هبّ أبناء قرية (عون) يتطايرون كالفراش المبثوث من كل حدب وصوب بعدما تنامى لهم صراخ الطارش (سالم) منفلتاً كالشرارة بين البيوت صائحاً بصوته الحاد:
- يا أهل الفزعات، خنجر آل مطر سقط في البئر، وعياله عيد وسعيد يتذابحون عليه. تلاحقوا عليهم.
طيرت صيحته بلابل نومهم، وحمائم راحتهم حينما أوشكوا على احتضان غفوتهم تحت سدرة ظهيرة أول أيام رمضان القائظ، واستطاع الخبر الساري أن ينبش جيوب فضولهم الغافية، ويحفر شقوق حياتهم الهادئة، فسرتْ مياه الحياة في عروقهم، وتدفقت دماء الحيوية في أوصالهم.. خرجوا زرافات وفرادى ملبين نداء الاستغاثة، متدافعين بكل نشاطهم نحو البئر الجاثمة كعجوز منسية عند طرف القرية البعيد.
فمنذ عامين وأكثر من حادثة الشيخ مطر لم يسمعوا عن حادثة أخرى غير حادثة شجار الأخوين عند البئر. هزّ الخبر أوصال قريتهم الوادعة تحت ظلال أشجار السدر، والنخيل، والليمون. تلك القرية الغافية تحت أنغام خرير مياه الأفلاج، وهديل الحمام، وزقزقة العصافير، ونسمات الهواء الباردة في الصباحات الباكرة. فقريتهم تلتحف خيوط الهدوء والسلام التي نسجت سقوف أزمنتهم، ودثار أيامهم، ولم يعكر انسياب حياتهم الوديعة المسالمة سوى نعيب أسراب الغربان التي استوطنت أطراف القرية قريباً من البئر، فتجمعت في مجموعات كثيرة، تُصدر نعيقها المزعج في فضاء القرية الساكن.
وحادثة مثل حادثة سقوط خنجر آل مطر في البئر القديمة، وعراك الأخوين عيد وسعيد عند البئر ذاتها، كفيلة بتمزيق خيوط الهدوء الحريرية الناعمة، وتشريد طيور السكينة، وقضّ مضاجع السلام التي اشتهر بها أهل القرية وناسها.
خرجت الجموع تتسابق فيها النساء قبل الرجال، والشيوخ قبل الشباب، كلٌّ حريص على أن يكون أول الواصلين، وأول المعاينين للحادثة بأم عينيه التي في رأسه، ليفهم الحكاية، ويعلنها بعد حين، وينشرها بين الأهالي، ويتكفل بسرد تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، كونه أول الشاهدين، وأول من سبر الحادثة على أرض الواقع، وربما تُعزى له الإفادة الأصلية لسنوات متتالية، والشهادة الحق حين تتعدد الروايات، وتتفرع الحكايات المنسوبة. وهكذا فإن من يصل أولاً فإنه ينال شرف الرواية الكاملة، والتصدير في مجالس القرية. فقلَّ ما يعنّ للقرية من حوادث وحكايات تدخل سجل حياتهم، وتحرك برك هدوئهم الأزلي، وتجمعهم في مجالس الحديث.
في الطريق التي تقودهم نحو البئر بدأ الجميع متحمساً في ضم خيوط الروايات، وتزويد الخبر بكثير من القصص المتناسلة من مخيلتهم الشعبية، وذاكرتهم القوية، فكانت (أم خريطان) أول من تكلم بعدما عدّلت من بُرقعها اللامع، وأحكمت سدل العباءة على جسدها النحيل، متشبذة بطرفيها حتى لا تعيق سيرها المتتابع:
- واخزياه عيال مطر يتذابحون، ولم يمر على وفاة والدهم المسكين أكثر من سنة بعد أن انتكس على وجهه، وسقط في تلك البئر المنحوسة. ما الذي حملهم للذهاب إلى تلك البقعة المشؤومة، وهناك انصرع أبوهم في قاعها، وانتشلوه بعد أسبوع بعدما تحلل، وتأكلت أطرافه وعيونه، لو كنت مكانهم ما عبرت بجوارها أبداً.
تطوعت جارتها (اليازية بنت خلفان) التي انضمت للركب السريع بتبرير الأمر، وهي
تتعمد التنهد بصوت مسموع:
ربما الولد حنّ لمكان موت والده، هناك حيث سقط في قاعها، فالقلب يشتاق أحياناً للأرض التي تحمل ذكرى أحبابه. حتى لو كانت أرض شؤم وقبور. نحن لم نعرف الحكاية الكاملة بعد. طيّر الطارش قلوبنا الضعيفة، ولم يطفئ حرارة أفئدتنا بالخبر اليقين، ولا زلنا نجهل الحكاية الكاملة.
