في منزل صغير وضيق ملحق بمسجد ابتنى على نفقة إحدى الأرامل ظلت تبكي زوجها الذي سبقها إلى دار الآخرة طويلاً، وترك لها مالاً يزيد عن حاجتها الدنيوية، غير أنها ظلت تقبل غرباً صوب الكعبة المشرفة منذ الصباح، واشترت لها كفنها وحنوطها ووضعته في مندوسها، وأشترت داراً في الآخرة ببنائها ذاك المسجد الذي سيكتب على لوحته أسم أحد الصحابه لم تعرف عن جهاده الطويل، وأنه بني على نفقة فاطمة بنت فرج.
في هذا المسجد الذي بني بدون بذخ واضح كعادة الميسورين من أهل الدار، أستقرت أسرة نور الدين أحمد بادشاه سراج الدين الحافظ، ويبدو من أسمه الأخير أنه ينحدر من أسرة شخص حفظ القرآن كعادة أهل الهند والسند، والذي سيختصره أهل العين بكلمة واحدة المطوع ليغنيهم عن أسمه الطويل، والذي سيغيب عنه شخصيا من كثرة مكوثه هنا لقرابة ربع قرن، ولن يتذكره إلا حين يسافر إلى قريته في أحد الجبال المجاورة لمدينة بشاور.
أسرة المطوع ستكبر في المنزل الملحق بالمسجد، فالبنتان زهرة وإخلاص ستبدأن المشي في خير ذاك البيت، والولد ولي أحمد سيولد في حيزه، والبنت الثالثة نرجس كذلك، والصبي الأخير تقي الدين.
منزل المطوع الملحق بالمسجد سيكون أشبه بـ”كانتون” صغير لأسرة، المسجد هو كل فضائها، لا يزورها أحد، وهي لا تخرج بعيداً عن سوره إلا لزيارات قصيرة وخجولة لبعض بيوت الأهالي القريبين من المسجد في الأعياد والمناسبات، واللآتي يكثرن نساؤها من الحلف على زوجة المطوع أن لا تقطعهن من زيارتها، وهي تعدهن أن تفعل، ولا تفعل غالباً.
كان المنزل لا يستقبل إلا وجبات الطعام التي تأتي من حين لآخر، وبشكل شبه منتظم. أولاد المطوع الذين يلعبون خارجه أحياناً في العصر، وبجنب المسجد، سيلحظ الأهالي أنهم يكبرون بسرعة لتباعد فترات رؤيتهم من حين إلى حين، حتى حين سمع الجيران أن بنته البكر تزوجت أبن عمها صغيرة، ولم تعد يوماً إلى ذلك المنزل الذي استبدلته بحوش طيني، وغرفتين ومطبخ ملاصق في تلك الجبال البعيدة.
وحدها نرجس البنت الرابعة ظلت تكبر جنب ظل حائط المنزل، كانت جميلة العينين، لهما زرقه سابحة كغيمة واعدة، ووجه أبيض أكتسبته من برودة جبال تناطح السحب من مكانها، غير أنها كانت تغيب في وحدة ولحظات سهو، اشبه بغيبوبة فيها عافية الصحو، مع تيبس يذهب بلمحة الجمال الفطري، ويضفي عليها شيئاً من البلاهة غير المؤذية، كانت متوحدة، والنطق ظهر متعثراً.
بعد سنوات.. وبإهمال يبدو غير متعمد في اسرة فقيرة جاءت إلى هنا لتطعم أفواه كثيرة، كانت نرجس تكبر لوحدها ومع معضلتها، لم يكن الأهالي يرونها إلا كطيف طفولي يلاعب ظله، ويفرح ببرودة جدران المسجد، كانت نرجس تخرج أحياناً للدكاكين المجاورة لدور الأهالي والمسجد، تغيب لساعة لكنها ترجع للبيت، والمصلون كثيراً ما يرونها عند باب المسجد تنتظر أباها أن يتم صلاته وتسبيحه وتسننه، وهم حين يقتربون منها ويلمحون سر عينيها يصلون على النبي محمد، ويبتسمون لها، وبعضهم يمدها بورقة خضراء أم عشرة دراهم، رغم تعلل أبيها المطوع وتجشؤه فجأة، وشكره المتأخر للأهالي.
