عائشة سلطان

ورود ليلى – عائشة سلطان

كان الحي الذي سكناه سنوات السبعينيات واحدًا من أقدم أحياء المدينة وأغربها، بيوته بسيطة متقاربة بشكل يجعل الناظر يظن أن لا فواصل بين المنازل، أو كأنها بيت واحد تناسلت منه بقية البيوت، حتى إنه لا مسافة تُذكر بينها. كثير من تلك البيوت، وخاصة بيوت العائلة الواحدة، ترتبط فيما بينها بنظام الفُرَج أو الفتحات التي تُصنع في جدران الأسوار المشتركة، ما يُسهِّل لأهل أي بيت الدخول والخروج إليه عبر تلك الفُرَج دون الحاجة لاستخدام بوابات المداخل. والأغرب، أن بوابات المنازل كلها كانت تطل على البحر، وهذه ظاهرة أقرب إلى أن تكون من غرائب تخطيط المدن!

الحقيقة، كما يرويها كبار السن ممن شهدوا تأسيس الحي في بداياته أو نُقلت لهم عبر روايات أجدادهم، أن العائلات القليلة التي أسست الحي منذ مائة عام، عندما قرروا تشييد بيوتهم، اتفقوا على أن يجعلوا البحر قبلتهم، وقد نجحوا في ذلك وصاروا يوصون أبناءهم والذين يأتون بعدهم بذلك، فصارت تلك الطريقة علامة فارقة ميزت حيَّهم عن سائر الأحياء.

 واستدعت تلك الطريقة في ترتيب البيوت بناء شبكة من الأزقة والسكك لا تقل غرابة، تربط البيوت بالشوارع والطرقات الرئيسة بشكل جعل الحي أشبه ببيوت النمل، حتى إن مهندسي التخطيط والمساحة فشلوا في عبور تلك الأزقة واكتشاف سرها ورسم خريطة تخيلية لمداخلها ومخارجها، بعدما اتسعت المدينة وتمدد العمران خلال أكثر من مائة عام وبدأ الناس يهجرون أحياءهم القديمة ويذهبون إلى الأحياء الجديدة.

لطالما كانت شبكة الأزقة تلك تعبيرًا حقيقيًّا عن الخوف واحتماء بالعزلة التي ابتكرها الأولون في أول عهدهم ببناء الأحياء والمنازل لحماية أنفسهم من الغرباء والمتطفلين، لذا بقي الحي هادئًا على الدوام كطفل يلعب أمام منزل أهله دون خوف أو حذر كأم تتحرك في الحياة بحاسة الخوف أكثر مما تتحرك على قدميها. لم يتورط أهل الحي في مشاكل وصراعات تُذكر، ولم يقعوا في الجرائم الكبرى.

عندما يخيم الضباب على حيِّهم في الشتاء لعدة أيام ويعتم الحي، أو لا تمطر السماء لمواسم متتالية ولا تظهر الشمس لأيام، يجتمع كبارهم ويتشاورون، ثم يشيعون أن هناك من ارتكب معصية أو خطأ وأن هذا جزاء ذاك، وعليه فإن على صاحب الخطيئة أن يعترف بخطئه واضعًا خرقة على فمه يتمتم فيها بما فعل حرصًا على ألا يفتضح أمره، ثم يربط الخرقة ويذهب لوحده إلى مكان في الخلاء البعيد عن الحي خصَّصوه لذلك، فيفتح تلك الخرقة كأنما يُبدِّد خطيئته في الهواء وينثرها بعيدًا لتحملها رياح الشتاء فيتطهر الحي وينفك الكرب وينقشع الضباب، وربما تساقط المطر.

وفي أحد أيام الضباب تلك، فضح أحدهم أمر نفسه حين وقف وسط السوق وقال: أنا السبب في الضباب المخيم عليكم منذ أيام. حاولوا إسكاته ودلوه على ما يجب عليه فعله، لكنه أفلت نفسه منهم، ووقف بعيدًا وصرخ: أنا شهدت زورًا أمام القاضي بأن تلك المرأة لم تُعطِ شيخ المسجد المال الذي تطالبه به، والحقيقة أنها أعطته وأنا رأيتها، لكنني كذبت لأنها رفضت أن تزوجني ابنتها وقالت إنني لقيط وبلا أصل.

ومنذ تلك الحادثة أصبح الرجل منبوذًا حتى جُن، وصار الحي يقول كلما خيَّم الضباب وانسد الأفق: الضباب مربوط بكذبة!