التقط (بو وضحان) خيط الحديث المبطن، وهو يستذكر قصة الحب التي لم تكتمل مع اليازية، وكانت البئر شاهدة على حكايتهم الغامضة. صار يخب مسرعاً ليجاورها وهو يعافر حصى ورمل الظهيرة بنعاله المهترئة، وبدت محبوبته أمامه مثل شابة في الثلاثينات من عمرها في مشيتها السريعة، تكلم دون أن يلتفت صوبها مخافة أن تفضحه نظراته الولهى بعدما تحركت لواعجه:
- والله هذه البئر مخيفة، ويشوبها الكثير من الغموض، فكم من الحكايات صارت حولها وانتهت بنهايات مؤلمة لا تسرّ صديقاً ولا حبيباً البئر فيها أسرار كثيرة لا يعلمها إلا رب العالمين وحين نصل سنعرف الحقيقة كاملة.
همست اليازية بصوت خفيض:
- هذه بئر شوم ونحس، حمانا الله من شرها.
التقوا في طريقهم بالشيخ (صالح) إمام المسجد، وقد قوّس بعينيه الحادّتين يعاين الجماعة التي أقبلت بصغيرها وكبيرها تقصده. أشار لهم بعصاه ألا يتوقفوا عن السير، وانضم للركب بعد أن ألقى السلام بسرعة، وصار يخب معهم في مشيته مبرّراً خروجه من معتكفه الرمضاني، وهي من عاداته السنوية التي لا يخرقها إلا لسبب قوي وحدث عظیم:
- الإصلاح بين الأخوان، والسير في حاجات الناس أعزّ وأفضل عند الله من الاعتكاف والقيام. لولا جديّة الأمر وخطورته، ما خرجت من مصلاي واعتكافي.
هزّ القوم رؤوسهم مؤيدين ومعجبين بحكمته ورأيه صمت قليلا وهو يمسح قطرات العرق الصغيرة المتجمعة فوق جهته، ثم أردف بقوله:
- أفي رمضان يتقاتل الأخوان؟ الناس في عبادة وصوم وصلاة، وعيال مطر يتذابحان؟ ماذا تركنا للعدو؟ لماذا ندع الشامتين يهزؤون بنا، ونحن قوم سلام وصلاح؟ أبعد أن عُرفنا بين الناس بسلامة الصدر، وصلاح الحال يأتي عيال مطر يقلبون حالنا، ويعكّرون صفو حياتنا؟ إنها فتنة الدنيا والمال، وإني لأظنهم يتقاتلون على خنجر أبيهم بعدما ورثوه منه، وأوصى بعدم بيعه ونقله، فمنذ ذلك اليوم والأخوان لم يستقر لهما حال، ولم يقر لهما قرار. خنجرٌ صغيرٌ يفرّق بينهما ويشتت قلبيهما. أعوذ بالله من فتنة المال، وسوء الوبال.
تحدث أحد الرجال بصوت أجش:
- يقولون إن الخنجر فيه أثر من سحر هاروت وماروت، وأن عائلة مطر تلاحقها النكبات والبلايا بتأثيره الغامض منذ أن توارثوه وحتى يومنا هذا، وما شجار الأخوين إلا من شؤم الخنجر، وسحره.
أمال القوم برؤوسهم ناحية الإمام منتظرين رأيه الأكيد على الكلام الذي قذفه الرجل. ضم الإمام لحيته بقبضة يده ومسدها بتأنٍّ وتروٍّ، وحكّ أنفه وهو يتكلم بحذر:
- يجوز والله أعلم تلقيت هذا الكلام من فم الشيخ مطر نفسه حين حدثني عن عجائب الخنجر، وأسرّ لي بوجود قوة سحرية تكمن في مقبضه. ولا أدري لِمَ يحتفظ به الأخوان بعدما علما بشرّه المستطير، وأثره العجيب لو يتركانه في قاع البئر ملفوظاً، ويكفيان نفسيهما مصائبه لكان خيراً لهما ولنا.
