها يا بني.. احمِها من شر نفسك.. ومن شر النفاثات في العقد.. لحظة.. لحظة ثمينة نادرة كانت من قبل أمنية.. تماماً كانا يحلمان بها معاً وهما في لحظة المام براعم الحب.. واللحظة الحاضرة لم تعد ثمينة.. اللقاء لم يعد محرماً لأنه أضاء.. ومن خلال إشعاعاته.. لمحهما البعض ثم معظم

الكل!!

ومازالا متعرضين لقوارص البرد.. وسيارات الأجرة تمر أمامهما.. تبلغهما رسالة موحدة.. موجودون.. لكننا لا نتجاوب إلا مع أصحاب الأردية الأجنبية.. العملات الصعبة، والمجهود يضعف والدخل يقوى!!

هذه هي الحياة الحديثة.. ارتفاع مستوى المعيشة.. ضنك الإنتاج.. كم كانت حكاوي جدته تسعده.. كنا يا بني نركل في «البودقلة».. و«أبوتفاحة».. كنا نسوة بدينات!!.. لقلة الحركة، واللغو الذي كان يحيط بنا.. لو أننا هناك كنا لا نترك العمل.. تسألني كيف ولِمَ نمشي؟!.. لنأكل ونرمرم!!.. لنضحك وقد يستهوينا اللهو. نسابق بعضنا بعضاً.. ثم نذهب إلى البحر نغتسل.. ونعتصر.. ولا يدهشك أننا كنا سمّيعة للأغاني عن طريق «البشتختة» الجرامافون.. ومن الراديو «أبو باتري».. ثم العمال، والسواقين، وضيوف المدينة.. وأهل القرية.. هؤلاء جميعاً، لا يخلو المنزل منهم.. هدوء.. استتباب أمن.. الخير يعم على الجميع.. سألها حفيدها وعلق في الوقت نفسه.. ألم تكن حياتكم يا جدتي تمثل نوعاً غريباً من التتابع الآلي الرتيب؟! شخصت إليه في استنكار وذهول – وماذا تعني يا حفيدي العزيز؟!.. لا أفهمك، صدقني.. يصدمها بلا شك.. فهي من جيل عفا عليه الزمن… تماماً كالنقوش على أحجار قديمة.. تراث يتداوله الخلف عن السلف!!

… الشيء الوحيد الذي يفقده الجيل المعاصر هو الخير.. الحظ الإنساني.. أبعده عن هذا الكائن الرابض في الزقاق.. يشخص إليه.. يناديه. يخصه بالتحديد. لا يدري أنه مبادله المشاعر نفسها، يريدان معاً اختراق السدود.. كل السدود!!

أزمة المساكن.. أزمة الطعام.. أزمة المواصلات ولو أنها لا تشكل أزمة، ولكن للمستقبل.. موات بعد حياة رتيبة مملة.. عهد حدّته، عفا عليه الزمن.. العهد الحاضر طفرة إلى الأمام.. لابد للوصول إلى الهدف أن تتحسن الرؤية.. ينضبط السلاح.. تمهد الأرضية لتتحول إلى بساط صلب يقف عليه الإنسان الخليجي في الإمارات، فارداً قامته شاخصاً إلى الهدف المحدد تمهيداً لأساس جديد ترتفع فوقه التطلعات.. ترتفع وترتفع حتى تطاول السحاب!!

.. لابد من العمل.. لابد من العمل.. سحقاً للتراخي.. وداعاً للأحلام وعصر التنهدات والتقلب على فراش الجمر.. عاونيني يا فتاتي.. أن نملأ بطوننا.. هاتي كفك لنبني معاً عشاً يظلل ورثتنا قبلنا.. لن نشكو.. ففي الشكوى هبوط وضآلة.. لن نتشنج.. لأن اعتصار النفس موات.. نحن نريد أن نحيا.. خطوة واحدة حاسمة.. فيها مفتاح الخلاص!

انتظرنا يا حبيبتي.. ولكم انتظرنا.. أتشاهدين؟! انتظرنا يا حبيبتي.. ولكم انتظرنا، أتشاهدين هذا الرابض في الزقاق المعتم مقيداً برباط يعتقد صاحبه أنه رباط العمر، لكن ما أسهل الإقدام على هذا التصرف!!

اقترب الشاب بحذر من الكائن الرابض في الزقاق خرج صوته نابحاً، مجلجلاً.. ياه.. إنه كلب وفيّ، يملك عينين واسعتين، لا يملك قطع العظم أو السمك.. يملك جسداً رشيقاً معافى من الأمراض.. يملك عزيمة تكاد تضاهي قوته… صلابتها.. ما أجمل أن ينتقل مع فاتنته بجانب كلب.. لا.. لن يقطعا فيافي الصحراء، بل سيخترقان شوارع هذه المدينة الهادئة، الساحرة.. قد يسمونها حادثة سرقة كلب.. لكنهم لا يعلمون.. فك حصار سجين.. يربض في الزقاق، إلى حين عودة صاحبه!!.. الفاتنة تستنكر، الحبيبة تعترض تفضل الانتظار..

الشاب يهمس لها. لو أحصينا ساعات الانتظار.. مضت سفن العمر رابضة على الموانئ ترسل دخان طعامها من فوهات براكين أعماقها.. الحبيبة تنفعل وتقول دعك من تحذيرات أمي. الهدوء يحتويه.. دقات قلبه تتوالى بنغمة موسيقية رائعة، تنفسه يتوازن شهيقه وزفيره.. الكلب ينبح، يلقي رأسه مع كف الشاب الوادعة، يخترق الكلب شوارع المدينة الهادئة في ملحمة عبور متأنية، تصدح الموسيقى ممتزجة بعويل المالك الذي يكتشف سرقة كلبه.. هزات رأس الجدة تتابع وابتسامتها تتسع.. الشاب يرفع هامته بهمة من باطنه!!.. نداؤنا للموقف.. لليوم.. للغد.. لم يواتني الوحي لأدرك أن ما كان يعوزني خطوة واحدة.. واحدة فقط، غير أنها ثابتة.. فباسمك ناديت!!

باسمکِ نادیْتُ

جمعة الفيروز.. من المجموعة القصصية (علياء وهموم سالم البحار)