IMG_2698

الرجل ‎الذي تمنيته أبي

كان يتوسط المجلس والجميع من حوله، مأخوذون بعذوبة حديثه. يُضحِكهم جميعًا، في جيبه نكات لكل الأعمار، حتى إن لديه من العبقرية ما يكفي لجعل نكتة واحدة تضحك الجد والحفيد على حد السواء، لم يكن مثيرًا للسخرية، بل إنه فوق ذلك محط احترام الجميع، تريد كتم تنفسّهم ليتسنى لك الاستماع إلى صمته المرهف.

ابنته الصغرى في حضنه، كان يمسد على رأسها، بينما بدا وجهها مدهوشًا كما لو أنها تحت هيمنة السحر. في عينيها ضرب من الارتباك الذي يشبه شكًّا مدفونًا، لا غرابة؛ ولديها أبٌ بهذا الحنان. نحن -البشر- تربكنا غزارة أي شيء، ولو كان المطر على أرض صحراوية. الشمس مثلنا كذلك، يربكها الطوفان.

فكرت في نفسي، لا بد وأنها لم تعتد حنانه، حنان كهذا لا يعتاده المرء، يريد المزيد منه دائمًا، وإن أربكه. وكنت أؤكد لنفسي أنني لو كنت مكانها لاستطاع -بلا شك- أن يمسح عن رأسي كل أفكاري السوداوية؛ كل مرّات انتحاري، وكل جراحي. تصورت أن لمسة يده على وجهي كفيلة بفهم تخبّطي، يده أيضًا بدت متفهّمة؛ مثل صديق يقرأ في عيني صديقه كل الكلام.

عندما يتحدث أحدهم، يصغي إليه باهتمام بالغ، ويُشعره أنه نجم السهرة لهذا الليلة، بالطبع يتحول الجميع إلى نجوم آخر السهرة. سحرني أيضًا، أنا الحانقة على كل الآباء، لم أصدق أنني سأقول لنفسي «لو أن هذا الرجل أبي!» كان يبتسم لي ابتسامة أليفة من شأنها سحق كل الغربة التي تسكنني، ابتسامة كهذه خُلقت لوجه يستحيل أن يمسّه الحنق، الحنق؟ أكاد أجزم أن الحنق يغترب في وجهه، وإن مرّ، فمثل عجَلةٍ في روح مغترب، مارّ بضفة عبور إلى الوطن.

حين عدت إلى المنزل بعد تلك السهرة الرائعة، فكرت به كثيرًا إلى أن أخذني النوم، ولما استيقظت فجرًا، أمرتني أمي بإيقاظ أبي للصلاة، كنت مترددة وخائفة من غضبه الدائم، حاولت إغراء أختي الكبرى، فعرضتُ عليها أن تقوم بالأمر في مقابل أن أجلي الصحون وأعد لها القهوة، إلا أنها لم تجب حتى.

لا أحد يحب إثارة غضب أبي الغاضب أصلًا على الدوام. استسلمتُ وتوجهت إلى غرفته، وحين سقط الضوء على عينيه، استيقظ من فوره ورمقني بنظرته الحانقة التي تسكن وجهه، واستغرقتُ دقائق إضافية لأدرك أن ذاك الرجل الذي أعجبت به البارحة، كان أبي.