الفها الناس أكثر من أخوانها، وأصبحت قطعة من جدار المسجد، وبسمة تفاؤل للمصلين كبار السن، وكأنها حفيدة جاءت متأخرة بعد ولادة عسيرة حتى بعد أن شبت قليلاً، ووضعت قطعة قماش لامعة على رأسها لم تقدر أن تجعلها تستقر طويلاً على شعرها الكستنائي الناعم كملمس ظهر فرس.
كانت أحياناً تمشي حافية،وتضع نعليها في يديها أو جيبها، تظل تسمّر نظرها في الناس دون أي حديث، تذهب إلى دكان الهندي وتشتري حلوى، وبالكاد تنطق كلمة، فهي تشير إلى ما تريد، وتعطيه قطعة نقدية معدنية تعرقت كثيراً في يدها، وإن كانت لا تفي يظهر على الهندي حنيناً غائباً لإبنته البعيدة ربما، ويسامحها أو ينقصها مما تأخذ إن ظهرت ربويته التي تغذيها الغربة المرّة، لكن وجهها الذي يشبه هدية عيد الميلاد بشارة وبراءة يكفها عن الحديث، ويجعل الهندي لا يرد لها طلباً، وربما سجل على حساب أبيها الذي يتراكم حتى نهاية كل شهر، مع مناقشات شهرية دائمة بالأردو على ما سجل في تلك الورقة الكرتونية لعلبة الدخان من الداخل بخط مليباري أنيق ورفيع كان يعترض عليه المطوع على الدوام.
كان بعض الناس يعاملها على أساس أنها مشروع صبية بكماء أو أنها ستصاب بالصرع فجأة أو يدركها الجنون وهي ما زالت صغيرة، وحدهما عيناها كانتا تنفثان سرهما في صدور الناس، وقلما كانتا تجمعان دموع الصغار فيهما.
أم نرجس.. ليس لها رائحة في البيت، فهي ما أن تنتهي من إعداد طعام الفطور، حتى تعد الغداء، ثم العشاء المبكر بعد صلاة المطوع الأخيرة والذي لا يوترها إلا بعد منتصف الليل وحده، أصبحت لها رائحة قريبة من رائحة الطبخات التي لا تجتهد كثيراً في إعدادها، وحس لا يتعدى إلا النهر عن أن لا يفعل أولادها كذا وكذا.
أبو نرجس المطوع.. كان يتناوب على تعليم أولاده بما تيسر له من حفظ القرآن والأحاديث النبوية، وخاصة الأربعين النووية، وكتاب رياض الصالحين وبعض دروس العربية التي يتقنها ببراعة جذور تمتد إلى جد ينسلّ من شجرة الرسول من جانب حفيده الحسن، ويبدو أنه أكتفى بهذا التعليم له ولأبنائه، فمصير البنات الزواج مبكراً كعادة البشتون، ومصير الأولاد العمل أو الجهاد في جبال تريد الشرف والدين والزعامة والولاء، والستر على العرض من كل جانب.
لم يكن الأب ولا الأم يفهمان نرجس، وكان عليها أن تتوحد مع نفسها ومع همها وحظها الذي همست لها به خطفة ملك في ليلة كان القمر قريباً من عيون نرجس وحدها، وكانت أذناها معلقة بتراتيل خفية تصدر من أركان من المسجد غير قصيّة، كانت نرجس تحتاج إلى تربية خاصة في بيت غير ملحق بمسجد بني على نفقة أرملة بكت زوجها طويلاً، وفي أسرة لا تشترط أن يكون التنور مشتعلاً ليواصل وجبات اليوم، وتنتظر هبات أن يجاور المسجد بيوت المقتدرين.