معظم أهالي الحي لا يملكون أجهزة تلفاز في منازلهم. في المساء يذهب الصغار والنساء لبيوت جيرانهم للفرجة إذا كان لديهم جهاز وللتسامر بقصِّ الحكايات ومعرفة أخبار ما يحدث حولهم مما ينقله المسافرون الذين يفدون إلى مدينتهم عبر الميناء. ينامون بعد صلاة العشاء، وفي الصباح تفوح من بيوتهم رائحة الخبز الذي تعده الجدات وأبخرة القهوة التي يصر الرجال على أن تكون معدة في الصباحات الباكرة جدًّا بعد صلاة الفجر.

يذهب الصغار إلى المدارس، لكنهم لا يخرجون من الحي بعد أن يعودوا ولأي سبب إلا بصحبة أمهاتهم، بينما يخرج الرجال للتجارة والعمل والغوص وللعبث المتاح كذلك في أحياء بعيدة. في حضورهم يتكفل الرجال بتلبية كل احتياجات بيوتهم ونسائهم وأطفالهم، فإذا سافروا أوصوا نساء لسن من الحي يأتين من أحياء أخرى، يمتهن البيع والشراء ويوفرن كل الاحتياجات والمطالب بأجرة محددة. أما النساء فلا تغادر الواحدة منهن الحي إلا للعلاج أو زيارة بيت أهلها إذا كانوا من حي آخر، أو لزيارة قبر الولي الذي يقع على أطراف المدينة، فإذا خرجت امرأة من الحي عُرف أنها إما لا تنجب أو أن لديها ابنة لم تتزوج وأنها في طريقها لتقديم الأضاحي والتوسل بقبر الولي.

هكذا بقي حال الحي سنوات طويلة.

تأخر وصول الكهرباء للحي طويلًا، وكذلك رصف شارع يربطه ببقية الأحياء ويُسهِّل دخول السيارات. التهم البحر العديد من المنازل بعد أن حفر تحت أساساتها. مات كثير من الأطفال الذين كانوا يسقطون من أعلى الجرف، حيث لم يكن هناك حاجز يحميهم من السقوط.

في الليل يصير الدخول إلى أزقة الحي مخاطرة حقيقية لمن لا يحفظ دهاليزها الخفية عن ظهر قلب. كبار الحي وصغارهم كانوا يتوغلون فيها ساعة يريدون، أما الغرباء فحدودهم تنتهي عند الطرقات الرئيسة والمقاهي والدكاكين، فلا يجازفون بالتوغل في الداخل، حيث تلتوي الأزقة كأخطبوط.

في متاهة الأزقة تلك تحمل كل زاوية علامة، وكل ممر ضيِّق يحمل رقمًا يقود إلى مخرج بديل ومنازل مهجورة يمكن أن تُستخدم للاختباء أحيانًا ولاختصار الطريق إلى أماكن أخرى دون المرور بالطرقات المعتادة. يحرص الآباء على نقل أسرار هذه المتاهة للصغار باكرًا، وعلى تذكيرهم باستمرار أنها من الأسرار التي لا يجوز إفشاؤها للغرباء، فيكبر الصغار على التنقل واللعب ببراعة في شرايين تلك الشبكة.

     *

هذا الحي الذي كان نصف أهله لا يملكون أجهزة تلفزيون تحوَّل بين ليلة وضحاها إلى خبر ثابت في نشرات الاخبار المحلية!

بدأت أجهزة تلفزيون جديدة تهل على الحي وتدخل البيوت التي لم تكن عرفت التلفزيون يومًا، ومن لم يقدر اكتفى بشراء جهاز راديو. وبدأت الأمهات يحكين لصغارهن قصصًا مخترعة عن رجال متوحشين يأكلون الأطفال، وعن أطفال يختفون بطرق غريبة، وقد يُختطفون من أحضان أمهاتهم أحيانًا. وعندما اتسعت الحكاية ولم يظهر أنها ستنتهي كما توقعوا، أغلق معظمهم أجهزة التلفزيون وغطوها بسجاجيد الصلاة وأقسموا أنهم لن يفتحوها ثانية.