تقدمت أم خريطان قريباً من جمع الرجال معقّبةً على كلام الإمام بخبرٍ آخر أضاف
للحكاية نكهة مثيرة:
- تقول جدتي – رحمها الله – إن الخنجر من كنوز النبي سليمان – عليه السلام – وسرقته الجن بعد موته، وأنّ سرّ الخنجر يكمن في الياقوتة الحمراء التي تزين مقبضه، وحلفت يميناً مغلّظة أنها رأت الياقوتة المنصوفة تتوسطها عينان محمرتان من لهب أحمر.
هزّ الجميع رؤوسهم متعجبين من تلك الحكاية رغم سماعهم للرواية ذاتها عشرات المرات، وبصيغ متعددة. وبدأت الأحاديث الجانبية تسري بينهم، وارتفع لغطهم إلى أن وصلوا للمكان بعد أن أجهدهم المشي والصيام في الظهيرة القائظة.
كان (حيان بن عيلان) أول الواصلين بحكم قرب منزله من البئر، حين ارتجّ سقف بيته بصوت الطارش الذي انبرى متحمساً لمهمته المنسية، ولينقل الخبر الخطير على بساط صوته الصادح الحاد.
تجمّع الأهالي، وقد أسبلت علامات الإحباط واليأس أسمالها على وجوههم المتعرقة، ولهاثهم المتقطع، واحتطبت صدورهم بجذوة الغيظ بعدما وجدوا شخصاً آخر قد سبقهم لأرض الحدث العظيم، أحاطوا بحيان الذي وقف حائلاً بين الأخوين (عيد) و(سعيد) يمنعهما من التشابك والتلاسن، منتظراً نجدة الأهالي وعونهم.
صاح أكبر الرجال وهو يلتقط أنفاسه المتهدجة بعد جريٍ سريع موجهاً حديثه لحيان والشابين بانفعال:
- قلعتمونا من مراقدنا، وزلزلتم الأرض من تحت أقدامنا، وها أنتم تتشاجرون كما الأعداء، لا يحجمكم حكيم، ولا يوقف هذر ألسنتكم كبير، ولا يمنعكم إيمانكم بربكم ولا شهركم العظيم، فما الذي أجرى العداوة بينكم، وأنتم أبناء رجل واحد، ومن بطن أم واحدة؟
اندفع حيان شارحاً للجموع الحكاية من مبتدئها، فقد جاءته الفرصة الذهبية على طبق من حظٍّ سعيد فهو اليوم المتحدث الرسمي، وسينال شرف التقديم، وعرض الشهادة، وهو يدرك حجم المسؤولية التي وهبتها له الأقدار حين وصل مبكراً قبل الآخرين. كان عقله يعمل بسرعة عجيبة من أجل حبك الكلام المصفوف كما يفعل إمام قريتهم الفصيح، حتى ينال إعجاب القوم وثناءهم، ويصيّر حديث الناس لأيام، وربما لشهور لفصاحته، وكلامه المنمق، ورصانته البالغة في سرد الحكاية دون زيادة، ولا نقصان، وربما تتفوق في أهميتها على الحدث الجلل:
يا أهل عون الكرام، عيّنوا من الله خيراً، ولا تَدَعوا الشيطان يلعب بلحانا وشواربنا، فنحن مضرب المثل في الصبر والحكمة والسلام. وكل القرى المجاورة تحسدنا على نقاء حياتنا، وصفاء قلوبنا التي تشبه صفاء ماء الفلج، ورهافة مشاعرنا كما أوراق شجرنا، فهل بعد هذا نجعل إبليس الغويّ المبين يعبث بنا، ويتلاعب بقلوبنا، ويفتت روابط علاقاتنا؟ هؤلاء أبناء الشيخ مطر، وأنتم أدرى بهم مني.. دخل بينهما إبليس اللعين. وعقد رايته بين الأخوين، ونصب لهم الكمائن، وزيّن لهم الفتنة، فتقاتلوا وتناحروا، وكان الأخ يفتك بأخيه وعضيده، فكنت أول الشاهدين، ركضت على صراخ الطارش وشهدت الكلام وما صار، وكيف جرت الأمور والأقدار. عيدٌ أسقط خنجرهم العتيق في البئر العميقة، وأخوه سعيد لامه، وكسّر مجاديفه، وكلمة من هنا، وكلمة من هناك أوقد فيها إبليس نار الشرار، وتعارك الأخوان، وتشابكت أيديهما بعدما اختلفت قلوبهما، وهذا الذي صار كما رأته عيناي التي في رأسي، وشهدته بنفسي.
