ناصر الظاهري

ليلة ما حلم بموته – ناصر الظاهري

اعوذ بالله ..

هكذا صرخ عبد الخالق الخميسي.. فزعا من نومه، تحسس رقبته المتعرقة وصدره الضيق بانفاسه المتسارعة، أعوذ بالله .. رددها ثانية والغرفة الضيقة التي منحت له باقساط مريحة من قبل اسكان الدولة كانت تغط في ظلمة مخيفة لها رائحة الفساد، بسمل وحوقل ولعن الشيطان ودعى في داخله بطول العمر، نهض بخوفه وأشعل قنديل الضوء الوحيد المتدلي من السقف، وجلس على حافة السرير الخشبي، وضم صدغيه، عله يطرد الصداع وفزع الحلم، كان يريد أن يلملم روحه التي ترقص في صدره، شعر بتلبك في مصارين بطنه تدفعها ريح مضطربة ساخنة، لم يستطع الجلوس ولا الهدوء، كان كالملدوغ، ظل واجما واقفا وطلّق رجليه حسب ما تسمح به مساحة الغرفة، كان يقرأ الآيات القليلة التي يحفظها ويختمها بدعوة الستر واللطف في حلمه الذي لم يكن قادرا على حمل ثقله :” ليتني كنت حلمت بأنني معارض أو منتسب إلى خلية حزبية، ليتني حلمت أنني كنت مرشحا ضده، ليتني حلمت بأنني قمت بانقلاب عليه، ليتني حلمت بانشقاقي عليه وعلى حكمه.. أما أن أحلم به عاريا وأنا أركض خلفه.. وهو يترجاني ويستعطفني .. أي وحش كنت..”!

نهض وتوضأ وسبق إمام المسجد في حضور صلاة الفجر.. لم تكن عادته أن يصلي     وخاصة الفجر، والمسجد لا يعرفه إلا كعادة لصلاة الجمعة الوحيدة.. كان يريد أن يسكن روحه، ويطرد الخوف الذي انتابه وجعل فرائصه تتراقص وعضلاته تنتر بين لحظة    وأخرى دون إرادة منه، خرج من المسجد وشعر برعشة باردة تسكن أوصاله وبغثيان يصل إلى سقف حلقه، والخوف طائر خرافي يتبعه كظله، كان يشعر به يريد أن ينهش ظهره بمخالبه، كان الارتباك باديا عليه ويحرول خطى القدمين الثقيلتين، كان يتلفت يمنة ويسرة وإلى الخلف وعيناه زائغتان، وثمة غبش يعطل الرؤية، ولايجعله يرى إلا ذاك الحلم المرعب الذي جثى على صدره وأخرجه من عالمه البسيط إلى دوائر من الرعب تتربص به، وبايقاع يومه.

كانت تبريراته للحيرة التي جعلته يركن إلى السكوت والصمت والهمهمة في عمله،       وفي الحديث مع زملائه إلى بعض الأوجاع في معدته التي هاجمته ليلة الأمس، كانت أيامه كلها انكفاء على الذات والوحدة.

قل نومه الذي غدا كالدخول في تابوت أو قبر مظلم، شحب لونه وتغير إلى صفرة        وخضرة والدوائر السوداء غطت نصف خدوده النحيفة.

كان يهرب من شيء ما، ومن خوفه، ومن الناس الذين كان يرى فيهم أن بعضهم عارف بحلمه، كان يهرب من عيونهم، ومن حركات أيديهم العفوية التي يشعر بها تريد أن تكتم نفسه أو تسحبه إلى حفرة ضيقة ليطمر فيها حيا أو تشير إليه متهمة روحه السليبة.

كان يشعر أن الصور التي تصادفه في الشوارع والميادين تسخر منه، وعينا ذلك المصلوب في الصور بغطرسته تتوهج شررا وحمرة قاسية عليه.

كان يشعر بها تنهره وتأمره بالسكوت وتتوعده وتدفعه إلى الهروب إلى جهة ما.. بعيدا   ووحيدا.

ظلت الغرفة رطبة بعفونتها التي لم تر النور، ووحيدة إلا من شبح ذلك الحلم في تلك الليلة، بقيت الشوارع وحدها التي تضمه وتضم ليله، وذلك الركن الصغير الجدير بشحاذ معدم، كان يقتنص فيه نوما نهاريا متقطعا لا يكفي عجوز مرعوب من الجنازة.

كان يهرب من الليل قصد النوم، ومن زيارة الاحلام المفاجئة، كان يتمنى لو يستطيع أن يظل يركض ويركض هربا من أشياء يشعر أنها تحاصره أو تريد الفتك به، يتمنى لو كان قادرا على المشي إلى أقصى نقطة بعيدة لكي لا تلاحقه الأشياء والأوهام وثقل ذلك الحلم الذي له احساس انغراز قضيب حديدي صديء في لحم يجاور العظم، كانت استفاقته منه بعد أن فعل فعلته، ورأى ما رأى أن يخصى، وتسمل عيناه، ويترك في فضاء عار بعيداً تنهش جروحه غرابيب سود، كانت استفاقة مع صرخة قوية لم يكن حينها يميز في أي مكان هو، في الحلم كان أم يقظة مريرة، كان خجله عميقا يلاحقه رعب قاسي على انسان بسيط مثله، ظل يهرب.. ويهرب من الحلم ومن رؤية عيني ذلك الصنم التي تطلق شررها، والمتوقدة كالجمر تجاهه، والذي بقي يلاحقه شبحه، ويلاحق أيامه المضطربة، بقي هاربا من النوم حتى جف ماء جسده، وبدأ يذوي كنبتة برّية حرقها العطش حتى نام مرة.. ولم يحلم.. ولم يفق!