حين تدور عجلة الدراجة الهوائية، يكون هناك كحل ليلي باق في عين الفجر، يخرج عبد الرحيم من الأزقة الرطبة، ورجلاه اللتان ألفتا (*الزنوبة الخضراء)، تكادان تلمسان الدواسة.. يخرج كشبح ضبابي، يتلفح بغطاء يزيد على حجم رأسه، يعطي علب العمال المنزلية ظهره.. يسكّت أنفه عن كل الروائح، ينسلّ بلا ضجيج، يعبر الطريق التي اعتادها ودخان سيجارته (*البيري) خلفه كخيط رماد، جرس (*الدراجة الصينية) يعلن عن مروره عند سكن زميله مرة، ومرة عن توقفه في المطبعة.
يحزم صحفه.. يثقل بها الخرج المثبت خلف الدراجة.. تستقر فيه من غير أي التفاتة، يشعل صدره بسيجارة أخرى، تنقص دلة الشاي كأساً، يتبادل وزملاؤه أحاديث شبيهة بـ(*قرقعة الحصباء).. يتحدثون عم موت عامل النظافة.. مازالت المطبعة تهدر وأصواتهم تزيد عليها، إنفضّ جمعهم كمجيئهم، حاملين صحفهم.. رزقهم وعوالمهم المنسية.
الآن.. يبدأ صبح عبد الرحيم.. أحاسيس بالانقباض والفَرَق .. ووجه يوم ثلاثاء مجدور، أي حزن هذا الذي يسرق منه فرح الفجر؟ موت عامل النظافة فاروق.. فاروق هذا كان أسمر خفيف اللحم مثله، من مدينته.. ضغط جرسه الصيني.. واصل الرنين المعدني، كان يريد أن يطرد هاجس الدفن هذا.. أن يوقظ فجر المدينة الحالم.
لعبت قدماه الدورة اليومية، بدأ فجره باتجاه الأبواب الكبيرة الموصدة.. شعور باليتم يسيطر عليه كلما اقترب منها.. لم يستطع أن يألفها، ولم تكن لتفتح له.. يلصق مثل كل يوم أخبار الدنيا في صناديقها ويذهب، من غير أن تدعوه أو يجسر على رؤية يقظة الصباح في عيونها.
تحرّكه نحو مكانه المعتاد لم يكن بنفس نشاط يوم أول شهر.. أحس بجريان زئبق في شرايينه ، ينضح من مسام جسده، يعيق حركة الدراجة ويثقل القدمين، حتى أعقاب (البيري) وقود الطريق لم تكن لتنزعه من الشرود غير المجدي.. من سماكة الملل.
إلى أن يستقر عبد الرحيم عند تقاطع الشوارع الأربعة تكون الشمس قد أبانت بعضاً من ملامحه.. نحيف، شديد السمرة كريشة غراب.. يغطي نصف بنطاله الأخضر قميص كان شديد الزرقة بالأمس.. لن تلبث أجيابه السفلى أن تتهدل من ثقل الدراهم المعدنية، سيبدأ من الآن تحريك الرأس وتدوير العينين، سيهادن كل الاتجاهات.. عليه أن يترك الساحة حين تقفر الشوارع، مثلما عليه أن يسبق عبور أول سيارة.
إسفلت الشارع يرتج تحت قدميه معلناً عم مقدم سيارات ستستقر في جوف المدينة، بعضها تبدو نزقة لا تحمل اللمعة الصباحية.. أخرى مثقلة بأعباء الدورة الشهرية المصرفية، تمر.. تقف عند قدميه.. وتبدأ الأيدي تنسل الصحف من حزمته.. تبتسم له بعض الوجوه المُصَلّية.. تناديه أفواه غير مفطرة، تلعن يقظة الصباح، دفاتر التوقيع.. ووجوه مدرائها، فيما يرفع هو صوته منادياً: (اتهاد.. كليج.. بيان).
حين ينزل زجاج نوافذ السيارات العجلى المتوقفة، يعرف عبد الرحيم وحده ماذا تفضّل هذه السيارة من الصحف؟ أو كم بقي لهذا الشخص من الدراهم العشر التي أعطاها إياه قبل أسبوع؟ أو أيا من هذه الشوارب المعقوفة تترقب صدور المجلات النسائية؟ تفاصيل صغيرة تسيّر يوم عبد الرحيم.
