كان فتى كثير السؤال، ودون غضاضة، وأسئلته يدور محورها حول الاستفهام، والاستغراب، والدهشة، والعجب، وعادة ما يكون يعرف هو جوابها أو بعضاً منه، لكنها إجابات مظللة، ومغبشة، وتستدعي دهشة الآخر، وعجبه، فهو في النهاية لا يمسّك الآخر شيئاً، غير قبض الريح، وحين يجيب الفتى يكون جوابه بطريقة حلزونية، لولبية، يشرّق، ويغرّب، حول كلمات متقاطعة، ومتقاربة، وعادة ما تكون جملاً غير مفيدة، لا تحمل أدنى فكرة.
ولأنه شخصية شرقية، وتربية شرقية، فهو دائم الاعتذار، ودائم التأسف، ودائم لوّام للنفس، ودائم هز الرأس، ودائم النحنحة، والحنحنة، والسعال من غير داع، ولأنه فتى يفقد في المدينة الأمومة، ويفقد أنوثة الحياة، وعطف الأيام، والتربيت على كتفه باستمرار، والسؤال عنه كثيراً، والاهتمام بملابسه المتسخة، ومدح حلاقته الجديدة.
غزا رأسه طيف امرأة مربّية أو أجبرتها ظروف الحياة في الخليج أن تعمل ممرضة، قدوة بتلك المرأة الإنجليزية فلورنس نايتنجيل مثلاً، ولأنها هي من تعيش ذلك الفقر الرجولي أيضاً، وسرعة تبدل الأيام، قبلته أن يكون وضعاً طارئاً أو ثؤلولاً زائداً، غير مضر بالصحة، وشرعت في إعادة ترميمه، وتربيته على يدها، وتقاليدها المتمسكة بها، والتي لا تعني اليوم شيئاً.
في بداية الأمر، استساغ فنجان الشاي بالحليب، والكعك في الخامسة مساء، فرح بالفطور الإنجليزي التافه في الثامنة صباحاً، فرح بالبيجاما القطنية، المقلمة بالأحمر والأزرق، والتي اشترتها له من محلات “ماركس آند سبنسر” بعد طول تدقيق، وتلك النعال الصوفية المنزلية التي كانت تخبّ فيها قدماه، ذكرته بجده الإسكندراني الذي كان يحب الأسفار وبضاعة الموانيء، غدا كفأر مدلل، وأذناه استطالتا حتى مداهما الأخير، أجبرته على تغيير ملابسه القطنية الداخلية بعد كل عودة للمنزل، وأن يستعمل غسول الغرغرة مرتين في اليوم، وأن يضع الجل الكثيف على شعره ليعطيه عمراً أصغر تحبه، لبّسته الألوان الإنجليزية المفضلة الرصاصي الغامق، والزيتي المخضّر، وبدلة كحلية تنفع لأكثر من مناسبة، حاولت أن تجعل منه شيئاً غير زملائها الممرضين، والذين لهم رائحة واحدة أقرب للنشادر، لكنها لم تحاول أن تعطيه ذلك القدر الذي يمكن أن يجعله مرحباً به بين أسرتها أو ضمن فريق أصدقائها الخُلص، كانت تختبره، وتعلمه النطق بلهجة أهل ويلز حيث الجدة الأولى، وصفاء الدم الأزرق، وهو غاية ما كان يريده، ويفرحه في الحياة، دون أن يتلكأ في الرد على جمل المناسبات المحفوظة، والجاهزة، مع انحناءة بسيطة كاذبة، كان يحلم بمشروعه الخاص منذ أول ليلة اندّس في الغطاء القطني البارد والمعطر، لكنه عرف التأجيل لأول مرة في حياته، وبهذا الطول، ودون مبرر يذكر.
ولما انفكت المسائل بينهما، كان عليه أن يعرف النوم لوحده، وعدم إزعاجها بالعطش، والشخير، وبالكح بمناسبة، وغير مناسبة، ومعنى الاستئذان، والشكر على كل شيء، حتى أبسط الأشياء، تعلم الأكل الممل من “سبينس” ومعنى رمي الزبالة قبل المغرب، وغسل السيارة كنوع من رياضة إجبارية، والرحلات آخر الأسبوع إلى المناطق الجبلية في الإمارات الشمالية، والاستمتاع بالطبيعة، ومعرفة المكان، والإنصات إلى الأوبرا يومي السبت والأحد، وأكل اللحم البارد المجفف يوم الثلاثاء، وتجنب لبس جوارب النايلون، لأنها تضر بالقدم على رأيها، والاستحمام بالصابون الإنجليزي الأحمر العتيق “لايف بوي” أو “ياردلي”.
كانت الأمور يمكن أن تجري كما تشتهي تلك المرأة الإنجليزية المتعالية، والمتصابية، والتي كانت كالتي تعلف عجلاً سميناً لتقدمه لأهلها في مناسبة محلية موعدها الشتاء دائماً، لولا طلبها العسير، والذي يبدو أنه لن يكون الأخير، وهو أن يخصص من وقته المهدور دائماً، بضع ساعات للقراءة، والقراءة الجادة، وإلزامه بشرب الكريب فروت والبرتقال صباح كل يوم، كان أيضاً يمكن أن يتحمل ذلك، ويتحمل تجنب لعق” الكاتشاب بالتشيبس” لكن لم يقدر على تحمل طلبها وعزرها، أن يقرأ بتمعن كتاباً يختص بتنمية الذكاء، وبناء الشخصية، حينها شعر فعلاً بأذنيه استطالتا، وبشعرهما قد وقف فجأة، وأن تلك النبرة الزاجرة، والعنجهية خدشت أذنيه، فقرر أن يرتدي لأول مرة منذ زمن غير قصير، حذاء غير إنجليزي، وبدون أربطة غير لازمة أحياناً، ويمكن الاستغناء عنها دون أن يتضرر أحدهم..