جئتُ من السهول البعيدة والرّطبة ، حيث تنعمُ بلدتي بالعُزلة والأنهار ، وكنتُ قد سافرت الليل بأكمله مشياً على قدميّ ، كانت عيناي تتقدّان حُمرة من السهر والعناء ، أحمل على ظهري حقيبتي الصغيرة التي حوتْ ملابسي الرّطبة ، والتي استبدلتها في الطريق إثر البلل بالأمطار ، وعلى رأسي أحمل متاعاً ملفوفاً بقماش أبيض، قد أعطتني إياها أمي لأوصلها إلى بلدة جدي الجبليّة ، وحسب ما علمتُ لاحقاً أن جدتي طلبتها من أمي خصيصاً لهذا اليوم ، لم أكن أعرف السبب ، وطوال الطريق كنتُ أتساءل ما الذي يدفع أمي لإرسالي في هذا الدرب الطويل الشاق محمولاً بهذا المتاع الثقيل جداً والذي هو في النهاية مجموعة من أواني الطبخ النحاسية المستعملة في بيتنا ، وقد تكبدتُ مشاق التنقل مشياً بين المستنقعات والحقول ووصولاً إلى محطة الحافلات التي تشغل نقطة تواصل مع مراكز البلدات الجبلية البعيدة !
حين تركتُ محطة الباص خلفي ومضيت ، خُيّل لي أني نسيتُ الطريق ، لكن لا مفر من المواصلة بأي شكل بعد أن هبطتُ نحو رأس البلدة . كان الظلام في أوله حين وقفتُ بين مفترق الطريق وحيداً حائراً مغموراً بالأسئلة ، الطريق وعرٌ جداً ، وفحيح الأفاعي يملأ شقوق الصخور والأودية .
كان منزل جدي في الطرف النائي جداً من القرية الصغيرة ، مشيتُ على الدرب في أول الليل ، حيث كانت بقايا الشفق الخمري تلملمُ نفسها من حضن السماء ، كان كل شيء يبدو قرمزياً ، إلى أن خيم الظلام .
مشيتُ صامتاً يحيط بي صمت الصخور الجبلية ، و بجانبي رجل و امرأة نزلا معي عند محطة الباص وراحا يسرعان في خطوهما بصمت ثقيل ، حتى تجاوزا خطوي كثيراً وابتعدا في ظلام الجبال .
كنتُ قد وصلت متأخراً إلى منزل جدتي ، ففي عُرْف القرية ينام الجميع بعد المغيب بساعة ، بعد الإنتهاء من واجباتهم تجاه الحقول والمزروعات والرّعي واتجاه أجسادهم المُنهكة في الحقول .
متوقعاً المكوث طويلاً أمام الباب ظناً مني بأن جدتي قد نامت هي الأخرى وهي الآن في سبات عميق ، إلا أن صوت أساورها قد تناهي إليّ ، واذ بي أسمعها تقول لأحدهم: ليس لدينا وقت وفي حالة عدم وصول الأواني لن نستطيع إعداد الكعك لبيعه غداً .
رفعتُ صوتي : ها قد وصلتُ يا جدتي .
وسمعتُ ردها المبتهج في لكنتها الهندية ورنين أساورها يقترب : حفيدي قد وصل .
فتحت الباب و احتضنتني وقالت لي : هذا منزلك اختر المكان الذي يناسبك ، فأنت لست بغريب. فاحتْ رائحة البيت قبل دخولي إليه ، رائحة خشب الصندل والزعفران ورائحة اللبان ، بيت جدتي أشبه بمعبدٍ صغير وحُرٍّ في الألوان والروائح الزاهية .
استلمتْ المتاع الثقيل ورفعته على رأسها الهزيل ، ثم اختفى جسدها في المطبخ إلى نهار اليوم التالي .
***
بدأتُ بالاستعداد للخروج صباحاً للنزهة في أرجاء القرية ، رائحة الحياة البدائية ما زالت مخيّمة عليها من حيث الأسواق والمباني والتي أغلبها بقيت من الطين والقش . وبينما أتجول شدّ انتباهي انعدام الحركة ، وخلو الأسواق من الناس ! وقد شدّتني لوحة شبيهة بلوحة الإعلانات ، قد كتب عليها :
اليوم في سينما الجبل وعند تمام الساعة العاشرة مساءً أنتم على موعد مع الفيلم السينمائي 🙁 استدعاء الأفاعي) .
شدني اسم الفيلم وغزاني فضول المشاهدة ، ولكن لا أعلم أين تقع هذه السينما وكيف أستطيع حضور الفيلم ؟
أكملت تجوالي في القرية واذ بي أشاهد حشداً من الناس يقفون في طابور طويل ، وآخرون يفترشون الأرض أمام بقعة بجانب الجبل محاطة بقماش أبيض وكأنها أُعدت للاحتفال.
وبعد الاقتراب من المشهد وجدتُ نفسي أقف في طابور مخصص لتذاكر الدخول إلى الفيلم . فقلتُ في نفسي لابأس من التجربة . لكن ما إن اقترب دوري حتى صاح باعة التذاكر بأن جميعها قد نفِذ ، وثمة عرض آخر في يوم الغد لنفس الفيلم .
