علي العبدان

المْهَـوِّب – علي العبدان

رسم: علي العبدان
رسم: علي العبدان

 

بعدَ أن أضاءت الشمسُ القرية الريفية وحقولَها، خرجَ حارِب إلى أرضِهِ الزراعية، كي يتفقدها إثرَ العاصفة التي هبّت ليلة البارِحة، فعَجِبَ إذ لم يَرَها تأثرت بالظرفِ السَمائيّ، فها هي مزروعاتُهُ كما هي، لم يتضَرَّر منها شيءٌ تقريباً، وكان من بين أهمّ محاصيلِهِ الزراعية البِطِّيخُ الأحمرُ مَحلّيُّ الأصل، الذي يُسمّونه “الجُحّ”، والذي كان أهمَّ الثِمارِ التي تُطلب، سواءٌ في الريفِ أم في المُدن، فكان حارب يبيع محاصيلَهُ الزراعية، وعلى رأسِها الجُحّ، بأسعارٍ لا بأسَ بها، تُبقيهِ مستورَ الحال، غيرَ محتاجٍ إلى أحد، ومُطمئِناً على نحوٍ ما.

إلا أن أموراً عدةً ظهرت في السنواتِ الأخيرة، أدخلت الكثيرَ من القلقِ إلى قلبِ حارِب، منها هجرةُ العديدِ من أهالي القرى الريفيّةِ إلى الساحل، حيث المُدُنُ الحديثةُ البَرّاقة، وكان حارِب لا يُحبّ الانتقالَ إلى المدينة، فأفزعته هذه الهجرة الجَماعية، ومن تلك الأمور أيضاً ركودُ السوق المحليّة في الآونةِ الأخيرة، وقِلّة المدخول، ومنها شُحُّ المياهالجوفيةِ مع نُدرةِ الأمطار، الأمر الذي يمنعُ سقيَ المزروعات بالقدر المطلوب، ويُهدّدُ مِن ثَمّ بالجفاف، ومنها تخلفُ ولدِهِ الوحيدِ أحمدَ ذي الثماني سنوات عن رَكبِ التعليم الممتاز، فهو يعيشُ معهُ بعيداً عن أيّة مدينةٍ تتوفرُ فيها المدارسُ ذاتُ المناهجِ التعليميةِ المُتقدِّمة، ومنها أيضاً شكوى زوجتِهِ المتكرّرة من بقائهم في القريةِ في الحين الذي ارتحلَ فيهِ أهلُها وكثيرٌ غيرُهم إلى مختلِفِ المُدن الكبيرة، تلك المُدن التي كان أكثرُها قد نشأَ على الساحل، وكان سُكّانُها في الماضي يستقبلون مختلِفَ البضائعِ والمُنتَجات عن طريق البحر، فضلاً عن البَرّ؛ مما لا يتوفرُ كثيراً في القُرى الريفية، وها هم سُكّانُ المدينةِ الآن يستمتعون بكل منتجات الدنيا التي ترِدُ عن طريق الجَوّ أيضاً، بالإضافةِ إلى توفر الوظائفِ وفُرَصِ العمل الكثيرة في المدينة، فكان ذلك كلهُ أمراً جذاباً بالنسبة إلى كثيرين في قريةِ حارِب، وفي غيرها من القرى أيضاً، كما كان أكثرَ جذباً بالنسبة إلى زوجته مريم، التي رأت كيفَ كُتِبَ لأهلِها “أسلوبُ حياةٍ” جديدٌ منذ انتقالهم إلى المدينة، إذ رأت في حسابات إخوتِها وأخواتِها في (الانستغرام) طوراً جديداً من “لقطات الحياة”، مثل صور المطاعم والمقاهي الراقية، والفنادق، والأسواق الحديثة، وناطحات الغيوم، و”الكورنيش”، وباتت صُوَرُهم أكثرَ بهاءً وألواناً، بعدَ أن كانت مقتصرةً على صُوَر النخل والحقل، والغُدران، والوديان، والتمر. وكانت السعادةُ تبدو بالِغةً حقاً على كلِّ مَن ارتحلَ إلى تلك المُدن وعاشَ فيها، وكانت الأخبارُ والحكاياتُ تصلُ إلى القُرى في الريف، ويسمعُ الناسُ عن مباهِج الحياةِ المعاصرة التي توفرُها تلك المُدن، لكنهم كانوا يسمعون عن كثيرٍ من الأمور السيّئةِ أيضاً، وكانت هذه الأمور السيّئة تزيدُ من قناعةِ حارِب بعدم الارتحال، إذ كان لا يثقُ في المدينة، ومن جانبٍ آخَر؛ كانت حالتهُ الماديّةُ لا تسمحُ لهُ بذلك. نعم، لقد ادّخَرَ مبلغاً من المال، لكنه لم يكن مستعداً للمغامرةِ به، غيرَ أن شكوى مريم المتكرّرة كانت قد تضخّمت مع الوقت، فأمسَتْ خِلافاً حادّاً مع زوجِها، يثورُ الفيْنةَ بعدَ الفيْنة، ولم يعُد حارب قادراً على إقناعِها بالعُدولِ عن رأيها.

