علي العبدان

الشَقيقتان

كانت صالِحةُ فَرِحَةً أشدَّ ما يكونُ الفَرَحُ بزواجِ أخيها، لا لأنها تُحِبُ أخاها؛ بل لأنها أحبّت زوجتَهُ الشابّة أماني، ورَأت فيها الأختَ التي لم تَلِدها أُمُّها، فقد كانت صالحة الابنةَ الوحيدةَ في عائلتِها.

الشقيقتان – رسم علي العبدان

 

وأما بقيّةُ الأولادِ فأبناءٌ ذكور، وهُم أكبرُ منها سِناً، وقد عانَت من تحكُّمِهم فيها بعدَ وفاةِ أبيهم، أما حين كان أبوها حيّاً فقد كان يأخذها إلى “المطوّعة” لتتعلّمَ القراءةَ والكتابة، ومبادئَ الحِساب، ونحوَ ذلك من المعارفِ والمهارات، كما كان يصطحِبُها معه إلى السوق، حيث يشتري لها “اصبيعات”، وهي حَلاوى في شكل أصابعَ مُلَوّنة؛ كانت صالحة تُحِبُّها، وكان أبوها يُسَرُّ بسرورِها، ويرجو سعادتَها. وفي أواسط الستينيّات بُنِيَت المدارسُ الحديثة، وانتهى وجودُ الكتاتيب، فكانت صالحة تودُّ أن تلتحِقَ بإحدى تلك المدارس كي تعودَ إلى مصاحبةِ البنات، واللعبِ معهنّ، لكنّ موتَ أبيها أفسَحَ مجالاً لإخوتِها كي يُقيِّدوا حُرّيتَها، فمنعوها من الدراسة، بل حتى من اللعبِ مع بناتِ الجيران، ولم يسمحوا لها بالخروج إلا لضرورةٍ أو حاجة، وذلك بسبب ما حدثَ في أحدِ الأيام؛ حين كانت صالحة تلعبُ مع صديقتِها على الأرجوحةِ المُعلَّقةِ بشجرةِ غافٍ كبيرة، تقعُ على الزاوية بين بيتها وبيتِ صديقتِها، ففي أثناءِ ذلك نزلت صالحة عن الأرجوحةِ كي تسمحَ لصديقتِها باللعب؛ دون أن تشعُرَ ببُقعةِ دَمٍ لطَّخت ثوبَها من الخلف، وفي هذه الأثناء كان أحدُ إخوتِها على سطح منزلِهم يُعالِجُ أمراً ما، فقُدِّرَ لهُ أن يُلقيَ نظرةً إلى أسفل البيت من جهةِ الغافة في الخارج، فرأى أختَه، ورأى الدمَ على ثوبِها من الخلف، ورأى شابّاً مُريباً يسيرُ في السِكّةِ وهو ينظرُ إليها، فهُرِعَ نازِلاً إلى الخارج، وحين وصلَ إلى حيثُ الغافة لم يَرَ أحداً؛ لا أختَهُ، ولا صديقتَها، ولا الشاب، فعادَ إلى بيتِهم الذي لم يكن فيه غيرُ أُمِّه، فأخبرَها بما جرى. وأما صالحة فكانت قد أخذتها جارتُهم أمُّ صديقتِها إلى داخلِ بيتِها، ونظّفتها، وثفَّرتها، ثم أخذتها إلى الخارج لِتُوصِلَها إلى بيتِ أهلِها، وعند الغافةِ التَقت بهما أُمُّ صالحة؛ التي كانت فَزِعةً، وسألت جارَتها وقلبُها يكادُ يتوقف:

– ما الذي جرى للبنت؟

ابتسمت الجارة، وقالت في هدوءٍ وهي تضعُ يدَها على ظهرِ صالحة:

– ما شاء الله، لقد أصبحت صالحة امرأة.

– آه، إذن هذا ما كتبَهُ اللهُ على بناتِ آدم.

لم تفهم صالحة ما معنى أنها “أصبحت امرأة”، وبالرَغم من أنها لم ترتكِب أيّةَ خطيئة؛ فقد منعَها إخوتُها – بعد أن علموا جميعاً بما جرى – من الخروج للعبِ مع البنات، ومنعوها كذلك من الدراسة، ولم تكن أُمُّها قادرةً على فعل شيء، بل لعلها كانت تُفضِّلُ أبناءَها الذكورَ على صالحة، فهم مَن يُؤمِّنُ احتياجاتِ البيت.

