علي العبدان

سُــكّانُ المُسَـوَّدَة – علي العبدان

سكان المسودة

 

“سلّةُ المُهمَلات أفضلُ أصدقاءِ الكاتب”

غوستاف فلوبير

عاد النورُ بعد أربعينَ عاماً إلى صفحتيْن قديمتَيْن، وعلى الصفحة اليُمنى كان شخصٌ قد أزعجهُ الضوءُ بادئَ الأمر، فأخذ يقول:

– آه ما هذا؟ إنه ضوءٌ قويّ! ما الذي يجري؟ لقد فُتِحَ الدفتر!

ثم تحرك الشخصُ إلى حدِّ الصفحةِ الأعلى، الذي كان أقربَ إليه، ليرى ما الذي يجري، فنظرَ فيه، فإذا به يرى تاريخاً مُدَوَّناً، هو الخامسُ والعشرون من شهر مارس من عام 1981.

– آه، إن هذا التاريخَ يُوافقُ اليومَ الذي رأيتُ فيه النور، نعم أتذكرُ ذلك اليومَ حين رَسَمني هو أسفلَ هذا التاريخ، وكانت رائحةُ الحِبْرِ يومئِذٍ قويةً علينا معاً، أنا وهذا التاريخ المُدَوَّن، ثم شَرَعَ بعد ذلك في… آه، أين البقية؟

أخذ ينظرُ حوله فوجدَ شيئيْن في وسط الصفحة، كانا ينظران إليه وهو يُحدّثُ نفسَه، فصاحَ قائلاً:

– الخربشة والتوقيع! ها أنا أراكما من جديد، أرأيتُما كيف انتشرَ الضوءُ هنا بعدَ أن فُتِحَ الدفتر؟

قالت الخربشة:

– نعم، وإنني في دهشة، فما الذي يجري؟

وأما التوقيعُ فقد ردَّ قائلاً:

– أَليسَ من الطبيعيّ أن ينتشرَ الضوءُ بعد فتح الدفتر؟

استدرَكَ الشخصُ فتساءَل:

– ولكنْ لِمَ فُتِحَ الدفترُ بعد كل هذه المدةِ الطويلة؟

– لا أدري!

بعد أن أجابَ التوقيعُ بهذا، التفتَ إلى الخربشة وهو يقول:

– تُرى ماذا كان يُريدُ أن يَخُطَّ، أو ربما يُخطِّطَ قبلَ أن يُخربشَ وتكوني أنتِ؟ لقد ظلّ هذا السؤالُ في نفسي، ولم أحصل على إجابةٍ بعد، فقد أغلقَ الدفترَ بعد أن وُجدتِ مباشرةً!

– لا أدري، ففي ذلك الحين كان فِكرُهُ مشغولاً، وقلمُهُ متردداً، ولعلي كنتُ سأكون… آه إنني حزينة، أنا أشعرُ بعدم الوجود، لافتقادي الشكلَ المناسب، أما أنتما، فَيالَحظيْكُما، لقد مُشِقتُما مَشْقاً!

استدركَ التوقيعُ قائلاً:

– مع ذلك فأنتِ موجودة، وقد يعودُ…

قاطعه الشخصُ وهو يصيح:

– يا إلهي!

سألهُ التوقيع بقلق:

– ما بك؟ ما الخطب؟

أشارَ الشخصُ إلى التاريخ المُدَوَّنِ في أعلى الصفحة قائلاً:

– لقد تغيّرَ التاريخ! كان الخامسَ والعشرينَ من مارس 1981، وهو الآن العاشرُ من يوليو 1985!

– وما العجبُ في ذلك؟ أنت أيضاً قد تغيّرتَ!

– تغيّرتُ! كيف تغيّرت؟

– لقد تحرّكتَ، ومن يتحرّك يتغيّر.

– منطقيٌّ أنت دائماً أيها التوقيع.

– المنطقُ أحدُ الدروس الثابتةِ المُستفادَةِ من القدَر.

