الشيخ صالح إمام مسجد حيِّنا كثير العتب على الرجال لعدم حضورهم أغلب الفروض في المسجد بينما تضيق بهم مساحته في فرضي المغرب، والعشاء.. وبالمقابل كان معجباً بأبي عبد الله، ويشكر له حرصه على أداء أغلب الفروض خلفه، وما كان الرجل يكتفي بذلك وحده، وإنما يحث أبناءه على ذلك أيضاً، ويحضر الصغار منهم معه.. وعندما حل شهر رمضان المبارك وجد الرجل الكريم يحضر من بيته طعاماً كافياً لكل عابر سبيل اعتاد الإفطار في المسجد.. يقاوم إغراء مائدة عامرة بالأطايب في بيته، ويتناول تمرات، ولقيمات خفيفة في المسجد كي لا تفوته جماعة المغرب، لكن ما حدث منه ذات يوم كان أمراً غريباً، وحكاية عجيبة مضحكة ما ذكرها الشيخ صالح إلّا ابتسم رغم أنه قد عانى منها حين حدوثها…
كان فريق الحضارم في ذلك الحين حياً مقذوفاً به بعيداً عن مدينة أبوظبي تفصله عن آخر شوارعها الرسمية.. شارع الدفاع مسافة كبيرة من الرمال يخترقها الطريق الاسفلتي العام المتجه إلى مطار البطين.. مطار أبوظبي القديم، ثم جسر المقطع الذي يربط الجزيرة العاصمة ببقية مناطق الإمارة، والإمارات الأخرى.. وبعد ذلك لا توجد بين الحي والمطار إلّا مساحة أخرى من الرمال تتخللها المنطقة الصناعية القديمة، وعدد كبير من المستودعات الخاصة بالبلدية، وبعض الشركات.. تلك الأيام لم يكن كل واحد من سكان الفريق قادراً على اقتناء سيارة، وعلى من أراد الذهاب إلى قلب المدينة أن ينتظر حافلة النقل العام التي كثيراً ما تتأخر، أو تبدل مواعيدها.. والخيار الثاني السير إلى الشارع العام الآتي من ناحية المطار أملاً في أن تقف له إحدى السيارات العابرة التي يكون أغلبها مكتظاً بالركاب…
ذلك اليوم كان الشيخ صالح متجهاً من سوق المدينة القديم إلى محطة الحافلات ليعود إلى الفريق بعد أن ابتاع لوازم منزلية لم تتوفر في حوانيت الحي.. الوقت ما زال ضحىً، لكنه تعمّد العودة باكراً استعداداً لصلاة الظهر.. وفجأة توقفت بمحاذاته سيارة مازدا ۹۲۹ بيضاء، فنظر إلى جوفها ليجد أبا عبد الله يلوح له مبتسماً:
… عائد إلى الفريق، «يا بو عبد الله»؟..
… أي نعم.. تعال معي.. خير لك من انتظار الحافلة، وازدحامها..
لكن أبا عبد الله بعد أن وجه السيارة نحو الفريق عاد فأدارها في اتجاه آخر:
… سأرى واحداً في هذا المكتب.. لن يستغرق الأمر سوى دقائق.. تعال معي..
فإذا بالدقائق تمتد إلى نصف ساعة تناولا خلالها شاياً، وقهوة.. وبعد أن عادا، وانطلقا نحو الفريق أدار السيارة فجأة نحو طريق آخر مرة أخرى:
.. أووه.. تذكرت.. في السيارة حاجة منسية منذ يومين سأسلمها إلى واحد في هذا المتجر..
… «يا بو عبد الله» سنتأخر عن الصلاة، جزاك الله خيراً..
.. لا تقلق.. سنصل في الوقت المناسب إن شاء الله.. «دقيقتين فقط»..
ثم توقف مرة ثالثة لشراء حاجة هامة جداً يحتاجها البيت.. ومرة رابعة توقف في الشارع عشر دقائق لمحادثة صديق أشار إليه بالوقوف بصورة ملحة، فاضطر الشيخ صالح لترك السيارة والاتجاه إلى أقرب المساجد لأداء صلاة الظهر بعد أن أيقن باستحالة أدائها في الحي، وعندما سلم وجد أبا عبد الله يصلي معه، وبعد أن انطلقا مرة أخرى تذكر أبو عبد الله صندوق البريد، فعاد إليه، ثم فاتورة الكهرباء، والهاتف.. ويبدو أنهما قد صليا العصر بنفس الكيفية، ثم طرأ أمر خامس، وسادس.. كلما عزم الشيخ صالح على ترك أبي عبد الله يائساً، والتوجه إلى موقف الحافلات أقنعه أبو عبد الله بأنها المرة الأخيرة…
يقال، والله أعلم بأن الشيخ صالح لم يؤم الناس بمسجد الفريق في ذلك اليوم إلّا في صلاة المغرب، وربما العشاء.. كما يقال أيضاً بأنه كلما واجه أبا عبد الله منذ ذلك اليوم في أحد شوارع المدينة هرب إلى شارع آخر كي لا تتكرر المأساة.. علم الشيخ فيما بعد بأن الرجل متزن، ومحافظ على صلواته عدا أنه كلما غادر بيته لم يستطع أهله أن يحددوا متى سيعود إليه.. عادة تسبب لأبي عبد الله حرجاً شديداً، ويريد التخلص منها، لكنه لا يستطيع.. أما الشيخ صالح فقد أصبح مرأى أبي عبد الله يذكره بتلك الحادثة، ثم يجد نفسه غير قادر على مقاومة الضحك…
العين
16/12/1999
برفقةِ أبي عبد الله – من المجموعة القصصية (شيء من هذا القبيل)