لم يكن ذلك الصباح غائمًا، ولم يكن الضباب يخيم عليه، بل بدا صافيًا ومشرقا جدًّا، إلا أن شيئًا ما عكَّر صفو الحي وقلب الحياة كلها. حدث ذلك عندما ندَّت صرخة مدوية من أحد بيوت الحي، بدا من قوتها أن أمرًا جللًا قد حدث استدعى تلك الصرخة التي أخافت الجميع وجعلت كل من سمعها يهرع مسرعًا، فالأكيد أن المرأة قد تعرضت أو تتعرض لخطر كبير. وما إن وصل الراكضون إلى بيت المرأة التي كانت لا تزال على حالها من الصراخ تبيَّن لهم أن ما خمَّنوه كان صحيحًا.

إن مثل هذه الأحياء العالقة في غفلتها وطمأنينتها غالبًا ما تُسيل لعاب الكوارث، فتتسلل هذه من فراغات الغفلة والوقت مرتدية ما يشبه طاقية الإخفاء فتشتت هدوء كل شيء وتبعثر ما كان قائمًا كعاصفة تهب من الفراغ تقتلع ما يمكنها اقتلاعه ثم تفر سريعًا بغنيمتها. الكارثة التي هبَّت على حيِّنا في ذلك النهار بعثرت أمان الحي، وسحبت في طريقها ليلى أجمل أطفال الحي!

 في صباح الكارثة، كان الحي قد نفض آثار النوم عن كل شيء. ضوء الصباح احتل كل الفراغات التي كانت غاطسة في الظلمة، الأزقة، مداخل البيوت، أسطح الدكاكين، شاطئ البحر، كما مسح النوم عن أجساد سكانه وعيونهم، استعدادًا لمواجهة يوم آخر في هذه الحياة، ليباشروا أعمالهم وانشغالاتهم وثرثراتهم، كما كل يوم. دبَّت الحركة سريعًا في كل مكان، أصوات أمهات وهمهمات أطفال لا يزالون في حالة نوم تمسك أمهاتهم بأيديهم في انتظار حافلة المدرسة.

وصلت حافلة المدرسة الصفراء في وقتها تمامًا، كانت ضخمة جدَّا وأشبه بوحش، اندفع الصغار في أحشائها يتصايحون بنزق ظاهر، لتنطلق بهم إلى المدرسة، بينما وقفت بعض الأمهات يتبادلن الأحاديث عند مداخل البيوت قبل أن يدخلن للقيام بما اعتدنه كل يوم. هكذا يبدو يوم الحي عاديَّا بامتياز، لا شيء فيه يستحق التوقف أو التأمل. بقي أن يعود الصغار من المدرسة بعد منتصف النهار ليستكمل اليوم عاديته المطلقة، وقد عاد الصغار على جري عادتهم، لكن الحي لم يعد، تحطم هدوء النهار كآنية من خزف سقطت من يد أحدهم لتتشظى إلى عشرات القطع.

وبينما يجري الصغار العائدون من مدارسهم صوب بيوتهم، إذا بامرأة تُطلق صرخة مدوية من أحد البيوت، بدا واضحًا من صرختها أن أمرًا خطيرًا قد وقع، وهو ما استدعى صراخها الذي أوقع الخوف في قلوب الجميع وجعلهم يتراكضون إلى البيت الذي خمَّنوا أن الصراخ آتٍ منه، تتنازعهم مخاوف حول ما يمكن أن يجعل امرأة تصرخ بهذه الطريقة المفجعة!؟ قال أحدهم وهو يركض مسرعًا: لا بد أن لصًّا اقتحم بيتها، لا تفسير آخر حسب رأيي، علينا ان نسرع لنرى.

حين وصلوا وجدوا المرأة في حالة سيئة، كانت تراوح أمام باب منزلها تبكي وتضرب رأسها بكلتا يديها بهذيان واضح، وتشير في كل الاتجاهات، فتيقَّنوا أن هناك أمرًا أكبر من السرقة!

تمكنوا بعد تهدئتها من تبيُّن الأمر: لقد اختفت ابنتها ليلى ذات السبع سنوات! لكن كيف اختفت؟ أين كانت؟ حكت المرأة أنه حين لم تعُد ابنتها من المدرسة مع رفيقاتها في الحافلة سألتهن عنها، فقالوا إنها لم تذهب إلى المدرسة هذا اليوم! كيف لم تذهب؟

الأم الحزينة تسأل وتجيب نفسها، تشرح الحكاية كما حدثت: «لقد خرجت معها في الصباح الباكر، وقفنا كعادتنا ننتظر الحافلة«، ثم أكملت وهي تبكي: »كنت معها، لقد تركتها ودخلت إلى المنزل لأرى شقيقها الصغير الذي كان يبكي بكاء متواصلًا، خشيت أن يكون به شيء، تركتها أمام الباب وكنت مطمئنة إلى أنها ستركب الحافلة التي كانت على وشك الوصول كما تفعل كل صباح».