هناك نُطف ومُضغ من العلاقات غير المكتملة بينه وبين أشخاص وسيارات، بين ابتسامته وهزة رؤوس العابرين.. يستطيع أن يقرأ الشخص من يده، كانت أشد ما تثيره اليد المنتفخة المشعرة ذات الخاتم ذي الفص الكبير، في حين تضحك جسده الأيدي المبرومة ذات الأظافر الوردية.. كان يفرح قلبه منظر المرسيدس البيضاء التي تغوص في الأرض حين تتوقف، بقدر ما يضيق نَفَسه حين يغوص إصبع صاحبها في أنفه، وكأنه يحك جوف جمجمته.
رقصُ عبد الرحيم بين هذه الشوارع لا يحرمه من لحظات التأمل الشبيهة بفضول الهنود للشيء الجديد.. دلة الشاي التي يحضرها يجب أن يعود بها فارغة، وعلبة (البيري) الجديدة بالكاد توصله إلى منزله.. بين الحين والحين يرقب دراجته المسلسلة أمام كافتيريا محيي الدين، لم تدخل في نسيج أحلامه الدراجة الهوائية في الخليج.. كانت أحلامه ريفية كمالية فقيرة.
تبدأ وصلة الرقص الحقيقي المجنون لعبد الرحيم من الساعة السابعة حتى العاشرة.. بعد هذا يبدأ القفز بين الحين والآخر.. تمر به حافلات مدرسية يسمع في بعضها صراخاً، ضحكاً وأصواتاً كهديل ابنتيه.. يشيّع كل السيارات.. عمومية.. خصوصية.. عسكرية.. وسيارات عطايا المرحلة النفطية.
كانت أمنيته قبل سبع سنوات عجاف، حين ودع زوجته وطفلتيه أن يرجع لهن بسيارة.. وأشياء كثيرة يحببنها.. خطف نظرة إلى دراجته المستقرة، ومشت يده عكس منابت شعر لحيته غير الحليقة.
إشارة حمراء.. أبواق سيارات.. أصابع أيد تنادي.. التفاتة بانورامية سريعة.. يثب أمام نافذة لامعة.. ينادي:((اتهاد.. كليج.. بيان)).. يتقفز.. تشترك كل حواسه في المرور الحلزوني بين السيارات.. في غضون دقائق التوقف الإجباري، عليه أن يقبّض كل هذه الأيدي الممتدة، وقبل أن تفتح الإشارة عينها الخضراء، عليه أن يختم رقصة الأقدام شبه الحافية.
يقف، يستعد لرقصة جديدة.. ينظر إلى ربطة الصحف المستندة على الرصيف الاسمنتي، يغذي حزمته الفارغة.. يتذكر.. مرة ألح عليه سؤال.. ما جدوى هذه الصحف؟ وما سر العلاقة بينها وبين الناس؟ خاف من السؤال. رماه خارج عقله البسيط،حتى لم تذكره رسائله المستمرة إلى زوجته.. كان يخشى أن تنتقص من قدر عمله هذا.
حين فكر في المجيء تصور أعمالاً كثيرة سيقوم بها.. لكن مهنة بائع الصحف كانت وليدة الحاجة،ورهناً لعيني زوجته الفرحتين، وهي تعد له التلفزيون والثلاجة والخلاطة والملابس الملونة وأساور الذهب.. حين يرى فيها نشوة الاستحواذ هذه، يطلب منها ألا تفكر في شيء إلا تربية طفلتيه.
هذه المرة.. كتب لها ما لم يستطع قوله عند سفره أو كتابته في رسائله الأسبوعية.. صارحها لأول مرة بأنه لا يقوى على البقاء أكثر من هذا، وأنه بدأ يشعر بفحيح جسده آخر الليل.. وببرودة المدينة المتمنعة.. ويفضل الرجوع إلى ابنتيه ولها، وأن يكتفي بما يحصل عليه من أموال قليلة من فم مدينته مدراس.. تحسس الرسالة، ما تزال في جيبه، حينها أشعل سيجارة وتنفس بعمق.
يقف أمام سيارة صغيرة تنزل نافذتها بلا صوت، تسفر عن امرأة صيفية بهشاشة رغوة الحليب.. يبتسم لها من جوفه.. ترفع يدها.. تلقط من حزمتهبطرف إصبعين صحيفة إنجليزية.. يلمح الإبط العاري.. ينتفض.. ترتبك قدماه.. يفر إلى سيارة أخرى، يصيح بلذة: (اتهاد.. كليج.. بيان).