في بدايةِ السبعينيات تركت عائلةُ صالحة البيتَ القديم، وانتقلوا إلى بيتٍ مبنيٍّ من الطابوق والإسمنت، وكان الأمرُ الجيّدُ أن هذا البيتَ دخلَتهُ الكهرباءُ والمياه، وبعدَ مُدةٍ اشترى أحدُ إخوةِ صالحة جهازَ تلفزيون صغيراً، كي يُتابعَ فيه مع إخوتِهِ الأخبارَ والمُبارَيات، والبرامجَ الترفيهيةَ الأخرى، وفي البدايةِ أُعجِبت صالحة بهذا الجهاز، الذي يُظهِرُ الحياةَ بالأبيضِ والأسود، وكان أكثرُ ما يُعجِبُها هو مشاهدةُ الرسوم المتحرّكة، والفتياتِ اللاتي يرقصن في الأغاني الخليجية، ولكن بمرور الوقت ملّت صالحة هذا الجهاز، واشتاقت إلى صديقاتِها، واللعبِ معهنّ، فهي لم تتعَدَّ الخامسةَ عشرة من عُمرِها بعد؛ بالرَغم من أنهم يعدّونها الآن فتاةً بالِغة، وكان المنزلُ الجديد، والتلفزيونُ المُزعِج، وضحكاتُ إخوتِها، وتدخينُهم، ولا مُبالاةُ أُمِّها، والانقطاعُ عن صديقاتِ الطفولة؛ كان ذلك كلهُ يبعثُ الضِيقَ في نفس صالحة، ويُشعِرُها بالقهر. وحين تزوّجَ أخوها الكبير أَمِلَت صالحة في أن تُصادِقَ زوجتَه، لكنّ زوجةَ أخيها كانت بليدةَ المشاعر، لا تهتم إلا بحُجرتِها والمطبخ، ولا تزيدُ في المُجاملة على الابتسام الصامت، فزادَ هذا من شعور صالحة بالوَحشة والوَحدانيّة، ولم تعُد تُطيقُ الخروجَ من حُجرتِها التي تُشارِكُها فيها أُمُّها، وكانت تقضي الوقتَ في الاستماع للأغاني من مذياعٍ صغير؛ حينَ لا تكونُ أُمُّها نائمة.

بعد سنوات، تزوّجَ أخوها الآخَرُ أماني، وهي فتاةٌ شابّة، حَسَنةُ المَظهر، تبدو الحيويةُ على مُحيّاها وجسدِها، وكانت لطيفةً جداً مع صالحة منذ أيام الخطوبة، ومع مرور الوقت ظهرَ نوعٌ من التعلُّق العاطفيّ بين الفتاتيْن؛ خاصةً من جانب صالحة، فأحبّت كلٌ منهما الأخرى، وكانتا متقاربتيْن في السِن، وحتى في الذوق، وتغيّرت عاداتُ صالحة مع مَجيءِ أماني، فأصبحت تقومُ من النوم باكراً، وتذهبُ مع أماني إلى المطبخ لإعداد “الريوق”، أو طعام الإفطار، بكل سعادةٍ وانشراح صدر، وتعلّمت صالحة كيف تعجنُ وتخبز، وذلك كي تقضيَ أطولَ وقتٍ ممكنٍ مع أماني، وحين ينتهي الرجالُ من طعامهم؛ ويذهبون إلى أعمالهم؛ تجلسُ الفتاتان وتتناولانَ إفطارَهما بكل مَرَحٍ وتلذُّذٍ على أنغام أغاني الصباح من المذياع الصغير، وكانت صالحة هي الأكثر سعادةً برفقةِ أماني؛ التي كانت بالنسبةِ لها فعلاً كالأماني التي تتحقق، ووصلَ بهما الأمرُ إلى حدّ تشغيلِ الأغاني، والرقص معاً في حَوْش البيت، أمامَ ناظِرَي كلٍّ من أُمِّ صالحة، وزوجةِ الأخ الكبير. ولم تَعبأ الفتاتانِ بشيء، وقد ابتدَعتا لُعبةً سَمّتاها “مروحة الدنيا”، فكانت كلٌ منهما تقفُ مُقابِلةً الأخرى، وتمُدُّ يَديها لتُمسِكَ بيَدي صديقتِها، ثم تدورانِ بسرعةٍ على قدمَيْهما المُتقاربتيْن، وهما مُمسِكتانِ ببعض، ويتطايرُ شَعرُ كلٍّ منهما بنعومةٍ في ضِياءِ شمس الصباح، ولم تكن أُمُّ صالحة لِتُخطِئَ فهمَ ذلك اللمعانِ القويِّ الذي يَبرُقُ من عَيني ابنتِها وهي تمتازُ من السعادة، ولا فهمَ الحُبورِ الذي يملأُ مُحَيّاها، أو ذلك التبسُّمِ الضاحِك، ورأت أُمُّ صالحة في ذلك كلهِ أمراً طيباً، ما دامَ قد نفَّسَ عن ابنتِها، وعَوَّضَها حِرمانَها من صداقاتِ الطفولة.