 كانت تتحدث بأسى ظاهر، بينما ترمي بنظراتها إلى البعيد متلفتة في كل الاتجاهات، كأم تبحث عن طفلتها التي أفلتت يد أمها في زحام السوق.

قال سائق الحافلة حين سئل إنه وصل في الوقت المحدد بالفعل، لكنه أكد هو وجميع الطالبات أن ليلى لم تكن تقف في مكانها الذي اعتادت الوقوف فيه أمام باب بيتهم، ولقد انتظروها كي تخرج، لكنها لم تظهر.

فأين ذهبت ليلى بعد أن غادرتها والدتها؟

انتشر السؤال في كل مكان وملأ رؤوس الجميع، تغلغل في تفاصيل ذلك النهار، وارتسم الخوف في الأعين وامتلأت به الأزقة وقلوب جميع الأمهات، حتى إنه اختلط بهواء الحي وصار الجميع يتنفسونه قيامًا وقعودًا. صار كدعاء أو كصلاة، ولم يعلم سكان الحي أن ليلى ستصبح منذ الغد، وبعد أن ينتشر الخبر، سؤال الناس جميعهم في كل مكان. لقد صاروا ينظرون إلى أطفالهم بهلع، فما الذي يمنع أن يحدث لأطفالهم ما حدث اليوم لليلى؟ وما أدرى أي أم ألا تكون ابنتها هي الضحية التالية؟

أين ليلى الآن؟ مَن اختطف ليلى؟ هل لا تزال على قيد الحياة؟ أهي في مكان مجهول في الحي؟ ماكينة أسئلة لا عمل لها سوى تفريخ الأسئلة طيلة ذلك النهار والنهارات التالية. وانشغل الأهالي عن كل شيء بالبحث عن ليلى. قلبوا كل مكان رأسًا على عقب لكن دون نتيجة، لا أثر لليلى! لم يرها أحد تُكلم غريبًا في ذلك الصباح، لم يسمع أحد صراخها، لم يُلمَح أثرٌ لغريب يجوس في الأزقة أو بين المنازل، فهل تبخرت الطفلة ذات السبعة أعوام؟

مرَّ اليوم الأول كليل طويل جدًّا، كأيام الصيف اللزجة، حيث يصعب التنفس. ثم مضى اليوم الذي يليه، وتحولت ليلى إلى قضية رأي عام على امتداد البلد. صارت غضبًا وشغلًا شاغلًا لجميع الناس والشرطة ورجال الصحافة، فلأول مرة في تاريخ الحي يحدث أن تختفي طفلة بهذه الطريقة في وضح النهار.

تتالت تقارير الصحف وتعليقات الكتاب والإذاعة والتلفزيون، وأصبح بيت ليلى قبلة الجميع، ذهب المراسلون والصحفيون والمسؤولون إلى والدتها المسكينة ليطرحوا المزيد من الأسئلة لصناعة المزيد من القصص التي ينتظرها الناس في الصباح التالي، ليهدأ القلق وتصغر الأسئلة. واقتيد العديد من الرجال في الحي معظمهم آسيويون إلى مركز الشرطة للتحقيق معهم كمشتبهين لا أكثر، ثم جاء رجال التحقيق إلى الحي، بحثوا وفتشوا وسألوا، لكن شيئًا من ذلك كله لم ينتهِ إلى نتيجة.

في عمق الليل يسمع الجيران صوت أم ليلى وهي تنوح مرددة قصيدة كأنها حفظتها عن أبيها أو زوجها الشاعر الذي رحل باكرًا تاركًا لها أربعة أطفال صغار كأفراخ القطا كما تطلق عليهم دائمًا.

بذل الجميع جهدهم لتهدئتها وضخ الأمل في قلبها أن ليلى ستعود قريبًا، وأن الفاعل سينال عقابه أمام الجميع، إلا أن إحساسًا عميقًا كان يمنعها من الركض في هذا الطريق. لذلك كان صمت الليل يحمل في الخلوات صوتها وهي تردد كمن ترد على المطمئنين:

ولو عزيز حي جانا كتابه

مع الطير ولا ذاريات الهبايب

لكن عزيز صفق البين دونه

يا ويل من هالوا عليه الترايب

كانت الكلمات تنزف من قلبها أكثر مما تخرج من بين شفتيها، وكان صوتها حزينًا يجرح الليل وقلوب السامعين.

