مرة·· اضطرتني الظروف أو أجبرني صديق لأحل محله في حضور الاجتماع التأسيسي لتكوين شركة مساهمة عامة، تختص بالاستثمار العقاري، ولأنه من باب أنني لست الرجل المناسب في المكان المناسب، ولأنني لا أعرف ما هو الفرق بين الشركة المساهمة العامة والشركة القابضة، وطول حياتي أتمنى أن أسال عن شيئين غير أنه الخجل ومشاغل الحياة، ماذا تعني الشركات بالثلاثة أحرف بعد اسمها وبينها نقط ذ·م·م؟ أو العضو المنتدب، وما هي طبيعة عمله بالضبط؟
المهم ذهبت لحضور الاجتماع في بيروت، لكوني كنت هناك، وتعذر على صديقي الحضور، فألحّ أن أحل محله، بعد أن أوصاني بكم شغلة، وطلب مني أن لا اسأل كثيراً، لأن هناك أشياء كثيرة بالتأكيد لن افهمها، ولا داعي لإحراج الآخرين في معرفة ما درسوه وما يعرفونه، وأصر عليّ أن أرتدي بدلة رسمية ذات لون كحلي مع ربطة عنق نبيذية، فقلت له: ليت كل الوصايا هكذا، فهو الشيء الوحيد الذي أعرفه، وأحبه كثيراً، واعتذرت له مقدماً، لأنني لا أحب أن أحمل في يدي حقيبة رجال الأعمال، لأنني ساعتها أشعر وكأنني أقرب إلى المختن أو المحجم·
دخلت وكانت بعض الهيبة الخائفة والانطباع الأول بالنظافة، مع سيماء النعمة البادية على الوجه الممتلئ عادة، واحمرار في الوجنتين كاذب، وتصنع الجدّية والكلام المنضبط قدر السؤال، مثل تلك الإجابات المحايدة، واستعمال بعض الكلمات البلاستيكية والمعلوكة، تسبقها دوماً كلمة عفواً.. أو عبارة من الصعوبة بمكان.. وبين فترة وأخرى عبارة عامة بالإنجليزي، ومع اللبنانيين عبارة عامة أخرى بالفرنسي، مع ملاحظتكم الطيبة أنني لم أقرب من لغة الأرقام التي تشعرني بوخزات في الخاصرة، ولا أعرف كلمة اقتصادية، وإن عرفتها بالعربية فلا أفهم معناها، كالتضخم ودورة رأس المال وغيرها، الشيء الوحيد الذي أعرفه هي كلمة السيولة.
كان الانطباع عن ابتسامتي السيراميكية مع حرارة السلام باليد، وهزها أكثر من مرة، أوحى أنني أتحدث بالدولارات، وأتمتع بتلك الثقة والعافية المالية، طبعاً لو فتشوا جيوبي، فلن يجدوا ألف دولار كاملاً، وبطاقات ائتمانية مضروبة ومطلوبة.
دخلنا الاجتماع ولا أحد يعرف الآخر، محامون ومحاسبون ورجال أعمال ومندسون ومنتفعون وخرّاطون وكذابون، جرت الجلسة التعارفية، وتبادلنا الـ”بزنيس كارت” طبعاً ما كان عندي ولا عمري عملته، فاعتذرت بلباقة ووعدتهم أن أزودهم به عبر البريد الأليكتروني – قال يعني أني فاهم كثيراً وعصري، و”E.Citizen “.
كنا خليطاً من الدول العربية مع جوازات كندا وأستراليا، تعبوا كثيراً في الحصول عليها، لكنهم كلهم أسنانهم تصّر، طالبة الفلس والدرهم، باحثة عن “انترست” في أي شيء، وكان هناك صف من الجلوس من الجيل الجديد الوارم الذين تشعر أنهم لا يغادرون مطاعم البيتزا مطلقاً، ورغم ذلك كان النجاح حليفهم دائماً، وأنهم ولدوا ليكونوا صيرفيين، طبعاً لا سمعوا بالحطيئة، ولا بأبي الشمقمق، ولا بالمدرسة التفكيكية، ولا بنص ما بعد الحداثة، والتي أعتقد أنني بارع فيها.
كل واحد منهم في يده هاتف مثل سبائك الذهب الكبيرة، وشنطة “لاب توب” وآلة حاسبة في جيب السترة، و “ماغ” لـ “أمريكان كوفي أوف كورس”.
دارت عيوني في الحضور بشكل بانورامي، وتنفست الصعداء قبل أن أقول كلمة واحدة.. وعرفت أنه يوم عاصف بلا جدال.
