ناصر الظاهري

منتعلاً الملح.. وكفاه رماد – ناصر الظاهري

 

” يا صديق البحر.. كم مضى على خروج حورية البحر، أنت في زمن فحولة الجسد.. كانت..

وكنت..”

يطرأ عليه هذا النداء أو هو صيد الخاطر يهجم عليه بعد كل حين من التذكر الصامت أو حين يسحبه التأمل إلى مساحات كان فيها سيداً له صوته الزاجر أو حين يمد رجليه المتعبتين من رجفة المشي، ومحاولة إعادة إيقاع دبيبهما إلى ماضي زمنهما, حين كانتا تغوصان في مياه مالحة بحثا عن أعطال السفن أو حين كان بطلا لرمي القلة, ورياضات كان يتصدر مسابقاتها. قفزت عضلة صغيرة في الوجه الذي مازال يتسم بجمال ذكوري خشن كوضاءة وجوه الجنود الرومانيين العائدين إلى حاضرة إمبراطوريتهم.

سيماء المحارب هذا هو الانطباع الأول حين تلتقيه، ويستقبلك بصدره العريض، وبقايا تفتل في عضده وكتفه, وحين تسوقه القدمان المرتجفتان تشعر أنه جريح معركة لم يخضها بانتباه كبير.

“صديق البحر… لا يرى البحر إلا من بعيد”!

يوم خرجت حورية البحر من البيت عائدة إلى مائها، لم يتبعها، ولم يجر خلفها, تركها للزرقة،  وانضوى للداخل, للحب المنزلي, هو بعد اليوم بحره وهواه وبقايا حبه الذي عطّر البيت، أصبح نديما للآتين من جهة البحر, عشق حضورهم البهي لمدينته، وعشق الحديقة التي تسوّر منزله البحري، وتلذذ بإعداد المنزل بطريقة فردانية مذهلة, أصبح المطبخ وإعداد الأكل جزء من الهروب من الساعات والوقت, وجزء من انتقام من الشبح الأنثوي الخارج من البيت بلا رجعة.

اليوم.. يدخلن البيت حوريات، ويخرجن منه حوريات، كمظهر اعتاد عليه، ومنظر لا يوجع قلبه كثيراً، ما زال سيد نفسه، لا يذهب إلى أحد, يدير بحره وصيده من مكتب بيته.

مصلح السفن كانت مهنته حتى انغرزت الحدائد الصدئة في البحر في عظم الظهر, وحين جاورت الكلس جعلت الجسد ينكمش على الألم.

حين يتذكر تلك اللحظة التي انطفأت فيها عيناه، وغاب في الدم، يشعر حتى الآن، وكأن الألم يمشي في نسيج جلده فترجفه اللحظة، في تلك اللحظة شعر وكأنه حوت جريح في بحر خانه للتو.

يطبق على بقية الوسامة التي تسجنها الإعاقة اليوم, والقرار الأنثوي المفاجئ بالرحيل عن قبطان جريح وسط اليابسة, غير أن روح التحدي والمكابرة على الآلام قادرة أن تعطيانه تلك الرجولة الصلبة التي تجبر الجسد على عدم الانهزام.

تعثر الخطوة, يدخل إلى نفسه نوع من الخجل أو انكسار العين, بدا يكره أن تمشي أنفاس خلفه, يشعر وكأنها تعد خرز ظهره المتعطل، وتزيد من رجفة القدم، واضطراب إيقاعها.. يتمنى لو يعتدل الظهر كسابق عهده، وتنتظم القدمان، ويدخل مدينته كيوم كان عريساً، داخلاً دنيا حورية البحر أو خارجاً من زرقة بحر يحبه حد البكاء!

كان يذكر أمر اليوم الأول لرحيل حورية البحر، كما كان يذكر بكاءها، ويذكر شبه ترملها المبكر، وحين يبكي، كان يبكي نفسه ويبكيها، لكن مع الألم وكبر الأولاد أصبح شبحها شيئا مبهما في الضباب أو جزء لامعا في السراب, فقط ما ظل يتذكره هو صراخها بالرحيل، وشكواها الدائمة من ضجر البيت, لكنه كان يشعر بنار داخلها محتجة، وغاضبة من تحطم القدمين، واعتلال ظهر الرجل، وذلك التعرق العميق في الوجه المنطفئ بريقه في لحظات الوجد والمعاتبة ونواح الليل. 

صديق البحر يتقاسم اليوم همومه وتفاصيل حياته الصغيرة وحده، ومع الوحدة, والليل وهو, هو والساعات الطويلة إن أراد قصّرها, وإن أرادها تطول.. تطول، يغير زينة البيت، ويعيد ترتيب حديقته، ويستدعي الحمام الطائر ليمكث قليلا معه, يشرب من قطر مائه أو يلقط حباً متناثراً في زوايا المنزل، يضع قدرا من مآكل البحر أو يستعد لمؤونة الشتاء, ثمة سائق وفيّ، وخادمة وفيّة وثمة كلب قليلا ما ينبح وإن صادف ورأى ضيفا اخرج كل النباح الذي كاد أن ينساه, وهناك ثمة شجرات مخلصات في الصيف، وأخرى يابسات في الشتاء, وثمة شجرة ليمون تشبه واحدة يتذكرها في صباه، كان يفرح معها وبها، مازالت تخبئ شيئا من ثمرها وعطرها ومائها البارد, ثمة أشجار حمضيات متفاوتات في الطول، وعصفور وحوض يريح الجسد، ويفرح “صغاره” الذين لا يحب أن يكبروا حين يشاركونه عطلة الأسبوع بعيداً عن وصايا أمهم غير المبالية, قد تبقى شاشة التلفزيون الكبيرة صامتة رمادية لأيام, قد تنبعث موسيقى خارجة من صمت الجدران, قد تدور النافورة مرسلة بعضا من ألفتها، قد يكون هناك حوار بينها وبين المدفئة الصامتة، وتلك الفخارية المنبعثة من تاريخ المحرقة والدخان, ثمة دفء في المكان، وثمة خصوصية للأشياء ينقلها زوار صديق البحر, يتلمسها في عيونهم ومفرداتهم المتسارعة بالحب والفرح.

يقف صديق البحر.. ينظر إلى فضاء الزرقة, وزرقة الماء, يوزع جرحه الغائر في الصدر بهروب حورية البحر, وجرحه الغائر في الظهر بانغماس تلك الحديدة اللعينة الصدئة ببرود

وصلف ملح البحر, كان تلامس العظم تحكه قليلا وتسير في الجلد, كان لا يتوقع أن تتوقف تلك الإنغراسة حتى تصل إلى آخر عظام الرقبة، كان الموت في ذلك اليوم وفي الماء آخر ما كان يتوقعه بعد كل هذه المعانقة اليومية مع البحر، وهذا التحاور الجدي معه, كانت الحادثة إنذارا بالغدر, والغدر إن لم يكن من شخص ملاصق فلا يسمى غدرا, وحدها الأنفاس القريبة تستطيع أن تميز، وتستطيع أن تعطي مسمى للحريق الذي يحدث مرة واحدة!