بدأت صور ليلى تملأ الصحف، وتتصدَّر نشرات الأخبار المسائية. فعلت الشرطة ذلك لتضاعف الضغط على المجرم، ورصدت جائزة مالية لمن يُدلي بأية معلومة يمكن أن تفيد سير التحقيقات.

مرَّ اليوم الأول واليوم الثاني دون الوصول إلى خبر أو معلومة مطمئنة، لا شيء سوى الحزن والقلق الذي يقف ماردًا يسد نهارات الناس ناشرًا مزاجًا رماديًّا محقونًا بالخوف يتغلغل في كل التفاصيل.

في اليوم الثالث بدا كأن الشرطة قد التقطت طرف الخيط، حين بدأ الحديث عن شخصين أفادا بأنهما شاهدا ليلى في غبش ذلك الصبح واقفة أمام باب منزلهم مباشرة، حين اقترب منها رجل متلفع بشال أسود يُخفي وجهه تمامًا. كان يُحدثها وهي تتراجع للخلف خائفة بينما يحاول طمأنتها بتقديم قطعة كيك!

وهنا تذكرت والدتها أنها بالفعل شاهدت كيس بلاستيك مطبوعًا بعلامة معروفة تباع في أحد محلات الحي ملقى أمام الباب، حيث كانت تقف ابنتها، لكنها لم تعبأ للأمر، اعتقدت أن الرياح قد ألقت بالكيس أمام بيتها وأن الأمر لا يستحق الالتفات، لكن رجال التحقيق اعتبروا المعلومة مكسبًا كبيرًا، فتتبعوا الخيط الجديد بحذر، واستطاعوا التوصل لعدة أشخاص من المحتمل أن يكون أحدهم هو الرجل الذي تبحث عنه المدينة كلها. لقد أصبحت ليلى خلال ثلاثة أيام حديث المدينة وقضيتها الأولى.

حُسمت القضية عندما قال أحد الشهود – وهو عامل بقالة – أن رجلًا كان يرتدي زي عامل في شركة مقاولات دخل مبكرًا إلى محل البقالة الذي يعمل فيه واشترى نوعًا من الكيك الرخيص الذي يستهلكه العمال هنا بكثرة، وهو الذي أشارت الأم إلى اسمه على الكيس البلاستيك.

صار من باب المؤكد أن ليلى قد اختُطفت على يد عامل بناء شوهد يتحدث معها، وقدَّم لها – بحسب أحد الشهود – قطعة الكيك بإلحاح كوسيلة استدراج يبدو أنه نجح فيها. بدأ التحقيق والبحث يضيقان الخناق على الفاعل، وكانت الشرطة تسابق الزمن لتصل إليه قبل أن يحدث الأسوأ.

في اليوم الرابع، وضمن تحقيقات سرية، نصبت الشرطة كمينًا بجوار منزل أحد العمال أبلغت شركته أنه متغيب عن العمل منذ عدة أيام. في ذلك اليوم شوهد الرجل يخرج من بيته متلفتًا في كل الاتجاهات، وحين اطمأن إلى أن المكان خالٍ تمامًا انزلق بخفة قط صوب الزقاق الرئيسي للحي دون أن يعلم أنه في مرمى الرقابة اللصيقة.

كان الأمر غريبًا للغاية، فالجميع يعرف أن استخدام شبكة الأزقة حصر على أهالي الحي، حيث من المستحيل على شخص غريب أن يعرف أسرارها، لكن هذا الغريب يبدو كأنه يعرف الأزقة جيدًا، كان يتلفع بشال أسود ويخرج منذ غبش الفجر مرتديًا ثياب أهل الحي تحت الشال، بينما يتبعه رجل أمن متنكر على هيئة عجوز. دخل وراءه إلى أن توقف عند منحنى تفوح منه رائحة عطنة دخله وخرج سريعًا وهو يحمل بين يديه كرتونًا يبدو ثقيلًا ويتلفت بخوف ظاهر! وهنا صفر الرجل العجوز، فهجمت مجموعة من الرجال، وفي لحظات كان الغريب ذو الشال الأسود موثوقًا بين أيديهم.