يلعن هذا الاضطراب الذي يخل بوظائف أعضاء الجسد.. يجعله يفكر في زوجته.. مرة يشتهيها.. يستلذ بمواقف له معها.. أحياناً يراها كقطعة لحم نيء.. يفكر فيها بسوء، يطرد هذه الشكوك ويلعنها في داخله.. يحنّ إليها، وعلى طفلتيه، ويقفز بفكره كقفزه بين السيارات، تتراءى له استدارة لحم كتف المرأة الصيفية، وتندي عرق أنثوي في تجويف عشبي.. يركض نحو الرصيف.. يستقر بلا مؤخرة على الاسمنت تعباً.. منهكاً.
تتوقف المرسيدس البيضاء.. يقوم عبد الرحيم بفرح طفولي.. يبتسم لصاحبها غير المشغول بشوائب أنفه هذه المرة.. يخترق زمناً مضى.. يتذكر صبياً بلون القار، يلعب في برك المستنقعات و(الفانيلة) المسوَدّة والسروال القصير المتفتق، ورحلات مدرسية لم تكتمل، ورفاق لا يعرف قبلتهم.
نظر للمرسيدس بعين المشتهي، بعد أن مسحها بقلبه، تساءل في نفسه: لماذا لم يفكر هذا الرجل في شراء صحيفة أو مجلة ولو لمرة واحدة؟
ضحك الرجل لعبد الرحيم وانطلقت المرسيدس بسرعة مع غمزة الإشارة الصفراء حاملة ضحكة صاحبها، وحلم الامتلاك.. بدت في عينيه من بعيد كاللبن الرائب.. كنعش أبيض تحمله رياح الظهيرة.. وضوءها الخلفي يكاد يبين، وهي تتوقف عند الإشارة الضوئية الحمراء.. الصفراء.. الخضراء.. الحمراء.
جمود عين تلتمع.. فرملة.. صوت آلات تنبيه.. فرملة.. رائحة احتراق عجلات، شمس معطشة، وأطراف باردة.. تمزق صوت إنساني.. تناثر صحف.. أصوات آلات تنبيه.. مغلف رسالة.. علبة سجائر شبه فارغة، نعال (زنوبة) خضراء مقلوبة على الاسفلت.. تناثر عملة معدنية.. عين زجاجية.. ودراجة مسلسلة عند كافتيريا محيي الدين.. إشارة حمراء.. صفراء..خضراء.. تجمهر، حشرجة أنفاس، وأسئلة وأجوبة تخرج من السيارات: (انهرس.. ذاب مع أحبار الصحف).
(تفحم من لظى ظهيرتنا.. إسفلتنا..عجلاتنا).
(يقال إنه استقر بجسده الهزيل على عمود في الصحف التي كان يبيعها).
(طار رماداً في عين المدينة التي لم تحبه، ولم يعرفها).
عيون تناظر بلا التفاتة.. شمس تظلّل الرؤوس..ومدينة تستفرغ السيارات الصباحية لتستعد لغذاء شرقي شهي.. إشارة حمراء.. صفراء.. خضراء..حمراء.. حمراء.
شهود العيان..
حبيب الصايغ:
(موت بائع الصحف “ماديكال”).
من كيرلا وهويته في جيبه.
وحبيبته تنقش بسمتها المعروقة في قلبه.
يسمعه رواد الشارع والمقهى والأرصفة المشنوقة.
يهمس فيهم كل صباح:
Good morning
ذات صباح مع وقت التنفيذ.
قتلته سيارة أجرة.
أعطاكم عمره.
في ذات الشارع.
عند الناصية المرة.
خلف البنك المكتظ بأرصدة السادة.
خليل قنديل:
(كوتي)
(( كوتي.. يقف منتصباً عند الشارة الضوئية، نحيل وأسمر، تلك السمرة التي تفعلها شمس آسيا في الجلد.. يمد ذراعاً نحيلاً، يحمل صحيفة وتحت إبطه يحمل رزماً من الصحف، يساعده جسده الخفيف على التنقل، وفي لحظة تندفع سيارة مجنونة ترتطم بجسد كوتي، يرتفع الجسد النحيل في الهواء قليلاً، ومن ثم يسقط على مقدمة السيارة، ينزلق الجسد، يستقر أمام العجلات، يلامس صدغه الإسفلت الساخن، تتحرك عينا كوتي في محجريهما بكسل لحمي، ومن ثم يغمضهما)).
محمود بوكاكيلات:
صديقه وشريك سكنه وغربته.
(( قتلته زوجته.. والسيارة الحلم.. والمدينة التي لا تعرف الشفقة)).
ريتشارد دين أندرسون:
(( إذا توقفت أمام الضوء الأصفر للإشارة، فإن شيئاً مهماً قد يفوتك في الطريق، وإذا عبرت، فقد تتعرض لحادث.. هذه هي الحياة))