فخرجتُ من الطابور أسير بين ضواحي البلدة وكأني أكتشف تفاصيلها لأول مرة . انتبهتُ لوجود جدتي التي افترشت الأرض أمام السينما وراحت تبيع الكعك في آنية أمي بكل زهو وفخر ومن حولها يتزاحم الأطفال والآباء . ابتسمتُ لها وعرفتُ سرّ اعتكافها البارحة في المطبخ وسرّ تكبدي مشاق الدرب وتحمّلي ثقل المتاع.
سرتُ إلى بيت جدتي بعد أن شعرتُ بالوهن والنعاس ، بدا لي أن القرية صارت خالية تماماً ولم يتبقَ في البيوت سوى كبار السن والمقعدين وقليلٌ هم مثلي . من الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على التذكرة .
بعد ساعة تقريباً عادت جدتي إلى بيتها ، حيث فضَّلت المكوث بقربي وأوكلت من أسرتها من يتولى مهمة بيع باقي الكعك أمام السينما .
كان يوم الأحد ، انتظر أهل القرية بفارغ الصبر مشاهدة الفيلم ، إلى أن حان موعد العرض :
منزل كبير تحيط به حديقة مهجورة ولافتة تُحذر من الاقتراب من المنزل لأنه مسكون بالثعابين ،وصاحب المنزل المهجور يقف ومعه طاردي الثعابين يحملون أدواتهم ومزاميرهم لإخراجها من المنزل ..
بدأ العزف .. فشّد صوت المزمار الناس وتم التجمهر ، بدأت الثعابين تخرج من حديقة المنزل ، تتسلق النوافذ والأبواب والأشجار والأنابيب والصرف الصحي ، وأصحاب المزامير في عزف مستمر والثعابين بمختلف أنواعها وأحجامها تتسابق نحو صوت المزمار ، توقف بعضها أمام عازف المزمار وأخذت تدور حوله في مشهد يحبس الأنفاس ..
جميع من في السينما مأخوذين بالمشهد ومشدودين إليه . لم يكن يسمع في البلدة سوى صوت المزمار العالي وصداه المرتدّ في الجبال والغابات ، لم يكن ثمة ضوء سوى قماش أبيض ، كان في حد ذاته عبارة عن شاشة العرض السينمائية .
وما حدث بعدها لم يكن في حسبان أحد ..
بدأت الثعابين الجبيلة في القرية بالخروج من شقوقها ومكامنها وأخذت تزحف بعجالة مرعبة ناحية موقع الحدث حيث صوت المزمار المتعالي من المشهد السينمائي في الفيلم . زحفت بأعداد هائلة ومخيفة مندفعة من سفح الجبل ومن جحورها وبين شقوق الصخور وسط الظلمة ، لم يشعر بها أحد ، القرويون يتابعون الفيلم ، الفيلم الذي هو الآخر عرض لمشهد خروج الثعابين من المنزل على أيدي طاردي الثعابين .
كلما اقتربت ثعابين القرية من صوت مزمار الفيلم سارعت في زحفها نحو المشاهدين في باحة السينما ، حيث لم يكن هناك حاجز غير ستار من القماش والجمهور يفترش الأرض. بدأت الثعابين تقترب شيئاً فشيئاً حتى تسربت من بين القماش ، متجهة نحو صوت المزمار. وفي لحظة بدأ الهياج يحتدم في باحة السينما ، يتلوى بعضهم ويصارع آخرون غيلاناً ضخمة . لقد بدا المشهد من بعيد مرعباً للغاية ، أردتُ الركض ناحيته ، لكن جدتي جذبتني من ردائي صارخة في وجهي ومتوسلة : إياك يا حفيدي .. لا تذهب أرجوك ..
لم ينتبه أحد لصراخ الجمهور ، فأصواتهم لم تكد تصل إلى مسامعنا بقدر ما كنا نسمع صوت مزامير الفيلم وأصوات هياج الثعابين داخله وخارجه . ماالذي يجري ؟ يصيح كبار السن والمقعدين ، وكأنها صاعقة من السماء ضربت المكان وقلبت الأرض ،فقد تمكنت الثعابين من الحضور والتصقت بأجساد الجمهور ، وماهي إلا دقائق حتى تحولت السينما إلى ساحة من القتلى والدماء والأشلاء .
تدريجياً أخذ الظلام يعمّ المكان بعد أن انتهى الفيلم وانطفأ ضوء الشاشة . لقد انتهت المعركة .
الجثث فوق بعضها ، لم يسلم منهم أحد ، ومن استطاع بدءً مقاومة السّم لقى حتفه في منتصف الطريق أو على عتبة بيته . كان الرعب سيد الموقف .
قرر الباقون الرحيل وكنتُ أنا وجدتي في مقدمة النازحين من القرية ، تاركين خلفنا ذكرى مرعبة ، عانت منها جدتي لسنوات طويلة في أحلامها وهواجسها ولحظات خروج الرّوح من جسدها الطاهر .