كنت مخلصاً لوصايا الصديق، لكنني لم أستطع أن أتخلص من الفضول القصصي، فالنظرة البانورامية الفاحصة للوجوه طالت، لأنه لا يمكنك أن تقدّر أن هذا الصوت ذا الرنين النقدي، هو لذلك الجالس في طرف الطاولة أو لذلك السمين المتصدر، كانت أصواتهم تحمل النبرة ذاتها، ربما هو صمت المكاتب المصرفية التي يعملون فيها، فرض عليهم مع الوقت تلك النبرة المتشابهة والمحترمة.
المهم بعد التقديم وأهمية الشركة والأهداف الاستراتيجية المنشودة، جاء دور القانونيين والمادة 17 والبند الثالث، والنقطة “ك” من البند العاشر من قانون تأسيس الشركات “أوف شور” وعطفاً على ما جاء في المقدمة والحيثيات وغيرها من الأمور التي تشعرك بالنعاس الذي عادة ما يأتي بعد ساعتين من الإفطار، فكيف إن كانت “ترويئة” لبنانية، بعدها جاء أصحاب الأرقام، وفجأة تحولت تلك الطاولة إلى آلات حاسبة، فشعرت بغبن وكأنني في حصة الحساب المملة، وشرح الأستاذ فايز، والتي تتمنى أن تمضي ساعتها دون أن تسأل أو يطلب منك الحضور إلى السبورة.
كانت مهمتي واضحة والتعليمات الصادرة إليّ دقيقة وحاسمة، ولأدعهم في غيهم يعمهون، لكن الخوف أن يطرح عليك سؤال خارج النص، خاصة من ذلك الأشيب الذي يبدو أنه اشتغل محامياً لشركات عديدة أفلست من قبل، ونظراته غير المقتنعة بي كثيراً، محاولاً مراراً التودد له بابتسامة كاذبة، والموافقة على آرائه غير الصائبة مسبقاً. تصنعت الصمت والوقار وهز الرأس، خاصة إذا ما مر مصطلح اقتصادي إنجليزي أو أثناء شرح جوقة الجيل الجديد الوارم عبر برنامج “باور بوينت” وهو أمر لم يمنعني من استراق النظر إلى أحذيتهم العريضة وذات المقاس 45 وفوق، والتي أرى أنها لا تتناسب وبدلهم، وتبدو مشتراة من محل واحد أو من دكانين متجاورين.
أسهل شيء كان رفع اليد بالموافقة أو المعارضة، طبعاً كنت من حزب الموافقين على الدوام، لأن المعارضة تتطلب منك طرح فكرة مغايرة أو المدافعة عن لا النافية، ولما أحس الحضور بحماسي الزائد، وأني مالئ يدي من الموضوع، أثنى عليّ بعضهم لتفهمي، ويقيني من جدوى الدراسات التي قدمت بشأن المشروع، فرددت الشكر بأحسن منه، وبكلمات مضللة لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل: يا أخوان كلنا جئنا هنا اليوم من أجل مصلحة واحدة مشتركة، يحدونا الأمل جميعاً أن نترجمها إلى نجاح لنا ولمشروعنا المستقبلي، الواعد.
خرجت بعض الهمهمات وعبارات المديح والحماسة، وحده الأشيب ظل غير مقتنع، فشعرت حينها أنه يكرهني من بعيد لبعيد، لأنني ربما أشبه ابن عمه الذي يغار منه والمهاجر إلى البرازيل والذي توفق، وكوّن ثروة يحسد عليها أو بسبب شيء من هذا القبيل، فرماني بجملة كالجمرة الخبيثة قائلاً: ولكن الأستاذ لم ينورنا بما يحمله في جعبته لمشروعنا، فأحسست أنه قليل الأدب وطفس، وإلا ما دخل الجعبة في مشروع اقتصادي استثماري، فصمت طويلاً، وقلت: يا أخوان نحن معكم قلباً وقالباً، ولكنني رجل عملي وكذلك في اعتقادي أنتم جميعاً، لذلك حينما حضرت اجتماعكم هذا ممثلاً عن مجموعتنا وكدت أقول القابضة، ثم تداركت الأمر، لأنها ربما لا تكون في محلها أو يمكن أن تلقي علينا بأعباء مالية إضافية، فاكتفيت بـ مجموعتنا حافة، وأردفت قائلاً: يا أخوان لقد جئت إلى هنا ومعي 30 شخصية اعتبارية لها وضعها المالي والاجتماعي، ويريدون أن يشتروا في مشروعنا، وهؤلاء سيجرّون وراءهم شخصيات أخرى، فليت كل الأخوة المؤسسين لديهم مثل هؤلاء الزبائن المهمين.
استبشر الجميع، وخرجت من الأشيب لأول مرة بسمة حامضة، استغللت الوضع الذي أحسب أنه كان في صالحي، وقلت: أتمنى أنني استطعت أن أجيب على تساؤل الأستاذ، والآن أعتقد أن الجميع وبعد هذه الساعات بحاجة إلى أمريكان كوفي..