أنهى كلامه، وهو يلتقط أنفاسه، ويبلل شفتيه بلسانه الجاف بعدما عصرته حرارة الصوم. وراقَ له كثيراً كلامه المصفوف بنغمة الشاهد الحكيم. وجالَ ببصره الحادتين في سيماء الملأ، وتسلّق وجوههم المرهقة منقّباً عن ملامح تفصح عن الإعجاب بما تفرّد بقوله، وبما جادت به قريحته في موقف صعب مثل هذا. مرّ وقت قبل أن ينطق رجل يسمى (البادي) بما يشبه تدحرج الحصى من جبل صخري:
- شياطين وإبليس في رمضان؟ ما فهمنا؟ ألم تصفّد بالسلاسل والأغلال؟ ما من شيطان سواهما. يعني خنجر الشيخ يرقد في قاع البئر، والابنان الضّالان يتشاجران في نهار رمضان؟ ونحن مجتمعون لمثل هذا الأمر الحقير في أول أيام صومنا بعدما تركنا بيوتنا وشؤوننا؟ هل يعقل هذا يا أهل عون؟
صاح الأخ الأكبر منتهزاً الفرصة لشرح الموقف بشكل أوضح:
- من سفاهة أخي وطيشه، وطمعه بما ليس له، فكم من مرة حذرته ألا يفرط في الخنجر، فهو ميراث عائلتنا، ووصية أبينا أن تحفظه ونصونه كما فعل هو من قبل، لكن الجشع أعمى بصيرة أخي، فسوّلت له نفسه اللئيمة سرقته، وها هو يسقط في شِراك فعلته النكراء فلا بارك الله فيه.
انبرى أصغر الأخوين مدافعاً عن نفسه بعدما بدأت فصول المحاكمة تنجلي عن اتهامه بالضّلال والسّفه:
- والله سقط على حين غفلة منّي، ولم أتعمد أخذه وسرقته، لقد حدثت لي أشياء غريبة وعجيبة، ولن يصدقني أحد منكم لو سمعها.
أسرت الكلمات الأخيرة عقول الرجال والنساء، ولجمهم الفضول بلجام الصمت واشرأبت الرؤوس ملتفتة لتستمع لرواية الأخ الصغير الذي صار يبتلع ريقه، وهو يسارق بنظراته التائهة بين البئر والناس:
- كنت مستلقياً في أمان الله في مجلس والدي، حين سقطت عيناي على الخنجر المعلق في وسط المجلس. كانت ياقوتة الخنجر تشع بريقاً غامضاً يسلب عقل وعين من يحدّق فيه، وشعرت بأن الخنجر يناديني، وما وعيت بنفسي إلا وأنا أتناوله مسلوب الإرادة. وظل الصوت الغامض يهمس في داخلي بأن أذهب للبئر، كأنها غواية مجهولة تقودني على غير وعي منّي. وكلما اقتربت من البئر كانت الياقوتة تلتمع وتبرق كنجمة سهيل ولم يتوقف النداء الغامض إلا حين حدقت في قعرها العميق لأرى وميضاً يشبه بريق الياقوتة، فإذا بالخنجر يتفلّت من يدي وحده، ويطير أمامي، ويسقط في القاع العميقة، واختفى في ظلماتها المتراكبة. وعندما وصل الخبر لأخي سعيد، جنّ جنونه وطار يلحق بي وهو يرعد غضباً، وتعارك معي، وشدّ في الكلام والتُّهم. وظنّ بي الظنون بأني أنوي سرقته وبيعه للدلالين والتجار ولم يصدق حكايتي بسقوطه في القاع. وهذا والله ما حدث يا أخوان.
سرت همهمات وأحاديث جانبية بين مصدق ومكذب، وبدأت الأفواه تلوك الحكاية بتفاصيلها المتفرقة، وتلضمها في خيط رواية جديدة، ارتفع اللغط حتى تداخلت الأصوات، واحتد النقاش.
انتبه رجل من القوم لدخول وقت صلاة العصر، وأشار للإمام للأفق. فرفع الإمام عصاه مسكتاً الجميع، ووقف متقدماً صفوف الرجال وشرع بالأذان والإقامة، وسرعان ما اصطف الباقون، وتابعوا إمامهم في صلاته. تربع الإمام في جلسته بعدما انتهى من صلاته ملتفتاً للقوم قائلاً:
- اذكروا ربكم، لقد طالت القصة وهي قصيرة، والحل هو أن يلتقط أحدهم الخنجر من البئر حتى نصدق الرواية، وننهي الحرب بين الأخوين ونعود لبيوتنا آمنين قبل المغيب فمن يتطوع بالنزول لقاعها؟
صمت الجميع بغتةً، ولم يرغب أحد في أن يتقدم لهذه المغامرة الخطرة، فلا تزال حكاية انتشال جثة أبيهم من البئر تتمشى في ذاكرتهم حية، وما حصل لحميدان بعد تلك الحادثة من هلوسات جعلته يلقي بنفسه من الجبل ليتردى صريعاً يمنعهم من التفكير في النزول في البئر الغامضة.