خرجَ حارِب فجأةً من تفكيرِهِ الشاغِل بزوجتِه، حين وقعَ بصرُهُ على الفزّاعة التي نصَبَها في الحقل، أو ما يُسمّونه في قريتهم: “المْهَوِّب“، وقال:

– أوه، لقد أثّرت فيه العاصفة!

ثم قصَد إليه، وأخذ يُصلحُ من هيئتِه، ويُعيدُ إليهِ الكثيرَ من الملامح الإنسانية التي اضطربت أثناء هبوب العاصفة. ثم وقفَ يتأمّله كأنه يراهُ لأول مرة، وفي هذه الأثناء هَبَّ تيّارٌ من الرِيح تحرّك معه المْهَوِّب، فقد كان الوحيدَ في قريةِ حارِب وما حولَها الذي يُمكنهُ التحرُّك، لأنهُ أُقِيمَ على زُنبَرَكٍ كبير، وما زال الناسُ في تلك القُرى يَعجَبون لحارِب؛ كيفَ صنعَ هذا المهَوِّب المتحرِّك؟ ومن أين خَطَرَت له الفكرة؟ ولكنهُ كان قد باحَ لهم بحقيقةِ الأمر من قبل، وهي أنهُ رأى فزّاعةً في التلفزيون ضمنَ برنامجٍ توثيقيٍّ عن الزراعةِ في بلدٍ يُسمّى اسكتلندا، وكانت تلك الفزّاعة قائمةً على زنبرك، وكانت أكثرَ إخافةً للحيوانات والطيور من الفزّاعةِ الثابتة، وأنهُ عثرَ مرةً على زُنبَركٍ كبيرٍ للُعبةِ أطفالٍ مُهمَلةٍ في مُتَنَزَّهٍ قديمٍ مهجور، فأخذهُ إلى مزرعتِه، وأقامَ المهَوِّب عليه.

– صبّحك الله بالخير!

التفتَ حارِب جهةَ الصوت، فإذا به يرى جارَهُ سالماً على الطرفِ الآخَر من الحقل، رافعاً يدَهُ بتحية.

– صبّحك الله بالنور، حيّا اللهُ سالماً.

– كيف حالُك يا حارِب؟ عسى أن تكونَ بخير؟

الحمد لله، بخير ونعمة.

– الحمد لله. أتأمرُ بشيء؟

– ذخرٌ أنت يا سالم.

– إذن، اسمح لي، فأنا على عَجَل.

– ولكنْ يا سالم.. كأني سمعتُ بأنك راحلٌ إلى المدينة!