كانت أماني تشعرُ بمِقدار السعادةِ التي تبعثُها في نفس صالحة، لكنها كانت تشعرُ أحياناً بأن صالحة تحاولُ أن تتملَّكها، وكانت تستغرِبُ في نفسِها ما تقومُ به صالحة من مصارحتِها بكلّ شيءٍ يتعلقُ بحياتِها؛ بكل تفصيل، فيما يُشبِهُ سَردَ قصة، بما في ذلك مشاعرُها تجاهَ إخوتِها الذكور، وكانت كثيراً ما تُكرِّرُ سردَ قصّتِها، وكأنها مريضٌ يَهذي، وقالت مرةً لأماني:

– أتعلمين أنني تَوْأَمَة؟

– حقاً؟

– نعم، لكنّ تَوْأَمي كان ذكراً أيضاً، والحمدلله أنهُ وُلِدَ مَيِّتاً، ويبدو أنني رفستُهُ ونحن معاً في بطن أُمّي؛ فَمات.. حتى في الحَمْلِ يُزاحِمُني ذَكر، ما هذه الحياة؟ لَيْتَهُ كان أُنثى؛ لَكانت ليَ الآنَ شقيقة.

قالت أماني وهي تبتسِمُ بتواضع؛ وتضعُ يدَها على يَدِ صالحة:

– لا بأسَ؛ فأنا الآنَ شقيقتُك.

رَدّت صالحة وهي منفعِلةٌ من أَثَرِ السُرور:

– نعم، نحنُ شقيقتان!

ومَرّت شهورٌ تنعّمَت فيها صالحة بسعادةٍ غامِرة، لاحظها جميعُ من في البيت، كما لاحظوا مدى حُبِّها لأماني.

في صباح أحد الأيام كانت صالحة تستمعُ إلى المذياع في المطبخ، وهي تنتظِرُ أماني كي تُعِدّا معاً طعامَ الإفطار، لكنّ أماني لم تظهر من حجرتِها، وحين قارَبَ الوقتُ العاشرةَ صباحاً؛ سمعت صالحة بابَ حجرة أماني يُفتح، ففرِحت بذلك، لكنها فُوجئت بأماني ترتدي ملابسَ الخروج، فسألتها:

– إلى أين؟

– سأذهبُ لزيارة أهلي، اشتقتُ لهم، لم أرَهم منذ مدة.

– لا بأس، سَلّمي على أُمِّك.

كانت أماني قبلَ ذلك تذهبُ إلى بيتِ أهلِها رِفقةَ زوجِها، أما اليوم فهي تذهبُ وَحدَها، وستسيرُ مشياً على قَدَميْها، فبيتُ أهلِها لا يبعدُ سِوى كيلومترٍ واحدٍ تقريباً من بيتِ عائلةِ زوجِها، وفي الأشهر القليلةِ اللاحقة استمرّت أماني في الخروجِ وحدَها في ساعاتِ الضُحى الأولى، والعودةِ قُبيلَ أذانِ الظُهر، وقد استأذنت من زوجِها في ذلك؛ فأذِنَ لها، وكان أهلُها وأهلُ زوجِها جميعاً يعلمون بهذه العادة، وكانت صالحة تذهبُ مع أماني إلى بيتِ أهلِها أحياناً، وتعودُ معها، وذلك حين لا تُطيقُ أن تبقى وحدَها، لكنّها كانت نادراً ما تفعلُ ذلك؛ خشيةَ اعتراضِ إخوتِها على خروجِها المُتكرِّر، وهي ما زالت بِكراً عَزباء. وفي يومٍ من الأيام دخَلَ جهازُ الهاتِفِ إلى بيتِ عائلةِ صالحة، وقد عَجِبَت صالحة وأُمُّها لهذا الجهاز ذي السماعةِ الموصولةِ به؛ والقُرصِ الذي يدورُ حولَ الأرقام، وأما الأبناءُ الذكور فقد كانوا يعرفون جهازَ الهاتِفِ من أماكن عملِهم، ومن المحلات العامة، والشركات، وقد اشتركوا في خدمة الاتصالات لدواعي الضرورة والحاجة، وكان جميعُ مَن في البيت – ما عَدا الأمَّ – قد حفظوا أو كتبوا في أوراقٍ رقمَ الهاتف. وتمضي الأيامُ، فتُكثِرُ أماني من الخروج وَحدَها، وإذ أبدَت أُمُّ زوجِها تَبَرُّمَها من هذا التصرف؛ دافعت صالحة عن أماني، وقالت:

– أَتريدون حبْسَ النساءِ جميعاً؟ إنها امرأةٌ متزوجةٌ ومحترمة.

