عبد الحميد أحمد

الديك

لطالما أحببت الديكة من بين كل الطيور، وليس معنى هذا أنني لا أحب الدجاج، أو العصافير، أو طيور النورس، أو غيرها من الطيور، حتى الغراب، كنت أراه جميلاً رغم التشنيع التراثي به، فهذه الطيور مدعاة الراحة النفسية للبشر. لذلك حين اتصل بي أحد أبنائي يطلب مني إيواء ديكين لديه؛ لم تعد زوجته قادرة على رعايتهما بعد مغادرة خادمتهما في إجازة؛ رحبت على الفور، فبعد سنوات من الانتقال إلى بيتي الحالي ومع مشاغل الدوام، لم يعد لدينا طيور في البيت، على خلاف بيوت أهالينا سابقاً حين كنا في أحيائنا الشعبية، إذ لم يخلُ بيت من طيور، أو دجاج، أو ماعز، أو غيرها من الحيوانات الأليفة.

وصل الديكان إلى البيت فرحبت بهما، وكذلك رحبت بهما زوجتي، وأقمنا لهما حظيرة صغيرة للإيواء، غير أن زوجتي لاحظت أن الديكة بحاجة إلى دجاج، وهكذا كان، ففي مساء اليوم التالي انضمت لهما دجاجتان، وهكذا أصبح لدينا سكان جدد في البيت، أضفوْا شيئاً من الأنس والحيوية على بيتنا، خاصة بعد أن غادرنا الأولاد كل إلى بيته في السنوات الأخيرة، وبقينا وحيدين مع خادمة وحديقة صغيرة نُعنى بها. مر أسبوع رأيته من أجمل الأسابيع، فقد عاد إلى أذني صياح الديك قبيل الفجر، هذا الصوت الذي عشقناه أطفالاً وافتقدناه حديثاً، ثم هناك قأقأة الدجاج بين حين وآخر، تقول زوجتي إن هذه القأقأة تعلو عندما يحين أوان وضع البيض، وصرت أجلس في الحديقة عصراً وأخرج الدجاج والديكين ليسرحوا على العشب، ولينقبوا عن غذاء على طريقتهم، فأراقبهم مستمتعاً، وخاصة ديك البراهما ذا الألوان الزاهية والعرف الملكي، والرقبة المزدانة بريش بديع يطوقها كالشال، وكان يخطو في خيلاء وعلى مهل، لكنه أحياناً يسرع إذ يشن غارة على الدجاجة أمامه، وتذكرت مع هذه الجلسة حوش الأهل القديم في الحارة، حيث تنتصب في الوسط شجرة لوز عملاقة، وفي طرف البيت قن دجاج كبير، ثم زريبة صغيرة ملحقة بالبيت للماعز، وكنا صغاراً نجول بينها ونلاعبها وكأنها من أفراد البيت، وهي فعلاً كانت كذلك، ليس لنا فحسب، بل لكل العائلات حينها، حيث لم يخلُ بيت من قن أو زريبة. وشعرت مع الضيوف الجدد بشيء من الأنس وراحة النفس فلعل ذلك مرده إلى افتقادنا للطبيعة في حياتنا، وهذه المخلوقات الجميلة ما هي إلا جزء من الطبيعة المفتقدة، ولم يكن يمتعني شيء أكثر من صياح الديك فجراً، وأحياناً عند منتصف النهار، وكأنه يؤذن للصلاة كما هو الاعتقاد السائد، فأجد في صياحه ومد صوته عالياً ثم خفوته تدريجياً ضرباً من الموسيقى الصادحة، حتى جاء يوم بعد أسبوعين بالضبط من هذه السعادة التي لم أكن قد قدرت أنها مؤقتة.

رن جرس الباب صباحاً مبكراً، فهرعت إليه وبي هاجس: من يكون هذا الطارق المبكر؟ ولما فتحت الباب وجدت شاباً بادرني قائلاً:

–        صباح الخير، أنا من البلدية، وآسف على إزعاجك صباحاً.

رددت :

–        لا يوجد إزعاج، أهلاً وسهلاً، تفضل بالدخول.

–        شكراً لك، لن أطيل عليك.

ثم أضاف : وصلتنا شكوى من أحد جيرانك، هل لديك ديك في البيت؟

قلت : نعم، فما الشكوى؟!

قال : اشتكى جار لك من أن الديك يزعجهم بصياحه، وحسب القانون، عليك التخلص منه.

قلت : يا الله، صياح الديك جميل، ولطالما ربينا ديوكاً ودجاجاً في بيوتنا، ولم يحدث أن اشتكى أحد منها.

قال : هل لديك أحد من الجيران من الأجانب؟

قلت بثقة : هذا الجانب من البيوت كله مواطنون، لكن من هذا الجانب الآخَر نعم، يوجد مستأجر لكني لا أعرف جنسيته، ما المطلوب؟

قال بأدب جم : حسب القانون إذا اشتكى أحد الجيران فعليك إزالة سبب الشكوى.

قلت : تفضل لترى الديكين والدجاجتين، وهل يمكن لهذه المخلوقات الجميلة أن تكون مزعجة؟!

قال : لا لزوم، ولكن للأسف ليس لدينا حل سوى تطبيق القانون.

قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى الديك ضاق في أعينهم.

صباح اليوم التالي رتبت زوجتي وهي غاضبة أشد ما يكون الغضب من جاء ليأخذ الطيور، فعاد بيتنا خالياً من موسيقى الصباح، والحديقة خالية من بهجة الألوان، وعرفت كم أن الحياة مضت سريعاً وتغيرت من حولنا، ونحن ذاهلون.

بعد أسبوع لا أكثر اشتريت ديكاً معدنياً ضخماً، ملوناً بألوان بهيجة، وأحضرت البائع الباكستاني ليثبته على جدار البيت بيني وبين الجار الأجنبي الذي قدم الشكوى وحرمني من متعة صغيرة، فصار هذا الجار لا شك يصحو كل صباح ويرى الديك شامخاً على الجدار، فيذكره بما ارتكب في حقي حتى وإن كان ديكي الجديد بلا صوت.

الديك