ردّ الشخص باستهزاء:

– ألِهذا يُسمّيكَ البعضُ إمضاءً؟

– ماذا تقصد؟

– أنت لا تبالي بالوقت لأنه لا يُهمّك في شيء، ففي الإمكان أن تُوقَّعَ في أيّ تاريخٍ دون أن يكون لذلك أثرٌ فيك، فأنت مجرّدُ توظيف…

– ومَن أنت كي تحكمَ عليّ؟

– أنا شبيهُ صاحب الدفتر!

– ههه!

تنهّدت الخربشة بعد أن استمعت إلى ما يكفيها، ثم قالت:

– كُفّا عن هذا الجدال وأخبراني، ما الذي جَدَّ كي يفتحَ صاحبُنا هذه الصفحة؟

قال الشخص:

– هذا هو السؤال، حقاً ما الذي دفعه إلى ذلك بعد هذه المدة الطويلة؟

قال التوقيع:

– وما أدراك أنها طويلة؟

أجاب الشخص:

– انظر إلى تغيّر لون أطرافِ الصفحة، ألا يدل ذلك في عقلِك على...

تدخّلت الخربشة مرةً أخرى لتقول:

– كُفّا رجاءً، وأخبرنا أنت أيها التوقيعُ بما يمكنُ أن يكونَ قد جَدَّ في أمرِنا، لأن صاحبَ الدفتر كان يُنهي بك ما كان يَخُط من ملاحظاتٍ هنا فيما يبدو، فأنتَ تخطيطهُ الحاسم، أَلستَ كذلك؟ أليسَ لديك حَدْسٌ بهذا الشأن؟

– لا أدري، حقاً لا أدري، وكما ترَيْن، فأنا قد وُقِّعْتُ على صفحةٍ شبهِ خالية، فليس في هذه الصفحة سِوانا.

قال التوقيعُ ذلك ثم نظرَ إلى الشخص الذي أضاف:

– وسِوى التاريخ إنْ كنتَ قد نَسيت… يا إلهي إنه ما زال يتغيّر، ها هو يمضي إلى العام 1989!

ردَّ التوقيع:

– أُفٍّ لك! دعك من التاريخ ولْننظرْ فيما نحنُ فيه.

قالت الخربشة:

– نعم، لابد من معرفة ما يجري، بدأتُ أشعرُ بالقلق وأنا مُعلَّقةٌ بهذه الحال منذ البداية.

قال التوقيع:

– حسنٌ، فلْنُرتّب الأحداثَ كي نفهم. الذي أتذكرُهُ أن صاحبنا كان قد كتبَ التاريخَ أولاً…

صاح الشخص:

– ربّاه إنه الآن يناير من عام 1993!

أكملَ التوقيع دون أن يُبالي:

– ثم رسمَ هذا الشخصَ الخائفَ من التاريخ، وأظنهُ رسمهُ ليُمثلَ نفسَه…

تساءلت الخربشة:

– نفسَه؟

– نعم!

– لكنهُ لا يُشبهُه! فهذا الشخص مُجرَّدٌ من الملامح.

نظر الشخصُ إلى الخربشة مُرتاباً، ثم سألها عمّا تعني بقولها ذاك، إلا أن التوقيعَ لم يدع لهما مجالاً للحوار، وأكملَ كلامَه:

– وكان ذلك كلُّهُ قبلَ أن يُوقِّعني، ثم بعد أنْ وُجِدتُ رأيتهُ يحاولُ أن يخُط، أو يرسمَ، أو يكتبَ شيئاً بالقرب منّي، لكنه عادَ عن ذلك وخربشَ خربشةً كانت أنتِ، ثم رَفعَ القلم، وأغلقَ الدفتر، وكما تعلمون لم نرَ النورَ منذ ذلك الحين إلى أن فُتحَ الدفترُ هذا اليوم.

عقَّبت الخربشةُ بشيءٍ من الأسى قائلةً:

يا ربّي، هذا لا يُفيدُنا شيئاً، فنحن على علمٍ بهذا كلهِ، وإنما الشأنُ في المستقبل.

