كثيراً ما رايتها تحمل جفيراً على راسها …
ذاك الجفير الذي تفننت في صنعه وتلوينه ، بألوان باهتة ، مظلمة ، حالكة ، كألوان السنين التي مرت عليها ، صبغتها ريشة الآلآم وأنامل النسيان والجحود ، بتلك الألوان التي قتلت فرحة الحياة وإشراقة الدفئ في أحضان من تناسوا امرأة كانت في يوماً ما أماً ، أختا لهم .
تضع ديكاً بداخله، تسير جيئة وإياباً على شاطئ البحر المقابل لبيتها القديم ، تنادي بأعلى صوتها ، تصرخ باحثة عن الديك الذي خرج من بيتها عندما كانت طفلة تلعب على رمال الشاطئ .
تبكي تارة وتضحك تارة أخرى ، تصرخ وتصرخ راكلة المياه بقدميها ، مستنجدة من لدغاته الحارقة ، تدفن قدميها في الرمال لتهدأ من حرارة لدغات المياه وتميت الآلآم في أحشاء الرمال .
يخرج الديك رأسه من فتحة صغيرة في القماش الذي وضعته على وجه جفيرها القديم – الجديد ،يحاول الفرار ، الصياح – لكنه فقد صوته عندما وضع داخل الجفير ….. لم يعد يذكر كيف يصيح كما أقرانه ، رفرف بجناحيه ،أصم اذنيها ، أثار الخوف في نفسها ، أهتز جسدها النحيل وأخذ يرتجف .
رمت بجفيرها أرضاً وأهالت على الديك المسكين ضرباً بعصاً صغيرة ، أخرجتها من جيب ثوبها المهترئ ، صرخت بكلمات اختنقت بعبراتها:-
هربت مني طفلة وضيعتني امرأة .
رفعت رأسها ، نظرت إلى السماء ، كانت الشمس تنزل رويداً ، رويداً في أعماق الأفق البعيد تاركة وراءها سيلاً من الدماء ، صبغت السماء بلون أحمر حزين .
أخذت بعض من المياه بيديها ، حاولت أن تغسل وجه السماء ، أن تزيل نزف الشمس الحزينة عن وجه السماء الصافي ، جمعت كومات كثيرة من الرمال ، صرخت :-
أرجوك تحولي إلى جبال عالية ، مدي رأسك إلى وجه السماء ، احمليني لأغسل وجهها من دماء الشمس المقيت ، أكره موت السماء كل يوم وأكرهك أيها الديك اللعين ، أنت من أضاعني وجعلني امرأة يصفق من خلفها الصغار .
آآآآه وألف آه … تشتعل النيران بداخلي ،وأموت كل يوم بسببك ، من سيعيد لي عمراً قد ضاع ، ويضمد جرحاً ما زال ينزف بداخلي .
أيها الديك لتلعنك ملائكة السماء وتصب غضبها عليك بسياط من نار ، أكرهك ….. أكره رائحة الذكورة التي تفوح منك .
نظرت إلى ديكها السجين داخل جفيرها الباهت وقد علق رأسه في فتحة القماش البالي الذي تمزق من ضرباتها الموجعة ، أطبقت على عنقه بيدها ، أخذ يلهث بصوت حزين ، انفجرت الدماء من عينيه ، رمته بعيداً في قلب المياه ، صرخت:-
أكره نزف الشمس كل يوم ..
تبرع الظلام بغسل نزف الشمس عن وجه السماء ، تهللت ، ضحكت ، ، أخذت تقبل وجه الظلام ، محاولة أن تطوقه بذراعيها ، رمت بجسدها البارد على رمال الشاطئ الباردة ، الرطبة .
تحولت البرودة في جسدها إلى صقيع دامي وجليد أبيض ، كبياض الحليب الذي شربته من ثدي أمها وسقته لولدها الذي كان يخطو خطوته الأولى على رمال هذا الشاطئ .
أصم صدى صوته الصارخ أذنيها ، أثار جنونها :-
كم حذرتك أيتها المرأة من أخذ الصغير إلى شاطئ البحر ، ما خلق هذا الشئ ، إلا ليأخذ منا أغلى ما عندنا ثمناً لعطائه الزهيد .
أخفت رأسها بين ذراعيها ، صرخت باكية ، جثت على قدميه ، قبلت يديه ……
أراحت جسدها المتعب على فراشها القديم، سرى دفئ عذب في جسدها البارد عندما غاصت أنامل أمها العجوز في خصلات شعرها الحريري .
حملت الثواني دهور ثلاث على كاهلها ، مرت ثقيلة ، بطيئة ، انفض الناس من حولها ، أغلقت مزلاج الباب العجوز خلف آخر امرأة خرجت من بيتها .
سمعت صوته يناديها وكلماته المتعثرة بخطواته تعيد صدى حروفه الأولى :-
مـــــــــــا مــــــــــــا
كان يحاول أمساك الديك بيديه ، يلعب معه ، يضحك عندما يطير ريشه من حوله ..
أغمض عينيه ونام حاضناً ديكه بذراعيه على وجه المياه الراقصة… نام بهدوئه وسكونه .
هدهدته المياه ، فأنسته ملوحة الحياة وحلاوة الضحك.
أحرقت لدغات المياه قدميها ، حاولت قتل آلامها في أحشاء الرمال ، طمرتها تحت الرمال الباردة، لكن أبت الآلآم أن تؤد مرة أخرى ، تركتها تسري في باقي جسدها وتسكن في أحشائها الميتة .
التفتت باحثة عن جفيرها القديم – الجديد ، نادت على ديكها السجين ، كان ينام في جفيره هادئاً ، ساكناً ، تهدهده المياه بلطف وحنان .
شدت شعرها ، نثرت التراب على رأسها ، تحطم شيء ما بداخلها …..
شعلة من نور تضوي طريقها المظلم ، شعاع يضيء وجه طفل يخرج من بين الصغار اللذين يصفقون من خلفها ، كلما سارت في الطرقات تحمل ديكها السجين بجفيرها الباهت .
صرخت باكية بصوت الأم الثكلى ، نادت بأعلى صوتها :-
أيها الديك ………………
أخرج من سجنك ، حطم جداره ، مزقه إلى أشلاء صغيرة ، إنه خوص نخلتنا العجوز ، ضعيف كوجه السماء …….
أنظر إليه ، كم هو ضعيف ، تحمله المياه عالياً وتلقفه بإبهامها .
أيها الديك عد إلي ، قبل أن تعود الشمس من رحلتها الحزينة ، وتشهد ضرب ديكاً آخر ثم تنزف حزناً على آلامه .
أيتها المياه تمهلي ، رويدك … أريد أن أحضن ديكي بذراعيّ، وأقبل جبينه ، أعتذر منه ….
تعالى أيها الديك ، تعالى لننام سوياً ، دعني أشعرك بدفئ ذراعيّ ، أسدل جفنيك ، أغمض عينيك ، ونم ملأ جفنيّ .
عندما أرسلت المياه بقايا خوص كدت أن أطئه بقدميّ ،لتدخلني في قلب جفير تلك المرأة التي كنت أراها تضعه على رأسها ، وتبحث عن قارب ينتشلها من الضياع .
أطبقت أنامل صغيري على يدي ، فسرت عذوبة الحياة في جسدي ، ورعشة هزت كياني ، انقذتني من رحم جفير ، كاد أن يقلص جسدي ويحوله إلى كومة من لحم بارد .