د. عادل العناز

القصة في الإمارات من هواجس البدايات إلى الهوية الجمالية الخاصة

     لا مشاحة في أن أغلب الأعمال الأدبية والفنية تقيم صلاتٍ وطيدةً مع البيئة المحلية للمبدع، حتى وإن بدت -هذه الأعمال- متخطيةً للحدود المحلية التي يصطبغ فيها الإبداع بألوان الهوية وتأثيرات الثقافة… قد يبدو هذا القول متجاوزا في سرديات النقد الأدبي الحديث… بيد أن هناك من الاستثناءات المتفردة ما يجعل من هذا الطرح الخاص بتجاذبات الأدب والبيئة مؤبدا، أو ذا جِدةٍ وتفاعل دائمين. ولا أدل على هذا المعطى من استحضار المنجز القصصي الإماراتي المعاصر الذي ما انفك يؤكد –في العقدين الأخيرين- تجذّر العلاقات التفاعلية بين السرد والبيئة؛ فكيف انغمست القصة الإماراتية المعاصرة في أسئلة محيطها الحضارية؟ وإلى أي حدّ استطاعت التجسير بين موروثات الأصالة وأفق المعاصرة؟

    لا غرابة في أن تنقاد القصة الإماراتية -اليوم- بموجب أسئلة محيطها الاجتماعي والحضاري، إلى التجاوب الإبداعي الخلاق مع تحديات الإنسانية … ذلك أن عددا من التجارب القصصية ما فتئت تتفاعل محتوياتُها الحكائية مع تطلعات كونية من قبيل قضايا: تقبّل الاختلاف، والتسامح، والتعايش، والسلام، ونبذ العنصرية… مما يؤكد أن تجدد المضامين الإبداعية والجمالية لهذا الجنس نابع –في الأصل- من التأثيرات الناجمة عن البيئة، وعن فلسفة دولة الإمارات في رهاناتها الحضارية المتمركزة حول الإنسان، فضلا عن سعيها الحثيث إلى الريادة العالمية في المجالات التي تدفع بأفق العالم إلى الازدهار أخلاقيا، واقتصاديا، واجتماعيا إلخ.

    انطلاقا من هذا السياق السوسيو- حضاري، يمكن الوقوف عند بعض الظواهر الثقافية التي تكتنف هذا المنجز، من بينها؛ أن القصة الإماراتية المعاصرة تجاوزت هواجس البدايات، إلى بلورة هوية الجمالية الخاصة، وذلك بفضل ثلة من التجارب الإبداعية التي جعلت من هذا الجنس الأدبي ملاذا للتعبير عن التحديات التاريخية الكبرى التي انخرط فيها المواطن الإماراتي؛ إذ غدت المجاميع القصصية مدونة سردية تحفل بالأسئلة الثقافية والفلسفية المورِّقة، لا للإنسان الإماراتي فحسب، وإنما للإنسانية جمعاء… أما من جهة أخرى، يفضي تأمل الدور الريادي الذي لعبته المرأة في بلورة معالم هذا المنجز، وقضاياه، إلى استنتاج مفاده: أن أسباب الامتداد الثقافي للقصة الإماراتية المعاصرة في العالم العربي يعزى أولا إلى تنويع مستويات إنتاجها وتلقيها بداية من قصص الأطفال وأصحاب الهمم، ومرورا باليافعين، ووصولا إلى الكبار، كما يعزى إلى الجهود الإبداعية المبذولة من طرف القاصات الإماراتيات مثلما هو متجل في تجربة: لولوة المنصوري، وشيماء المرزوقي، وفاطمة المزروعي، ومريم الساعدي وغيرهن ممن اجتهدن في تطوير أساليب الحكي والتخييل والترميز… وبكل ما يسعف هذا الجنس الأدبي في تجويد مداخل التسريد الجمالي للقضايا الكونية التي تستأثر بالمشترك الإنساني.

    وفي هذا الصدد، يمكننا استجلاء نماذج دالة على الظواهر الآنفة بالعودة –تمثيلا لا حصرا- إلى قصة “الدينوراف” (2017) لحصة المهيري؛ فعلى الرغم من نزوعها التربوي والأخلاقي اللذين تقتضيهما الأعمال الإبداعية الموجهة للأطفال، إلا أن ذلك لم يثنِ صاحبتها عن الإبداع الخلاق، سواء في تحدي إعادة تسريد قضايا تقبّل الاختلاف والتسامح والتعايش على نحو رمزي، أم في نجاحها المتكبر في تخييل هذه المقتضيات الإنسانية على نحو يؤمن فيه الأطفال بضرورة احترام الاختلاف… ولعل الدافع الذي يثوي خلف التمثيل بهذه التجربة السردية التي تُوّجت بجائزة المغفور له الشيخ زايد عام 2018؛ هو أنها تجربة تجسّد كيف أمكن للمنجز القصصي الإماراتي المعاصر أن يحقق أشكالا من التواصل المثمر بين البيئة المحلية، والتطلعات الوجودية الكونية، كما هو متعين في قصة “الدينوراف” التي تصل رمزيا بين مقومات الثقافة الإماراتية الرائدة في التسامح، وطبيعة التحديات الأممية التي تدعو إلى التعايش ونبذ التطرّف… ومعنى ذلك أن ثنائية المحلي والكوني انتقلت –في القصة الإماراتية- من العلاقة القائمة على الجدل والتدافع… إلى العلاقة القائمة على التواصل والتواشج؛ بحيث يقود المحليّ إلى الكوني، والكوني إلى المحلي.

   استنادا إلى المعطيات السابقة، نرى أن القصة الإماراتية ماضية في رسم فلسفة أنموذجها الثقافي، من خلال الانخراط المتنوع في ترميز القضايا الإنسانية الكونية، وتشرّب الإشكالات المجتمعة… وهو ما يدل على أغلب الإنتاجات السردية عامة، والقصصية خاصة،  قد تخطت –منذ أكثر من عقدين- ارتباك البدايات… وتوجس الانتقالات الحضارية… ذلك أن القصة الإماراتية أمست –في زمنا الراهن- تصدّر هويتها الإبداعية المتميزة، مثلما أضحت تسد حاجة الثقافة العربية إلى استهلاك خطابات هذا الجنس، وخاصة على مستوى الأعمال الإبداعية الموجهة إلى الناشئة من الأطفال واليافعين. ولعل في هذه الإشارات المقتضبة ما يدعو إلى تعميق النقاش النقدي والأكاديمي العربي حول المحددات الشكلية والجوهرية لهذه التجربة السردية المتفردة، عبر مقاربة مختلف خصائصها السردية، والتمثيلية، والجمالية، التي أثبتت نجاعتها الأدبية في تطوير أشكال الاشتغال بعدد من الخطابات… سواء أكانت مرتبطة بالقيم الوطنية، أم الإنسانية، أم الثقافية.