ناصر الظاهري

الليل.. رهان آخر – ناصر الظاهري

أسمر يشعرك بالقتامة، ضعيف البنية، تكاد عظمتا ركبتيه تبينان من خلف البنطال الواسع قليلاً حول الخصر، دائماً يربكك بوضع نظارته، هي عادة يومية، واستجابة غير إرادية حين محاولته دخول عوالم الآخرين، إذا ما وقف أمامك يحتار أين يضع يديه، خطواته مربكة، تحس أنه رجل دائم الإعتذار أو يريد أن يعتذر عن شيء ما، ربما لم يرتكبه في حياته، يتناوب على حراسة مدخل العمارة الرخامي، والذي كثيراً ما يسبب له برودة دائمة في العظام، يقرأ في ساعات الضجر، لكن نومه أكثر، دائم احمرار العينين، تحس أن ساعات كثيرة من النوم تنقصه، له راديو صغير يطل به على بلده، ويخلق عالمه المتوزع على أغاني الحنين، والحب البكائي التي تبثها الإذاعات ساعة تشعر ان العفونة تسربت إلى أشرطتها، يرغمه دخول الساكنين على تسكيت صوته أو خفضه كثيراً، يتكلم بإنجليزية صامتة، وخافتة، يتكسب من غسل سيارات الساكنين الذين كثيراً ما يبدون بوجوههم الشحيحة، وما يحمله من مشترياتهم وأغراضهم، راتبه لا يتعدى 800 درهم، حاله حال أمثاله من العمالة غير الماهرة أو هي الوظيفة المتاحة التي أجبرته الظروف على امتهانها!

تشفق عليه، وعلى حاله، ومن نحافة الجسم الشديدة التي بالكاد تحملها القدمان النحيلتان، هو محل صدقات الجميع، لا صداقاتهم، وحين تقتنص نظرة خاطفة لمرآه، وهو في ساعة خلوته، تذهب اصابعه مباشرة لإطار نظارته دافعة إياه للخلف، يسحب من سيجارته التي تتخللها سعلات متحشرجة وجارحة، تعتقد أن هموم الدنيا واقفة عنده لوحده، وتحتار فيما يفكر، وكيف سيوزع هذا الراتب الضئيل على كل الأفواه المفتوحة له عن بعيد، يقلق بعض يومك، ويحتل جزءاً من تفكيرك المتواصل في الإنسان، وتعب النهار، وحجم سماكة الليل، وتلك الغربة التي تحرمه من الدفء، والكثير من الفرح، وحين ينتبه لك، تخرج ابتسامته المجبر عليها أو التي تدرب عليها كاسراً ذلك الحاجز الذي تصنعه اللغة، والوضع الإجتماعي، والحاجة.

يبدو بقميصه الأزرق الفاتح أو الأبيض المهلهل، واللذين يتناوب على ارتدائهما كمشروع لمعدم، لن تسعفه الأيام كثيراً أو تضع في طريقة فجأة امرأة تجلب الحظ، وكثيراً من التغييرالملون، يغيب.. فتنسيك الحياة غيابه، يعود.. فتتذكره في الحال، وحين
تبصره تتداعى أمامك كل تفاصيله الصغيرة مرة واحدة، وحين تهم بدخول عالمه والسؤال، يخاف، ينظر للعقال الساكن فوق رأسك، يرتعب، ويتدثر باللغة غير الموصّلة، وحيلة قلة الفهم، وتلك الإبتسامة العرجاء التي يرسلها قدامه، لكي تضيء له قلوب الآخرين.
قبل أيام.. كانت ضجة عمالية، عواء في الليل المتأخر للمدينة شبه النائمة، قهقهات سكارى، وشتائم تخرج من أفواه الخاسرين في لعبة المغامرة والمقامرة، رائحة رطوبة وبلل دائم تفّح بها تلك الشقة الصغيرة التي يتوسدها أحد عشر عاملاً، والتي اكتشفها الناس فجأة تلك الليلة، قطيع نسائي ملطخ بالعطر الرخيص غادر المكان بسرعة، سألت بعض السكان والمتجمهرين كحرس الليل عن كل تلك الجلبة.

قالوا: تعرف الحارس في تلك العمارة ذات الزجاج الأخضر.

فحاولت أن أتذكر..

قالوا: الحارس الذي مرة كسب سيارة في جوائز السحب في المطار، وباعها بـ 250 ألف درهم قبل سنوات.

فحاولت أن أرتد بالذاكرة قليلاً..

قالوا: الحارس الذي يقول عنه مواطنوه أنه يملك عمارة في كوتشين.

حارس.. يملك عمارة!

أيّوه.. الحارس الذي شريك صاحب البقالة.

لا أعرفه.. ماذا حدث؟

كان يلعب القمار.. وكان هناك شجار!!