صمَتَ الجميعُ بعضَ الوقت، ثم تحدث الشخص قائلاً:

– لعلنا إذا علِمنا في أيّ تاريخِ نحن اليومَ أنْ نُدركَ مناسبة فتح الدفتر، أنا أتذكرُ التاريخَ الذي خطَّنا صاحبُ الدفتر فيه جميعاً، لقد كان الخامسَ والعشرين من شهر مارس من عام 1981.

سألَ التوقيع:

– وكم مضى علينا منذ ذلك التاريخ؟

– لا أدري، فهذا التاريخ في أعلى الصفحة ما زال في تغيّر… ربّاه، إنه الآن الثامنُ عشر من أكتوبر 1995! أرأيت؟

عقَّبَ التوقيعُ قائلاً:

– على هذه الحال؛ كيف سنُحدِّدُ الزمن؟

أجابَ الشخص:

– الأمرُ واضح، سيكون ذلك ممكناً حين يتوقف التاريخ عن هذا التغيّر السريع!

تساءلت الخربشة:

– وإذا لم يتوقف؟

لم يُجبها أحد، وأخذوا يتلفّتون يميناً ويساراً، ونظرت الخربشة في الأفق القريب، ثم قالت فجأة:

– هناك تخطيطاتٌ ورسوماتٌ وكتاباتٌ أخرى على صفحاتِ هذا الدفتر دون شك، فقبلَ إغلاقهِ كانت رائحةُ الحِبْرِ تهُبُّ بقوةٍ من الصفحةِ المقابلة.

قال التوقيع:

– آه هذا صحيح!

أكملت الخربشة قائلة:

– وإنني أشعرُ شعوراً صادقاً بوجودِها على الصفحةِ الأخرى.

قال التوقيع:

– إذن، هيّا بنا لنرى ما يُوجَدُ هنالِك، لعلّ صاحبَ الدفتر فتحه من جديد لشيءٍ يريدهُ من الصفحة المقابِلة، وما أظنهُ إلا شيئاً بالغَ الأهمية، ويُمكنهُ تفسيرُ الأمرِ برُمّتِه.

سألته الخربشة:

– أتعني أن صفحتنا ليست بتلك الأهمية؟

لم يُجبْ أحدٌ على سؤالِها، بل تحرّكوا جميعاً إلى وسطِ الدفتر ليطَّلعوا على محتوياتِ الصفحةِ الأخرى، وفي أثناء تحرّكهم أحسّوا ببعض النتوءاتِ البارزةِ إلى حدٍّ ما أسفلَ منهم، وكانت تلك النتوءاتُ آثارَ تخطيطاتٍ بالقلم على الصفحةِ الواقعةِ تحت صفحتهم، وقد بدا لهم أنها أقدمُ عهداً منهم بكثير، لكنّ تلك الآثارَ لم تَشِ بحقائقِ تلك التخطيطات، أو حتى أشكالها، فتساءل الشخص:

– تُرى إلى أيّ تاريخٍ تعودُ هذه التخطيطاتُ تحتنا؟

قال التوقيع:

– إنها قديمةٌ جداً فيما يظهر، وأظن صاحبَ الدفتر قد أهمَلَها.

رَدَّ الشخصُ قائلاً:

لا أظنُّ ذلك، ففتحُ الدفترِ إيذانٌ بورودِ الاحتمالات، وما أدرانا أنهم خارجُ مَشيئةِ صاحبِ الدفتر؟

وتساءلت الخربشة:

– تُرى كيف هي أشكالُهُم؟

ردّ التوقيعُ بسرعة:

– ما لَنا والتفكيرَ في هؤلاءِ المُبْهَمين! إننا لا نستطيعُ قلبَ صفحةٍ ماضِية، ولا فتحَ صفحةٍ جديدة، إنهُ ليس سِوى هذا الذي نحنُ فيه حتى يشاءَ صاحبُ الدفتر ما يشاء، هيّا فَلْنَمْضِ إلى غايتِنا، إلى الموجودِ في الصفحةِ المُقابِلةِ فقط!

ومَضَوا إلى غايتهم، وكان التاريخُ المُدوَّنُ على صفحتهم قد وصلَ إلى السابع من مايو من عام 1999.