– نعم طالَ عمرُك، فقد وجدتُ عملاً هنالك، كما تيّسرَ لي الحصولُ على بيتٍ أيضاً.

– ولكن، ماذا عن مزرعتك، وبيتك هنا؟

– لقد بعتُهما، واحتفظتُ بالمال في حسابٍ مصرفيّ. أنت تعلمُ جيداً يا حارِب أن المياهَ والأمطارَ شحّت كثيراً في السنوات الأخيرة.

وهل سيجودُ الغيثُ إذا هاجرتَ إلى المدينة؟

– ربما لا، لكنّ الحياة في المدينة مستقرة، حتى وإن لم يأتِ الغيث.

– …

– في أمان الله يا حارِب.

في هذه الأثناء وصلت إلى أنفِ حارِب رائحة طعام من جهةِ بيتِه، يُسمّيه أهلُ القرية “بثيثة“، وهي مزيجٌ من طحينٍ مُحمّص، وتمرٍ بلا نوى، يُبَثّ في ذلك الطحين، وسمن غنمٍ بلديّ، وقد يُضيفون إليهِ قِطعَ الجوز أحياناً، وتخيّلَ حارِب نفسَهُ يُحلّي حلقَهُ بهذه الوجبة الدافئة، ثم ينتهي منها إلى تناول فنجانٍ أو أكثر من القهوةِ العربية كما هي العادة، فسالَ لُعابُه، وعادت بهِ قدَماهُ نحوَ البيت، وهو يقولُ في نفسِه:

– كيف يتركُ الناسُ هذا الطعامَ الجيّدَ ليأكلوا “الهمبرغر” في المدينة؟

ولكنْ لم يُقدَّر لحارِب أن يَهنأَ بإفطاره، إذ ما إن وضعت زوجتهُ طبقَ البثيثةِ بين يَديه وهو جالسٌ على الأرض؛ حتى باشَرَت الاستفسار:

– ألَم تُغيِّر رأيَك بعد؟

– أصبحنا وأصبحَ الملكُ للهِ الواحدِ القهّار، ماذا تريدين الآنَ يا مريم؟

– أريد أن أعرفَ مصيرَنا؛ هل سنلحقُ بـ..

– لا، لن نلحقَ بأحد، سنبقى في هذه القرية.

– ولكن لم يبقَ كثيرون هنا، أهلي رَحلوا، وكثيرٌ من أهلِك وغيرِهم من أهل القرية رَحلوا كذلك، وأنا أريدُ أن أعيشَ بالقربِ من أهلي والناس، كي أشعرَ بالطمأنينة.

لم يردَّ حارِب عليها، بل شَرَع في تناول إفطاره، فقرّبت مريمُ دلّةَ القهوةِ والفناجين، وصَبّت قهوةً في فنجانٍ قدّمتهُ إلى زوجها وهي تقولُ بلُطف:

– ألم تقل لي بنفسِك يوماً ما ذلك المَثلَ؛ “خَل بيتك بين البيوت، وقبرك بين القبور”؟ إن معظم الناس قد رحلوا إلى المدينة، ولم يبقَ في قريتِنا إلا قليل.

تناول حارِب فنجان القهوة من يدِها، وأخذ يرشُف في هدوء، فاستأنفت قائلةً:

– وابنُك أحمد؛ ألا تريدُ حياةً أفضلَ له؟ ألا تُريدُ تعليماً جيداً له؟

– …

إن أترابَهُ الآن في المدينة يتحدثون الإنجليزية، ويُساعدون أهاليَهمحين يحتاجون إلى اللغة، في صيدليةٍ، أو سوقٍ، أو.. ربما سَفَر.

– …

حارِب!

– …

حارِب رُدَّ عليَّ.. الآن يجب أن تردَّ عليّ.. الآن!

