أسوأ شيء أن يراقبك أحد، وأنت نائم، هذا ما اكتشفته خلال الرحلة التي امتدت أربع ساعات، والتي أجبرتني ظروف المجاورة، والحفلة الموسيقية الصاخبة التي أحياها جاري المسافر، والتي استمرت ثلاث ساعات متواصلة، لم يهدأ فيها الرجل أو يكل، الأمر الذي أكرهت عليه ببقائي خلالها عاطلاً عن عمل شيء مفيد، غير المراقبة الاجبارية، واتقاء أي لكمة مفاجئة قد تخطىء ممن يتعارك الرجل معهم خلال أحلامه، ولنسميه أبو سليم هذا أول انطباع عن الرجل، وهو من الرجال الحقيقيين، الذين يصلحون للحروب، ومقارعة الأعداء، أيام كانت الحروب إلتحام، وحديد قاطع، وفولاذ باتر، هو ممن يصلون للمترين دون عد أو حسد، يشبه اليوم وكيل قوة، ومدرب متقاعد، أو مظلي سابق، لون الخاكي الذي يحبذه، واليد السمراء المشعرة الشائبة، والصدر كقربة اسكتلندية لا تعيا من النفخ، والصوت الأجش، والشارب الذي تلون من دخان السيجارة، أعطى له هذه الانضباطية الباقية.
بعد أن طلب من المضيفة، وكرر طلبه للزجاجات الصغيرة الملونة، والتي تشبه دواء الكحة، وبعد أن عمّر البطن بوجبة أسد جائع، سمعته يقول بأنه سيأخذ غطة، أرخى حزام البنطلون، وجعل الكرش يرتخي قليلاً، ثم اندلق في حضنه، كطفل مربى، تململ قليلاً، ثم خر صريعاً بعد أن ثقلت الجفون، وارتخت العيون، وذهب في نومة أهل الكهف في غضون دقائق قليلة، كان بطنه يعلو، ويهبط، وكأن هناك أطفالا صغارا يتعاركون، وحين يثيرون غضبه، يدق برجله، ثم تعمل معدته دوراناً كالاعصار، ليخرج ذلك الصوت الذي سيقلقني خلال الساعات الثلاث المتبقية.
في البدء كنت أبتسم، واتابع قراءتي، ولما علا الصوت، ووصل الى الجارة الجنب، كنت أضحك مجبراً، فيحاول هو فتح عينيه، وينظر اليّ بنظرات كسلى، لكن الجفنين الثقيلين سرعان ما يطبقان بتراخ عجيب، في ثوان يرجع ذاك الصوت الهادر، ويقفّزه من النوم، يفتح العينين سريعاً، يحاول الابتسام، فيسحب النوم تلك الابتسامة غير المكتملة، ويذهب في سلطنة اللحن، وتنوع النغمات، والبطن يعلو ويهبط، حتى كنت أخشى عليه من انهيار أو سقوط أو توقف فجائي لأحد الأجهزة العاملة في تلك الآلة الخرافية النائمة، فلبدت أراقبه خوف أن يحدث له مكروه، لكن ابتسامته التي تأتي من بعيد، والصفير الذي يحرك الشارب الطويل الشائب، كشراع تعصف به الريح، يجعلني اطمئن عليه، وعلى سير أموره.
فجأة.. عنّت عليّ زوجته، كيف هي قادرة أن تتحمله هكذا كل ليلة، طوال العمر، شَرَق ثم تنحنح، ثم شَرَق ثانية، فتذكرت قول الجدات أنني ربما صيّحت أذنه وهو غائب، نهض ثم عدل من وضعه، وتحرطم بكلمات غائبة، وعاد الى نغماته المتعددة، والتي كانت أظرفها تلك التي تشبه تقلية البيض أو طشاش الزيت، كان إذا ما وصل إلى درجة القرار تلك، أيقنت أن يحلم مع الملائكة، وعدت الى نفسي، ومطالعتي، لكن “أبو سليم” تعاوده هذه المرة تشنجات، وتقفزات، وهبوط البطن وصعوده، وتلك الدائرة اللولبية التي تصنعها المعدة القلقة، أحسست أن لديه مشاكل في التنفس او لحميات في الأنف، نظرت اليه، فإذا هو كله رئة مكتملة، وشعب وقصبات هوائية سليمة، كان يخيل إلي أنه كـ”الهبان” تركه عازفه يفرغ هواءه لوحده في الساحة التي انفض جموعها.
لم ينه أبو سليم وصلته تلك إلا حين أعلنت المضيفة، مهنئة بسلامة الوصول، وفك الأحزمة، نهض بتوثب، ووسّد ضرسه بقطعتي حلوى، أنزل حقيبته التي تشبه حقيبة الدوريات والتمارين العسكرية، وغادرنا دون ضجيج، وكأنه لم يحدث شيئاً، وعيناه المحمرتان تكادان تقولان للناس: شو.. كنت نايم.. بريّح شوي!