2

حين وصلوا إلى قريبٍ من وسط الدفتر توقفوا عند حدّ صفحتهم، ونظروا إلى ما في الصفحة المقابلة، فرأوا ما كان مُتوقعاً من قِبَلِهم، فقد كان فيها العشراتُ من الكلمات،والأرقام، والأعداد، والرموز، والخطوط، والخَربشات، بعضُها منتظِمٌ في سياق، والبعضُ الآخرُ مُبعثَر، وكان جميعُها في حالةِ هياج، إذ كانت الفراغاتُ الصغيرةُ جداً بينها تخلقُ حالاتٍ من التوتر، وكانت نِقاطٌ كثيرةٌ تتحرك فوق الحروف،في محاولةٍ لإيجاد معنىً مُراد، كما كانت الأرقامُ في حالةِ حركةٍ أيضاً، وبسبب ذلك كانت الأعدادُ الظاهرةُ تزيدُ وتنقص، وكانت الخَربشاتُ تتداخلُ وتَتفارَق، كما كانت علاماتُ الخطأ والصواب تتنافرُ أيضاً بسبب الاقترابِ والتناقض، وكان الكل يعودُ في أثناء هذه الحركةِ العامّةِ إلى المواضع ذاتها التي بدأت منها الحركة، فيعودُ الجميعُ مرةً أخرى إلى الهياجِ والتنافر، والازدياد والتضادّ، وهكذا يدورُ الجميعُ بين بداياتٍ ونهاياتٍ في فوضىً تبدو منتظِمة.

– ما كل هذا؟ ما الذي يجري هنا؟

حين صاحَ الشخصُ بسؤالهِ هذا توقفت الحركة في الصفحة، ونظرَ جميعُ مَن فيها إلى هؤلاء الثلاثة نظرةَ تعجُّب، وتقدّم أحدُ التخطيطات إليهم، وسألهم:

– مَن أنتم؟ مِن أيّ صفحةٍ جئتُم؟

أجاب التوقيع:

– نحنُ مِن الصفحةِ المقابلة، خطَّنا صاحبُ الدفتر فيها، ثم أغلقَ الدفتر.

– هل هناك غيرُكم في صفحتكم؟

– لا.

لكنّ الشخصَ استدركَ على جواب التوقيع قائلاً:

– ما عدا التاريخ فهو موجودٌ على صفحتنا، لكنه لم يعُد كما كان.

– ماذا تعني بأنه لم يعد كما كان؟

– في البدء كان الخامسَ والعشرين من شهر مارس من عام 1981، ولكنْ منذ أن عادَ الضوءُ إلى الصفحة وهو في تغيُّر، آخِرُ عهدي به كان السابعَ من مايو من عام 1999، ولا أدري إلى أيّ حدٍّ وصل الآن!

تدخل التوقيع ليُغيّرَ مجرى الحديث، فسألَ قائلاً:

– لِمَ الجميعُ في اضطرابٍ في هذه الصفحة؟

نظرَ التخطيطُ إلى التوقيعِ مَليّاً، ثم أجاب:

– لأن كل تخطيطٍ في هذه الصفحة يُريدُ المكانَ الأمثل.

– المكانَ الأمثل؟

– نعم.

تقدمت الخربشة وسألت:

– ما الذي تعنيه بذلك؟

– أوه، إنها قصةٌ طويلة، وأقصِدُ على أيّةِ حال أن صاحبَ الدفتر كان قد خططنا في هذه الصفحة بمزاجٍ غريب، فكثيرٌ منّا كان قد خُطط بشكلٍ نظاميّ، وكثيرٌ آخَرون خُططوا على نحوٍ فوضويّ الطبيعة، وهذا يجعلنا نضيقُ بالوضع ذرعاً، حيث ينجُمُ عن حشرِنا بهذه الطريقة الكثيرُ من التنافر والتناقض والضيق، ولهذا ما إنْ عاد الضوءُ إلى الصفحة حتى أخذ كلٌ منا يبحثُ عن المكان الأمثل له.

– ولِمَ خططكم صاحبُ الدفتر أصلاً؟ هل تعلمون السبب؟

– في الحقيقة لا نعلم، إلا أن هذه الصفحة ليست سوى مُسوَّدةٍ فقط.