لم يردَّ عليها، بل مدَّ يدَهُ إلى دلّةِ القهوة، فأخذها، وصَبَّ في فنجانهِ المزيدَ من القهوة، الأمر الذي أوصلَ مريمَ إلى الحافّة، فقامت غَضْبَى إلى حجرتِها، فيما استمرَّ هو يرشفُ قهوته في هدوء، ويُفكرُ في عددِ المرّاتِ التي تحدّثا فيها عن هذا الموضوع، ولم يَلبَث أنْ فَزِعَ من صيحةٍ فوقَ رأسِه، أطلقتها زوجتهُ التي عادت إلى الصالةِ فجأةً، كي تُعبِّرَ عن نفادِ صبرِها تِجاهَ زوجِها، وسقط الفنجانُ من يدِ حارِب نتيجةَ الفزَع، فأحرَقَت القهوةُ الساخِنةُ قَدَمَه، فنهضَ غاضباً، ونظرَ بعيْنيْن حَمراوَيْن إلى زوجتهِ، لكنه قال في هدوء:

– إن النِسوةَ اللائي يُوسْوِسْنَ لكِ، ويُلْهِمْنَكِ سوءَ معاملتكِ لي، لن يَنفَعْنَكِ بشيء.

وفيما تراجعت مريمُ بعدَ هذا الكلام، وهي تنظرُ إلى زوجِها في صمت؛خرجَ حارِب إلى الحقل.

مضى النهارُ مشحوناً بالتوتر، ولم يكن المساءُ أفضلَ مُناخاً، إذ حين التقيا وجهاً لوجهٍ في حجرة النوم، ثارت عاصفةٌ أخرى من الاستفسارات والاحتجاجاتِ من قِبل مريم، التي لم تشأ أن تتخيَّلَ نفسَها تقضي بقيةَ عمرِها في القرية، وكانت تلك العاصفة تحملُ أسئلةً خَطِرَة:

– فيمَ يختلفُ عنكَ أولئك الرجالُ الذين ذهبوا بعائلاتِهم إلى المدينة؟ تقولُ لي إنك لا تملك ما يكفي من المال؟ هم أيضاً كذلك، لم يكونوا يملكون ما يكفي، لكنهم تعاضدوا، وتعاونوا، وتمكنوا من الحصول على وظائفَ وأعمالٍ جيدة.

– أنا أملكُ بعضَ المال، لكنه لا يكفي لشراء سكنٍ في المدينة.

– ليس من الضروريّ أن نشتريَ سكناً، بإمكاننا أن نؤجّرَ سكناً..

– لا، لا.. هذا ممنوع، إنهُ من المَعيبِ أن يؤجّرَ الرجلُ سكناً؛ فيكونَ تحتَ رحمةٍ المُؤجِّر، الذي قد يُذِلُّهُ بطلب الإيجار، أو يُهدّدهُ برفع قيمتِه، هذا لا يُطاقُ بالنسبةِ إلى رجلٍ مثلي.

– حسناً، فلْنسكن مع أهلك الذين انتقلوا إلى المدينة.

– لا، هذه كتلك.. لا أقبل.

– إذن، فلْنسكن مع أهلي، حتى يُدبّرَها الله.

– ماذا تقولين يا مريم؟ أهانَ عليكِ زوجُكِ إلى هذا الحَدّ، وماذا سيقولُ الناسُ عني؟

– أيُّ ناس؟ لم يبقَ ناسٌ في القرية، وإن كنتَ تقصدُ ناسَ المدينة؛ فهم مشغولون بأمورهم المُفعَمةِ بالحياة، ولا يجدون وقتاً للحديثِ عنك.

– مريم!

– هيّا أخبرني؛ فيمَ يختلفُ عنكَ أولئك الرجالُ الذين ذهبوا بعائلاتِهم إلى المدينة؟

– لا داعيَ للمقارَنات، قلتُ لكِ لا أستطيع الانتقالَ إلى المدينة.