عند ذلك المنحنى ذي الرائحة العطنة، كانت ثمة فجوة تتسع لاختباء شخصين على الأقل، كان ذلك المنحنى إحدى العلامات التي يحفظها الصغار جيدًا، بعده يتعرَّج الزقاق ليقود مباشرة إلى البحر، ومن هناك كان الرجل يخرج ويعود دون أن يشعر بحركته أحد بعد أن اختطف ليلى واقتادها إلى تلك الفجوة التي أجبرها على أن تخبره عنها، وهناك اغتصبها بوحشية حتى لفظت أنفاسها، وحين وجدها قد فارقت الحياة لم يعرف ماذا يفعل، فتركها وعاد باحثًا عن طريقة يتخلص بها من جثتها. في الفجر التالي، وبينما الشرطة تبحث، أحضر صندوق الكرتون، وضع فيه الجثة وتركها هناك.

خلال أيام التحقيق لم يقترب أحد من ذلك المكان النتن، فاستغل انشغال الجميع وتسلل ثانية ليُقطعها ويضعها في عدة أكياس. وفي المرة الثالثة، حين أيقن أن أمره قد افتضح وأن الجثة آخذة في التعفن، خرج فجرًا ليتخلص من الجثة بطريقته. اعتقد أنه بإمكانه الخلاص بسهولة ثم يغسل يديه كأن شيئًا لم يكن، إلا أن الأزقة كما لا تبيح أسرارها، فإنها لا تتستر على من يغتال حراسها.

في اليوم التالي أُعلن الخبر الأكثر حزنًا في تاريخ الحي، لقد عثرت الشرطة على ليلى جثة مقطعة وملفوفة في عدة أكياس داخل صندوق كرتوني كبير. كان القاتل لحظة القبض عليه داخل أحد الأزقة السرية يتأهب للخلاص منه.

حمل القاتل لقب «الذئب البشري» في كل الصحف، وعلت المطالبات بإعدامه علنًا دون أن يحاول أحد أن يعرف اسمه. أُعلن عن خبر الإعدام سريعًا لتهدئة حدة غضب الناس ومخاوفهم، قيل إنه سيُعدم قريبًا، لكن تدخلات كثيرة حوَّلت الإعدام إلى سجن مؤبد. حدث ذلك في الأيام التالية لاكتشاف الجريمة البشعة، بينما ظل حيُّنا مقيمًا على حزنه وصدمته ينتظر القصاص الذي لم يحدث كما توقعه الناس. لم يعلم أحد كيف أمضت أم ليلى حياتها بعد أن استعادت وعيها وغادرت غيبوبة الصدمة.

في كل بيت بقي الحديث، ولأيام طويلة، يتدفق كشلال دون توقف مستعيدًا أيام الفاجعة الصعبة وليلى التي لم تحمها العزلة ولا أسرار الأزقة!

صارت ليلى تتراءى للجميع في كل مكان، وصار وجهها يُزهر كل لحظة في طرقات الحي وفي غابة الأزقة الغامضة التي ابتلعت حياتها، وفي مداخل البيوت وأصوات الصغار المجروحة وصمت الأمهات المحزونات، كانت ليلى تملأ فضاءات الحي وأحاديث الناس في كل مكان.

قلنا، بعد صباحات بعيدة هادئة، إنه قد آن الأوان لأن ينسى الحي آلام الفاجعة، حين صحوت باكرًا على صوت والدتي تناديني وهي تجلس في غرفتها صامتة تنظر إلى زهور مزروعة في علبة معدنية صدئة خارج نافذتها وتشير إليَّ أن أنظر، وجدتها وكأنها نمت أسرع مما توقعت، فقد طالت سيقانها وصارت كثيفة كغابة صغيرة شديدة الاخضرار، ابتسمت ومضى اليوم.

في اليوم التالي تفتَّحت أول زهرتين في بياض الثلج، كنا نراهما لأول مرة، لم نكن نعرف اسم تلك الزهرة، بدت جميلة جدًّا وأكثر شبهًا بالسكر أو بنور أول الصباح. تساقطت دموع من عيني أمي وتمتمت بأدعية الرحمة. 

منذ ذلك الصباح أطلقت عليها والدتي اسم ليلى التي لو عادت للحياة على هيئة أخرى فلن تكون إلا على هيئة تلك الزهرة التي ظلت تُزهر في بيتنا لسنوات طويلة حاملة هذا الاسم “وردة ليلى ” .