وكان الهاتفُ المنزليّ لا يَرِنُّ إلا في النادر؛ حينَ يتصلُ أحدُ إخوةِ صالحة من أجل غَرَضٍ ما، وأما النِسوةُ اللاتي في البيت؛ فلَم يكُنَّ يستعمِلْنَه، وفي مَرّاتٍ كثيرةٍ كان الهاتفُ يَرِنّ، وحين ترفعُ صالحة أو زوجةُ أخيها الكبير السماعة؛ لم يكن أحدٌ يتحدث من الجانب الآخَر، وبعدَ حادثةٍ جديدةٍ من هذا النوع؛ قالت زوجةُ الأخ الكبير:

– هذه الاتصالاتُ مُريبة.

فنَظَرت صالحة إليها بحِدّةٍ، وسألتها:

– ماذا تقصدين؟

ومع تَكرار خروج أماني وَحدَها؛ بدأت في البيتِ نظراتُ استفهامٍ متبادَلة بين زوجةِ الأخ الكبير وأُمِّ زوجِها، ثم زوجِها كذلك، وخوفاً من انتشار الظنون؛ أخذت صالحة تذكرُ أمامَ الحاضرين بين وقتٍ وآخَر مَحاسِنَ أخلاقِ أماني، وبِرَّها بأُمِّها، ونشاطَها في البيت، وطاعتَها لزوجِها، إلى آخِر ما أحسَنت صالحة قولَهُ مِن قلبِها، فأماني هي “شقيقةُ الروح” بالنسبةِ لها. وفي يومٍ من الأيامِ الحُبْلى؛ رَنَّ الهاتِفُ فهُرِعَت إليه صالحة، لكنّ يدَ زوجةِ أخيها الكبير كانت أقربَ إليه، فرفعت السمّاعة وهي تنظرُ إلى صالحة بفتور، واستمعت، فسِمعت صوتاً يقول:

– السلام عليكم، أنا أم أماني، كيف حالكم؟ الحمدلله ركّبنا هاتِفاً في البيت من يومين.

وبعد تبادل التحيّات، وسماع الأصوات مع كلٍّ من زوجة الأخ، وصالحة، وأُمِّها؛ طلبت أمُّ أماني أن تسمعَ صوتَ ابنتِها، فقالت أمُّ صالحة:

– لقد ظهرَت من البيتِ منذ ساعةٍ لِتزورَكم!

– ها.. إذن؛ لعلّها في الطريق.

وبعدَ انتهاء المكالَمة قالت زوجةُ الأخ الكبير:

– يعلمُ اللهُ كم مرةً زارَت أهلَها في خروجها الكثيرِ هذا.

فسألتها صالحة بجَفاء:

– ماذا تقصدين؟ احترمي نفسَكِ؛ فهذهِ شقيقتي!

وقبلَ أن تتمكنَ زوجةُ الأخ الكبير من الردّ؛ فُتِحَ بابُ البيتِ فجأةً، والتفتت صالحة، فرَأت أخاها يدفعُ زوجتَه أماني إلى داخل البيت وهي تبكي، فهُرِعَت إليها، وحضنتها، وقالت لأخيها:

– ما بكما؟ ما الذي حدث؟

ردَّ أخوها عليها بغضبٍ قائلاً:

– لا تتدخّلي فيما لا يَعنيكِ.

وقَصَدَ الزوجُ الغاضبُ إلى الهاتف، وقال لأماني:

– ما رقمُ هاتفِ بيتِكم؟

ردّت عليه وهي تبكي:

– واللهِ لم أعملْ سُوءاً.

– سألتُكِ عن رقم هاتفِ بيتِكم؛ فأجيبي وإلا..

فأخبرته أماني برقم هاتِفِ بيتِ أهلِها، وكانت نتيجةُ الاتصال أنْ طلبَ زوجُ أماني من أهلِها حضورَهم جميعاً بأسرع وقتٍ ممكن، وحضَرَ الجميع، أهلُ أماني وأهلُ زوجِها، وجلسوا حولَهما في انتظار النبأ، فقال الزوج:

– لقد رأيتُ أماني ضُحى اليوم تخرجُ من أحدِ البيوتِ، وخرجَ معها شابٌ غريب.