انتهت النسوة الحاضرات للنقاش الدائر، فانطلق صوت (أم خريطان) موجهة حديثها للإمام بصوت حازم يسمعه الجميع:
- البئر عميقة ومخيفة، ولا يمكن أن نجازف بأحد من أبنائنا من أجل خنجر آل مطر. من أسقطها هو الذي يخرجها. مشكلتهم، وهم أولى بحل عقدتها ما لنا من الأمر سوى الفرجة، والمشاهدة.
أيدت النساء اقتراح صاحبتهن، وعلت أصواتهن برفض نزول أزواجهن وأبنائهن لقاع البئر خوفاً على سلامتهم.
انبسطت أسارير الشباب، وتراخت أيدي الرجال، وجذب الإمام لحيته يمسدها، وتلاقت الآراء واتفقت على نزول الابن عيد للبئر مادام هو المتسبب في أصل المشكلة، مع تصديقهم لروايته الغريبة.
قاس الرجال حجمه وطوله، وصدر الأمر بنزوله للبئر بعدما ربطوا الحبل في وسطه وأضحى الرجال يشجعونه ويطمئنونه بقوة الحبل، ومتانة العقدة، وثبات جذبهم له في حين ظل الإمام يقرأ آيات الرقية والتحصين، وينفث في صدر عيد، ويهدئ من روعه.
أما الشباب فقد تسوّروا البئر يقايسون عمقها، ويتبارون بقدرتهم على النزول والخروج في زمن قصير، ومنهم من راهن على النزول، والخروج بنفس واحد، في حين انكمشت النساء متحلقات تحت شجرة قريبة والإشادة بصاحبتهن الشجاعة، والتسلّي بسرد الحوادث التي مرت على القرية، حتى ينتهي الرجال من مهمتهم، ويعودوا جميعاً.
بعد مضي وقت قصير خرج عيد من البئر مبتهجاً بصدق روايته، وهو يمسك بالخنجر، ملوحاً به بشعورٍ من الزهو والراحة، وتحلّق حوله الشباب يعاينون الخنجر، ويتفحصون مقبضه القوي. خنس أخوه سعيد برهة من الزمن، ثم اندفع بكل قوته يناطح محاولاً التقاط الخنجر من يد أخيه، ويصرخ بغضب بعدم أهليته لامتلاكه، ولكنّ عيداً رفض أن يفلته من يده، وتشبث بمقبضه بإصرار وعناد، وهو يدفع بصدر أخيه حائلاً دون التقاطه للخنجر. وفي نوبة غضب محمومة غرز نصل الخنجر في خاصرة أخيه الذي بدأ يتطوّح متألماً، وانفجرت نافورة الدم غزيرة وسط ذهول الرجال وصراخ النساء، واندفاعهن لالتقاط أبنائهن خوفاً من دخولهم في المشاجرة الدموية.
خرَّ الأخ صريعاً بين أقدام الرجال، وقد جحظت عيناه، وتصلّب وجهه وارتعش عدة رعشات وهو يلفظ آخر أنفاسه. وقف الجميع مذهولين لا ينطقون، وتسمرت أقدامهم. وكبّلتهم المفاجأة، وربطت على عقولهم ودارت عيونهم المفجوعة بين الجسد الهامد، والأخ الجاني، الذي سرعان ما قذف بالخنجر في البشر، وارتمى على جسد أخيه يتمرغ في دمائه باكياً.
بعد هذه الحادثة تغضّن وجه القرية، وتبدلت قلوب أهلها الخضراء، وجفّت الأفلاج وهاجرت الطيور من أعشاشها، ويبستْ جذوع أشجار الليمون والسدر وظلت الناس تسترجع الحكاية الحزينة، وتتناقل مصير الأخ القاتل الذي هام على وجهه يهذي بجريمته إلى أن شوهد جثة تقتات منها أسراب الغربان بجوار البئر المشؤومة وبقي الجميع يتبارى في سرد أحداثها كما رأوها بأم عيونهم التي في رؤوسهم، وكل منهم يؤكد بأنه يمتلك القصة الكاملة.