– كيفَ لا تستطيع؟ هل أنا متزوّجةٌ برجلٍ أم ماذا؟

بعد أن قالت مريم ذلك، نظَرَ إليها حارِب في غَضَبٍ عارِم مُندهِشاً، لكنها ظلّت واقفةً أمامَهُ غيرَ مبالية، فهي تعلمُ أنهُ لم يرفع عليها يَداً قط.

لم يَنَمْ حارِب ليلتَها في غرفة الزوجية، بل استلقى على الأريكةِ المتواضعة في صالة البيت، وأخذت مريمُ أحمدَ معها إلى حجرة نومِها، وأغلقت الباب، وقفلتهُ بالمفتاح، الأمرُ الذي غاظَ حارباً، إذ شَعَرَ معهُ بالإهانة، فما المَغزى من قفل الباب؟ هل هو مشكوكٌ فيهِ إلى هذه الدرجة بالنسبة إلى زوجته؟ وكاد أن يقومَ إليها ليُجادِلَها، إلا أنه لزِمَ مكانَهُ على الأريكة، وكان الهَمُّ قد احتلَّ قلبَه، وأخذَ يُفكرُ في مُجملِ ما حصل، وتخيّلَ ما سيأتي في المستقبل من أمورٍ يخشاها، وتذكرَ المثلَ الذي كان كثيراً ما يسمعهُ من جَدِّهِ الراحِل: “إذا احتشَر جارك، ترى حَشْرك قريب”، ومضَت هذه الليلة، وأعقبها النهار.

في الضُحى، خرجت مريمُ بحَذَرٍ من غرفتِها؛ تظن أن زوجَها في البيت، لكنها أدركت أنهُ خرجَ مبكراً، إذ لم يُزِح الستارةَ عن نافذةِ الصالة، فنظرت في هاتِفها، لكنْ لم يكن على شاشتهِ شيءٌ يُذكر، فقصَدت إلى الباب الخارجيّ للمنزل، وألقت نظرةً فاحصةً إلى الحقل، لكنها لم تجد لزوجِها أثراً. وكانت رياحُ النهار النشِطة تُلاعِبُ سِيقانَ المزروعات، وأغصانَ الشُجيْرات، وكانت تُهَدْهِدُ المهَوِّب، فكان يترجَّحُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشِمال، فأفزعَ بذلك طَيْراً صغيراً. عند هذا المنظر، عادت مريمُ إلى داخل البيت، وكانت نادمةً على الطريقةِ التي عاملت بها زوجَها، فأرسلت رسالةً إلى حارِب، تعتذرُ فيها عمّا كان منها في الليلةِ الماضية، وظلّت بعدَ ذلك تنظرُ في هاتِفها، لعلّ زوجَها يبعثُ برسالةٍ جوابيةٍيُطمئِنُها بها، ولكنْ لم تكن شاشةُ الهاتفِ بأفضلَ من منظر الحقل الخالي. وبعد أن استيقظ ابنُها، انشغلت بإعداد طعامٍ له، ثم بإعدادِ طعام الغداء لها ولزوجها، ولكنّ حارباً لم يعد إلى البيت، كما أنه لم يردَّ على الهاتف حين كانت تحاول الاتصالَ به، ثم ارتفع أذانُ العصر.

اتصلت مريم ببعض الأقارب والجيران، على أمل أن تجدَ لديهم خبراً عن زوجها، لكنهم لم يُفيدوها بشيء، سوى أن ربَّ إحدى الأُسَر أخبرَها بأنهُ رأى حارباً يُصلّي معهم في المسجد، وكان هذا آخِرَ عهدِهِ به،فقالت مريمُ في نفسِها:

– ما دامَ قد صلّى العصرَ في القرية، فإذن هو قريبٌ وبخير.

