عائشة سلطان

سر الغيمة البيضاء – عائشة سلطان

في الحي النائي الذي تحيط به أشجار النخيل من كل جانب، حيث لا تسمع إلا همسات الرياح وكأنها تبكي على ماضٍ منسي، كان يعيش رجل يُدعى معروف. لم يكن أحد يعرف إن كان قد وُلد في هذا المكان أو إذا كان قد جاء إليه في وقتٍ ما هربًا من شيءٍ ما أو قادمًا من بلاد أخرى. لكن الجيران كانوا يتفقون على شيء واحد: أنه كان غريبًا. عيناه دائمًا تتسعان كما لو كانتا تراقبان شيئًا لا يستطيع أحد رؤيته، وكان جسده هزيلًا كالظل الذي لا ينتمي إلى أرضٍ أو سماء.

على الرغم من أنه كان يملك دكانًا صغيرًا لبيع بعض احتياجات البيوت من البقالة والخضراوات وحلويات الصغار، فإن معظم وقت معروف كان يذهب في التفكير. يمشي وحيدًا في الأزقة الضيقة بين المنازل القديمة التي عاشت فيها عائلات منذ زمنٍ بعيد، يقول إن جده القاضي كان قد حدَّثه عنها بشكل جعله يشعر أنه جزء من تلك العائلات، أنه ابنهم الذي يعيش في الزمن الخطأ. إنه يعرف أدق تفاصيلهم، أسماءهم وأحفادهم، مهنهم وزوجاتهم، بيوتهم وعناوينهم، ما مروا به وما عاشوه، أفراحهم وأحزانهم ومشكلاتهم، الغدر الذي تعرضوا له والنعم التي رفلوا فيها… فهل كان ما يقصه على من يجالسهم مما حدَّثه به جده فعلًا؟ أم أنه من صُنع خيال معروف الواسع الذي كان يستمتع بالجلوس أمام نافذته الصغيرة في المساء، في حين تبتلع الظلال المتزايدة كل شيء من حوله؟ كان يسمع عن »الغيمة البيضاء«، تلك الظاهرة التي كان الناس يحكون عنها في كل مكان.

الغيمة البيضاء، كما كانوا يسمونها، لم تكن مجرد سحابة عابرة في السماء، بل كانت أكثر من ذلك بكثير. كانت تظهر كل مساء مع غروب الشمس، تبتعد عن الأفق تدريجيًّا، ثم تختفي مع آخر شعاع للضوء.

 ولم يكن أحد قد رآها بوضوح، بل كان الجميع يتحدث عنها كما لو كانت أسطورة حدثت في زمن غير معلوم: البعض يقول إنها تحمل رسائل من السماء، وآخرون يقولون إنها روح ضائعة تبحث عن شيءٍ ما لم تجد له إجابة.

لكن معروف أو كما يسميه أهل الحي »راعي الدكان« دون أن يذكروا اسمه، فلم يكن كالبقية. كان يؤمن أن في هذا الحي شيئًا غامضًا، كما لو أن المكان نفسه يخبئ سرًّا كان الجميع قد نسيه، سرًّا ربما يعود لتلك العائلات التي اختفت مع ما اختفى في هذه البلاد. لذلك كانت الغيمة البيضاء تثير فضوله أكثر من أي شيء آخر. وعندما يتجمَّع أهل الحي ليشربوا الشاي في المقهى القديم، يتحدثون عن »الغيمة« بحذرٍ، وكأن مجرد ذكر اسمها قد يفتح أمامهم أبوابًا لن يعرفوا كيف يغلقونها..

ذات يوم عادي جدًّا ككل أيام الحي، عندما بدأت السماء تمطر بغزارة كأنها كانت تُطهِّر الأرض من خطايا قديمة. شعر معروف بشيء غريب يتسلل إلى قلبه، كان الإحساس نفسه الذي يشعر به المرء قبل أن يرتكب شيئًا لا يمكن التراجع عنه. قرر أن يذهب ويرى الغيمة البيضاء بنفسه، فاستعد في المساء، وخرج مسرعًا قبل أن تلتهم الظلال آخر شعاع من الضوء!

الطريق إلى الطرف البعيد من الحي محفوف بالوحشة، فلا يوجد هناك سوى المزارع المهجورة والخرائب القديمة. البرق يضيء السماء من بعيد، والريح تعصف بأشجار النخيل والشريش. وفي لحظةٍ معينة، ظهر له شيءٌ ما في الأفق. لم يكن يعرف ما إذا كان ذلك مجرد خيال، لكنَّ شيئًا في قلبه أخبره أنه كانَّ شيئًا حقيقيًّا.