– مُسوَّدة؟!

– نعم، لقد كتب صاحبُ الدفتر ذلك في أعلى الصفحة.

وأشار التخطيط إلى أعلى الصفحة، فنظَرَ الثلاثة، الشخص والتوقيع والخربشة إلى أعلى الصفحة، وفي أثناء نظرهم إلى أعلى كان التخطيطُ ومَن وراءَهُ يُحِدّون النظرَ إلى هؤلاء الثلاثة.

ثم قال التخطيط:

– كانت هناك تخطيطاتٌ كثيرةٌ في الصفحات التي تلي صفحتنا، لكنّ صاحبَ الدفتر نَزَعَها وقطَّعها، ثم رماها في سلّة مُهملات، وأبقى علينا نحن.

قالت الخربشة بفزع:

– سلّة مُهملات! يا لهُ من اسمٍ مُخيف.

قال التخطيط:

– نعم، لقد تمكن بعضُنا من رؤيتِها، إنها شيءٌ كبير، لهُ فمٌ واسع، يلتهمُ الصفحاتِ المُهمَلة.

صَمَتَ الجميعُ لحظات، ثم فُوجِئَ الشخصُ والتوقيعُ والخربشةُ بالتخطيط يتقدَّمُ نحوَ صفحتِهم، ثم تَبِعتهُ بقيةُتخطيطاتِ الصفحةِ اليُسرى، التي أخذت في التجمّع دون نظام، واتجهت حشودُها نحوَ صفحتهم، فقالوا لهم:

– ما بكم؟ لِمَ تتقدّمون نحوَنا؟

قالت التخطيطات:

– لقد ضِقنا ذَرْعاً بصفحتنا وبأنفسنا، ونريدُ مكاناً جديداً، في صفحتكم.

– لكنها صفحتنا نحن!

– إنه ليس من العدل أن تتمتعوا بكل هذا الفضاء وأنتم قِلّة.

– لكنكم غيرُ مُنظَّمين، ستنقلون فوضاكم إلى صفحتنا، ولن تنتهيَ المشكلة!

– وما أدراك؟ لا أحدَ يعلم.

– توقفوا رجاءً.

– لا.

بعدَ أن أجابَ التخطيطُ بهذا، سمعَ الجميعُ صوتَ بابٍ يُفتَح.

قال أحدُهُم:

– إنه هو!

جَمَدَ الجميعُ هُنَيْهَةً وهم ينظرون إلى صاحبِ الدفتر يدخلُ من الباب، ثم اضطربت التخطيطات في الصفحة المقابلة، وتعثرَ بعضُها ببعض وهي تنظرُ إلى صاحبِ الدفتر، ثم جَمدوا مرةً أخرى على حالِهم ذاك، وأراد الشخصُ والخربشة أن يعودا من وسط الدفتر إلى داخل الصفحة اليُمنى، إلا أن التوقيعَ أشارَ عليهما بالبقاء معه على حَدّ الصفحة ليُتابعوا ما يحدث، ثم تحدثوا في هَمس:

– إنه يجلسُ إلى الطاولة.

– لقد قرّبَ قلماً!

– لقد تغيّر لونُ شعرِهِ إلى الأبيض!

– إنهُ أيضاً يضعُ على فمِهِ كمّامة!

كان صاحبُ الدفتر قد شرع في العمل بعدَ أن نَزَعَ كمّامتَه، فشغّل حاسوباً كان على المكتب إلى جانبِه، ثم نظرَ في صفحةِ المُسوَّدة باحثاً، فكان حين يجدُ ما يُريد فيها يقومُ بطباعتهِ على الحاسوب، ثم يحفظهُ فيه، وبعد ذلك يشطبُهُ من الدفتر بوضع خطٍ أفقيٍّ عليه بقلمٍ أحمر اللون، بكل ثقةٍ وقوة.

صاحت الخربشة:

– يا إلهي إنه يُعدِمُهم! أَمِن أجلِ هذا فُتِحَ الدفتر؟

قال التوقيع:

– اهدأي ودعينا نرى حتى النهاية.