صاحت أمُّ أماني قائلةً:

– ماذا تعني؟

– وماذا أعني؟ لقد كانت تخونُني.

نزلت هذه الجملةُ كسقوط الصخرِ على رؤوس الحاضرين، خاصةً منهم صالحة؛ التي أخذت تنظرُ إلى أماني غيرَ مُصدِّقةٍ ما تسمع، ونطقت دون إرادةٍ قائلةً:

– مستحيل!

ردَّ أخوها قائلاً:

– قلتُ لكِ لا تتدخّلي فيما لا يَعنيكِ.

لكنّ صالحة التي لم تشأ أن ترى “شقيقتَها” في هذا الموقف؛ تشجّعت، وعادَت لِتقول:

– مستحيل، أنا لا أُصدِّقُ هذا، قولي يا أماني ما الذي جرى.

لكنّ أماني كانت تبكي، ولم تقُلْ شيئاً حتى حَثّتها على الكلام أُمُّها الجَزِعة، فقالت أماني وهي تبكي:

– لم أعملْ سُوءاً، ذلك البيت كان بيتَ امرأةٍ عجوزٍ تبيعُ ما تحتاجُ إليه النساء، وقد زرتُها أكثرَ من مرةٍ لِشراءِ الشَبّةِ والمِسكِ ونحو ذلك.

فقالت أمُّها:

– والشاب؟ مَن هو؟

– لا أعرف، هذه أولُ مرةٍ أراهُ فيها، لعلهُ كان يشتري أغراضاً لأهلِه.

فصاحَ الزوج:

– أنتِ كاذبة، لقد رأيتُكما تتبادلان الابتسامَ حالَ خروجِكما من ذلك البيت.

– لم يحدث!

– بلى، لقد حَدَث، ورآكما كذلك حسين عبد الله صاحب الدكان، فقد كان يسيرُ معي في السِكة.

وسألت زوجةُ الأخ الكبير:

– وأين هذا الشاب الآن؟

– يبدو أنهُ لَمَحنا قادِمَيْن؛ فأسرعَ إلى سيارةٍ صغيرةٍ؛ فاستقلّها، وانطلقَ بها.

قالت أماني؛ وكلامُها يتقطعُ من البكاء:

– واللهِ.. لم أعملْ سُوءاً.

وحاولت صالحة أن تعتذرَ لأماني بمختلِفِ الأعذارِ والاحتمالات جهدَ استطاعتِها، لكنْ لم يأبَه بها أحدٌ سوى أهلِ أماني، وقام عددٌ من الحاضرين بتعنيفِ أماني كي تقولَ ما يظنّونه الحقيقة، وحاولت أماني للمرةِ الأخيرةِ أن تعتذر، لكنّها أُسكِتَت، وتحتَ وطأةِ التعنيفِ الذي تعرّضت له؛ والمُطالَبةِ القاسيةِ بالحقيقة؛ قالت وهي تُحاولُ جمعَ الكلمات إنها تعترفُ بأنها اختلَت بذلك الشاب، وهنا صمتَ الجميع، وحلّت لحظةٌ من سُكونٍ قاسٍ؛ سُمِعت بعدَها تنهُّداتٌ عاتِبة، ورفعَ زوجُ أماني رأسَهُ حانِقاً وهو يتنفسُ بقوةٍ من أنفِهِ في صورةِ المُنتصِر، وقال:

– أنتِ..

وتوسّلت أمُّ أماني إلى زوج ابنتِها راجيةً منه أن لا يُطلِّقَها، وأنه إن شاءَ فلْيَحبِسْها عن الخروج، ولْيُشبِعها ضَرباً، ولكنْ لا يُطلِّقُها، لكنّ الزوجَ الذي كان يبدو عليه الشعورُ بالخُذلان وخيانةِ العهد رفضَ ذلك، وأصَرَّ على الطلاق، فصَمَت الجميعُ مرةً أخرى، وكانت أماني ما زالت تنتحِب، وأدركت صالحة أنها ستفقِدُ “شقيقتَها” إلى الأبد، وأن هذه هي النهاية، ولم تُصدّق صالحة أن أماني خائنة؛ لكنّها تظنُّ أنها ضَعُفَت فاعترفت، وأفسدت كلَّ شيء، ولِدَهشةِ الجميع قامت صالحة فجأةً من بينهم غَضْبى، وقد احمَرّت عَيْناها حَنَقاً، وصَبَّت موجاتٍ من الغضَبِ والاحتجاج الصارخ على رأس أماني، ثم قالت لها:

– أنتِ تستحقين الضرب.. أنتِ حقاً تستحقين الضربَ حتى الموت.

الشَقيقتان