تناثرت بيوت السعف أمام فوهة البحر. عندما يفتح فمه لتخرج زفراته وتنهداته الملتهبة، تتدارى عرش النخيل محاولة تحاشي غضبه، وعندما يبتسم ويفرد أسنانه البيضاء ويمد لسانه اللامع على امتداد البصر ويلعق الشمس المشرقة أو الآفلة تتهادى قوارب الصيادين لتخرج قوتها من جوفه، ويتقافز الصغار على امتداد الشاطئ فرحاً كأفراخ السلاحف البحرية عندما تتسابق إلى تسلق الماء، على ضربات أكف العاصفة فوق هامة منازل السعف.
تتمتم العجائز بعبارات الرجاء والرحمة ويضيق صدر الصيادين لغضب البحر، بينما ينتشي الصغار، حيث طيور النورس تأتي بأسراب كبيرة عند الفجر تبحث عن أسماك السردين… ويسعد الصغار باصطيادها.
عندما تنفس الصباح مرسلاً أنشودة نهارية لتدغدغ العيون المنغمسة النوم، حملت الأقدام الصغيرة الجسد الناحل الذي هرول مسرعاً نحو البحر، كانت (فينوس) تستحم بزبد البحر.. ومن فوق هضاب الأمواج العالية خفقت أجنحة طيور الماء.. وكالترس كان يقاوم صهيل الريح والبرد مندفعاً بعزيمة قوية لا تلين حتى استقر تحت قارب خشبي، تحصن به بعد أن نصب فخاخه، بانتظار أن تعلق بها بعض طيور النورس، وكأرنب صغير كان يرتعد برداً بينما تصفر ريح الشمال والأمواج تمد أذرعها الطويلة لتمسح الشاطئ من المخلفات وتعيدها إلى جوف الماء الذي يبصقها بعيداً عن أذرع الموج.
مد الصغير رأسه ليستنشق هواءً جديداً بعد أن امتلأت رئتاه من رائحة زيت السمك المنبعث من القارب. عرائس البحر سجدن عند الصباح الباكر بينما خرجت (فينوس) من زبد البحر.
أسراب النورس مدت أشرعة ريشها مستسلمة للريح، تحملها على امتداد الشاطئ وتمد أعناقها فاحصة الرمال باحثة عن قوتها.
كان الصغير يرمقها بتحفز وفرح، تهاوت الأسراب على السردينة التي وضعها الصغير بالفخ، وعندما علق أحد الطيور قفز يعدو بكل قواه واضعاً طرف ثوبه بين أسنانه والرمال تتطاير من خلفه، كانت رجلاه الصغيرتان الناحلتان تحفران الرمل المبلل بالماء وتعلق بعض مخلفات الشاطئ بقدميه وهو غير مبالٍ، نشوة الفوز والانتصار تدفعه لأن يواصل العدو، حتى أمسك بطائر النورس. ربط جناحيه ببعضهما ثم قبل رأسه، وانطلق يحمل بشارة الظفر والاعتداد بالنفس إلى أمه، كان ينادي بأعلى صوته من قبل بلوغ المنزل، وانطلق إخوته الصغار نحوه ثم صاحبوه في عدوه حتى وقف أمام والدته وعرض عليها صيده، فرحت، وقبلته بفرح بعد أن مسحت بيدها رأسه الصغير.
نصحه والده أن يقص أجنحة الطائر إذا رغب في الاحتفاظ به.
- الطيور لا تحتمل الاعتقال عليك بمراقبتها!
كان الصبي يراقب طائره كل صباح ويقدم إليه ما يحتاج من طعام وشراب. ذات يوم. تلبدت فيه السحب، كانت لوحة رائعة في قبة السماء خيوط الشمس تمتد لتحيط جدارية المزن، وقطرات المطر المتفرقة تأتي كحبات لؤلؤ، وأسراب الطيور تكاد تلامس المزن في لوحة استعراضية ساحرة نفض النورس أجنحته التي بدأت تنمو، قفز عدة مرات، ثم استقل نسمة قوية جاءت من الشمال وحلّق نحو أسراب الطيور في السماء.
24/5/1987
النورس
إبراهيم مبارك.. من المجموعة القصصية (رياح الشمال)