كان ذلك الشيء هو الغيمة البيضاء. لم تكن غيمة من تلك التي نراها في السماء، بل كانت تتحرك في المكان كما لو كانت جزءًا من الأرض نفسها. كان ضوؤها يشع من داخلها، أبيض بلون الحليب، لكنه يحتوي على ظلال غير مرئية تحجب التفاصيل. وعندما اقترب منها أكثر، بدأ يميز شكلًا بشريًّا داخل الضباب، شكلًا لامرأة ترتدي ثوبًا طويلًا كأنما نُسج من سحاب ونور..

»أنتِ هي، أليس كذلك؟« قال معروف بصوت مرتجف. لم يكن يعرف لماذا يتحدث معها كما لو أنه يعرفها.

ابتسمت المرأة، أو ربما كانت ليست المرأة، ربما كانت ابتسامة الريح، وقالت له بصوت أشبه بالهمس: »نعم، أنا. كنتُ أنتظرك يا معروف!«.

»كيف تعرفين اسمي؟«.

»لقد جئت من أجلك. جئت لأريك شيئًا عن نفسك كنت عاجزا عن معرفته .

شعر معروف بشيءٍ يفور في صدره، كأنَّ كومة من الغيوم الثقيلة بدأت تذوب داخله: »ماذا ترين؟ وماذا يجب أن أعرف؟«.

قالت المرأة بصوت بدا كأنه عزف ريح: »لقد كان الحي بأسره يعتقد أن كل شيء قد انتهى، وأنه لا شيء يستحق البحث عنه. لكنك الوحيد يا معروف الذي كنت تبحث عن شيءٍ أكبر من الحياة نفسها، كنت تبحث عن الحقيقة، عن الروح التي لا يُمكن لمسها، كنت تريد أن تبعث أولئك الموتى الذين تتحدث عنهم، الذين أصبحوا مجرد حبر ناشف على ورق الحياة».

أخذت بيدها يد معروف برفق، وقالت: »كل واحد هنا يحمل في قلبه ما يتمناه لكنه لا يستطيع الوصول إليه أو رؤيته. حتى قلبي أنا الغيمة البيضاء مليء بما لا يمكنني الوصول إليه، أما أنت فغيمة ضائعة تبحث عن نفسها، لذلك تلقي بنفسك في أحضان أولئك الذين كانوا هنا منذ القدم، تشعر بأن روحك تشبههم!«.

غمره شعور غريب. لم يكن يعرف إن كانت تلك المرأة هي التي تتحدث أم كانت الرياح. ما كان متأكدًا منه أنها كانت تتنفس في قلبه. كل شيء من حوله بدأ يختفي في ضباب أبيض كثيف، أما هو فكانت خطواته تتراجع إلى الوراء.

عندما أفاق، كان قد عاد إلى المكان نفسه. الأرض الموحشة، المزارع المهجورة، والرياح كانت قد هدأت تمامًا. ولم تكن هناك أي علامة على وجود الغيمة أو المرأة. كانت السماء قد بدأت تغتسل من الأمطار، وكل شيء كما لو أنه لم يحدث على الإطلاق.

لكن معروف كان قد تغير!

في الأيام التي تلت تلك الليلة، بدأ يلاحظ شيئًا غريبًا يحدث في الحي. الناس الذين كانوا يتحدثون عن الغيمة البيضاء بدأوا يتغيرون أيضًا. الهمسات التي كانوا يتبادلونها عن الظاهرة لم تعد مجرد أحاديث عابرة. أصبحت أسطورة الغيمة البيضاء حديث الجميع، لكنَّ أحدًا لم يعد يشير إليها بشيء من الفضول. كانوا ينظرون إليها بشيء من الخوف والاحترام، كأن شيئًا كبيرًا كان قد حدث، لكنه ظل مخفيًّا عنهم.

أما معروف، فقد اختفى عن الأنظار بعد تلك الليلة، كأنَّ جسده أصبح شبحًا يعبر بين الأحياء. كانت النساء يتحدثن عنه بصوتٍ منخفض، وبعضهن يقلن: »ذهب معروف إلى حيث لا يمكن لأحد أن يصل إليه لأنه اكتشف سر الغيمة وعرف ما كان يختبئ فيها«.

وبينما كان الضباب ينقشع عن السماء، أصبحت الغيمة البيضاء جزءًا من الحكايات التي يتناقلها الجيران عند أطراف المساء، أما معروف فكان يعلم في قلبه أنه مهما تغيّرت التفاصيل، فإن تلك اللحظة التي تحدَّث فيها إلى الغيمة هي اللحظة التي عرفت فيها روحه حقيقتها.