أخوان نرجس.. كانوا يحبون نرجس، ولا يعرفون كيف يترجمون هذا الحب، فقط كانوا لا يتقصدون أذيتها بشجارات ومشاحنات الصغار، كانوا يتمنون أن تكبر مثلهم، وأن تصرخ مثلهم، وتلعب مثلهم، وأن لا تتفزز في مناماتها، وأن تبكي مثلهم، كانوا في ساعات حبهم وضجرهم يشتكون لأمهم، لماذا عيون نرجس الجميلة لا تعرف الدموع؟
في يوم عيد.. خرجت نرجس متحنية كعادتها تتبع ظل جدار منزلها، كانت تشم رائحة الحناء في تعرق يدها الذي يشبه رائحة الجنة، ولعبت تحت ظل شجرة قريبة، ونسيت نعليها، ثم تذكرتهما، وذهبت غير حافية لمرات قليلة لدكان البائع الهندي، ولأول مرة تشعر بأنوثتها المبكرة، وأن عينا ذئب تتبعانها، تعدان خطواتها غير المكتملة، تقتربان لملامسة جسدها الطري المنتفض، برّقت فيه عينا نرجس الزرقاوتان، وكادتا تبكيان بدموع لم تكن حاضرة، كغيمة سماوية بعيدة وواعدة، وصراخها كاد يسبقها، كانت خطوات الذئب أسرع، ورائحته تشربها رئتاها، وجسدها أشتعل، وشرقت بالخوف، ومخالب الذئب كادت أن تخدش بشرتها الصافية كحليب أم في رضاعتها المبكرة، لاذت بجدار المسجد، وجلست متكومة على خوفها، وكادت أن تغيب في صحوة التوحد.
رفعت رأسها، وتراءى لها كذئب يهرول من العطش، بدأ غائماً في عينيها، وحين أستقر كملمح هلامي، مد لها يداً مشعرة، وقطعة نقدية معدنية لم تتعرق طويلاً في يده، تكومت واضعة يديها كطوق حولها، شعرت بدوران، طالعته بعينيها المغرورقتين بماء أزرق كنف من سماء بارد، وحين مال قليلاً حثت في وجهه تراباً بقدر ما تسمح به اليد الصغيرة، وركضت داخلة المسجد، تراءى لها يتوضأ ويغسل وجهه، ويبلل لحيته السوداء الطويلة كجناح طير غير مرسل، خرجت تراءى لها قدام باب المسجد يسبّح، خرجت جنب شجرتها وظلها المطمئن، تراءى لها جالساً تحتها يقرأ فيما تيسر له من قصار السور، ركضت صوب البيت، تراءى لها انه يسبقها داخل البيت، ويحادث أبيها المقتنع بكلامه، ويعازره في صوت الرجال، فرّت إلى أمها، فتراءى لها أنه يسمع تقاطع نَفَسها، ويضاحك أمها، فرت من حضن أمها إلى غرفة أخوتها وجدتهم يتباكون وهم يلعقون حبات الحلوى المعسلة والقادمة من باكستان في علبة معدنية مكتوب عليها بحروف أردية، جلست وتناولت قطعة ذابت في فمها واختلطت بنشيجها المتقطع، وحين هدأت قليلاً لفت بالشادور، وتليت آيات من القرآن منتقاة، وأمتدحوا قدامها فضيلة الزواج المبكر، وتأسى أبوها بالرسول والسيدة عائشة، ومباركة السماء لزواج من في عمرها، أبنة عشر، وفي رواية أخرى أبنة ثلاثة عشر.
تراءى لها وهو يقدم علبة فضية فيها كحل أثمد جلبه تاجر أفغاني من مكة، وطلب من أمها أن تكحلها ليزيد من عمرها أعواماً، وهو يقدم مهرها لأبيها وولي نعمتها ووكيلها، وهو يقدم لأمها ثوباً أحمر مرقّشاً لايناسبها، وزجاجات عطرية رخيصة أخذت على عجل من مركب ومازج الروائح المحلي، اقترب وهو يقدم لها غطاء الرأس الموشى بخيوط مذهبة، يزعم أن أمه حاكته بيدها، تراءى لها في كل مكان حتى كاد أن يسد عليها نقطة النظر، ويخالط أنفاسها نفس يفح بخلطة النسوار الخضراء، ورائحة الفحولة، شعرت بحائط يبنى حول طفولتها البَرّية، ويكون سميكاً.. سميكاً يطوقها بلا نوافذ، وباب صغير ووحيد يطل على مرآى الذئب المهرول عطشاً، والذي يحمل في يده المشعرة عملة معدنية، وفي اليد الأخرى علبة حلوى معسلة قادمة من باكستان أشتهاها أبوها المطوع، وضحّكت سن الأم التي بلا رائحة، وجعلت من أخوتها يأكلون وينامون، ثم يبكون، لأنهم يحبون نرجس، ولا يعرفون كيف يحبونها.. نرجس وحدها ذهبت في وحدتها البعيدة تزكمها رائحة الذئب العطش، وخشونة يده المشعرة.