– هذه هي النهاية! وكيف لي أنْ أهدأَ وأنا في مواجهة النهاية؟

– هذه نهايتهم هم، وليست نهايتنا نحن.

صاح الشخص وهو يُشيرُ إلى أعلى الصفحة:

– يا إلهي!

قال التوقيعُ بتوترٍ ظاهر:

– ما بك أنت الآخَر؟

– إنه التاريخ، لقد أصبح العشرينَ من سبتمبر من عام 2020!

حارَ التوقيعُ فيما يقول للشخص الذي ذهبَ ناحية التاريخ ليتفحّصَه، فلم يُعقِّبْ بشيء، وعاد للنظرِ في الصفحةِ المقابلة حيث رأى صاحبَ الدفتر قد اكتفى من نقل ما يُريد إلى الحاسوب، وأخذ يشطبُ البقية الباقية من التخطيطات في صفحة المُسوَّدة، فقال مُحدِّثاً الخربشة:

– يبدو أنه أخذ كلَّ ما يُريدُ من المُسوَّدة، ونقله إلى ذلك الشيء.

– هل تعني أنه وضَعَهم في صفحةٍ جديدة؟

– لا أدري، فذلك الشيء لا يُشبه الدفتر، إنهُ عالَمٌ آخَرُ فيما يبدو.

– وماذا عنّا؟

– لا أدري.

كان صاحبُ الدفتر قد نظرَ مَليّاً في التخطيطات المشطوبة في صفحةِ المُسوَّدة، ثم وضعَ عليها جهازاً رقيقاً صقيلاً مستطيلاً، وعاد إلى الحاسوب ليعملَ عليه.

هربَ كلٌّ من التوقيع والخربشة إلى مكانيْهما الأصليّيْن من صفحتهما خوفاً من ذلك الجهاز، وكان الشخصُ يُراقبهما بصمت وهو لائِذٌ بالتاريخ المُدَوَّن الذي أصبح الثامنَ عشر من فبراير من عام 2021، وسألت الخربشة خائفة:

– ما هذا الشيء الذي وضعه صاحبُ الدفتر على الصفحة المقابلة؟

لم يُجبها التوقيع، فقد كان مشغولاً بالنظر إلى صاحب الدفتر الذي التفتَ إلى الحاسوب، وأخذ يعملُ عليه في هدوءٍ وتركيز، وفجأةً اهتزَّ الدفترُ تحت التوقيع والشخص والخربشةِ اهتزازاً عنيفاً، ولَمَحوا ذلك الجهازَ الرقيقَ الصقيلَ يضطربُ بقوة، وقد انبعثت منهُ إضاءةٌ متوهّجة، وكان قد بدأ في التحرّك نحوَهم، لكنه توقفَ ساكناً بعدَ قليلٍ دون أن يصِلَ إليهم.

لم يُعلِّق أحدٌ منهم على ما جرى، ولبثوا في خوفٍ كبير، وكان صاحب الدفتر قد انتهى من عمله على الحاسوب، فعاد إلى الدفتر ليرفعَ ذلك الجهاز عن الصفحةِ وينظرَ فيه، ثم رفعه إلى أذنه، وبعد قليل تحدث قائلاً:

– مرحباً عزيزي… أنا آسف، لم أتمكن من الرد، فقد كان الهاتف على الوضع الصامت… نعم لقد انتهيتُ من كل شيء، وسأرسلهُ لك عبر بريدِك الإلكترونيّ… أرجوك أن تُعنى بهذا المشروع فهو حُلْمي الذي حلمتُ به منذ أربعين عاماً… آه، حسناً أنا سعيدٌ جداً بهذا… شكراً لك.

وضعَ صاحبُ الدفتر هاتفه بعيداً عن الدفتر هذه المرة، ثم نظر في الصفحةِ المُقابلةِ لصفحةِ المُسوَّدة.

– إنه ينظرُ إلينا!

– إنه يُمسكُ بالدفتر!

– إنه يحملُنا!

– يوجد شيءٌ كبيرٌ في الأسفل لهُ فمٌ واسع!