ولكن حين دَنَت الشمسُ من مغيبِها دون أن يعودَ زوجُها، انشغلَ قلبُها مرةً أخرى، ولم تعرف ماذا تفعل. حاولت الاتصالَ بالهاتف، لكنّ زوجَها لا يرُدّ، ففكرت قليلاً، ونادت ابنَها أحمد، وقالت له:

اذهب إلى الحقل، وابحث عن أبيك، قُل لهُ إن أمي بحاجةٍ إليك، هل سمعتني؟

نعم يا أمي.

هيّا اذهب، ولكنْ لا تتعَدَّ الحقل.

وانطلقَ أحمدُ في الحقل يبحث عن والدِه، وظلّت أمهُ تنظرُ إليه حتى غابَ عن عينِها في الحقل، وإذ ذاك ازدادت قلقاً، خاصةً أن الظلامَ سيُحيط بالمكان بعد قليل، ولامَت نفسَها على إرسالِها ولدَها، فصاحت تُناديهِ كي يعود، إلا أن نِداءَها اختلطَ بصوت أذان المغرب، ولم يُجِبْها أحد.

في الحقل، كان أحمد يبحث عن أبيه مُنادياً، وظلّ يبحثُ ويبحث، حتىاقتربَ من المْهَوِّب دون أن يحسَّ بذلك بسبب ذهابِ ضوءِ الشمس، فلمّا انتبهَ إلى اقترابهِ منه رآهُ ساكناً تماماً، كإنسانٍ ميّت، وقد اصطبَغَ ببقايا ألوان الشمس الغائبة، فأثارَ هذا فُضولَه، إذ رآهُ أكثرَ من مرةٍ يتحركُ مع الهواء، فاقتربَ منه أكثرَ ليرى ما الأمر، فإذا بالمْهَوِّب يتحرّك قليلاً، ثم يُديرُ رأسَهُ ناحيةَ أحمد، الذي رأى ذلك فغَرِقَ قلبُهُ في الرعب. وفجأةً تحرّك المْهَوِّب ماشياً تجاه أحمد، فما كان من أحمد سوى أن انطلقَ جارياً نحوَ البيت، وهو يصيحُ بأمِّه فَزَعاً، وكان ينظرُ خلفَه بين لحظةٍ وأخرى، فيرى المْهَوِّب كشَبَحٍ يجري وراءَهُ بكل قوة. أما مريمُ التي سمعت صياحَ ابنِها قادماً من الحقل؛ فقد تقدّمت لترى ما الخَطب، وحين رأت المْهَوِّب يجري لَهْثانَ خلفَ ابنِها داخلَها فَزَعٌ كبير، فأخذت تصيحُ على ابنِها، وما إن وصلَ إليها حتى جذبته وأدخلتهُ من باب البيت، وأرادت أن تُغلقَ بابَ البيت، إلا أن المْهَوِّب كان قد وصلَ إلى الباب، ودفعهُ بقوةٍ ليدخل، وانتهت مريمُ وابنُها إلى الصالة، وحاولت أن تُغلقَ بابَ الصالةِ عليهما، وتقفله بالمفتاح، لكنّ المْهَوِّب دفعَ البابَ قبل أن تتمكن من ذلك، فأمسكت بيَدِ ابنِها، وحارَت فيما تفعل، فحَشَرَهُما الرُعبُ في إحدى زوايا الصالة، خلفَ الأريكةِ المتواضعة، حيث حصَرَهُما المْهَوِّب، وكان أحمد يبكي، وأطلقت مريمُ صرخةً، فكشَفَ المْهَوِّب عن وجهِه، وإذا بهِ حارِب يقفُ أمامَهما.

نَظَرا إليه في قلقٍ واستغرابٍ كبيريْن، لكنه لم يدَع لهما فرصةً للكلام، بلبادرَهما بقولِه:

– استعِدّا؛ فإننا سنهجرُ هذه القرية، ونرحلُ إلى المدينة، خلالَ الأيام القادمة.

– ولكنْ..

– قلتُ استعِدّا.