عبد الحميد أحمد

الصـــدى

هكذا خرجوا دفعة واحدة، وتركوه وحيداً.

كل الأصوات والعيون والأنفاس غادرت المكان.

بعد الحشد والضجيج والصخب ساد صمت فجائي بدأ يسمع خطواته المقبلة.

شعر الآن بالمكان متسعاً وأليفاً وغنّاء. هذا الكرسي مريح، ولم يكن كذلك للحظات مضت.

الغرفة غرقت الآن في هدوء لذيذ يزيده جمالاً خيط الشمس المتسلل من النافذة والمرتمي عند قدميه. نظر إلى المكان.

تأمل بدقة ورق الجدران وتشكيلات الزهور والطيور فوقها. ثم نظر إلى الكراسي والكتب الصامتة فوق الأرفف.

وقفت عيناه عند لوحة وحيدة يحبها كثيراً.

خلفية اللوحة رمادية تميل إلى السواد المبيض، ثم يختفي الرمادي درجة درجة، ودرجة درجة يظهر في زاوية اللوحة اليسرى إلى الأسفل طيف يجلس على كرسي وحيداً ينظر في فراغ، وفي الزاوية اليمنى إلى الأسفل يبدأ لون كلون الشفق في الظهور الشفيف، ودرجة درجة يتكوم ليصبح كتلة حمراء صلبة وبرتقالية مصفرة.

استرخى للهدوء، واستسلم كلية للجلسة المريحة فوق الكرسي الهزاز الذي أخذ يحركه إلى الأمام وإلى الوراء.

منذ متى لم يحظ بلحظة كهذه، بهدوء كهذا؟ ليرحل العالم خارج الغرفة في ضجيجه وليذهب الآخرون في هذياناتهم حتى الجنون، أو الموت.

حدَّث نفسه. ليس أمتع من هذا الاستسلام والوحدة والصمت.

ها إن أطرافه، رأسه، صوته، جسده بالكامل يعود إليه، يشعر بوجوده وحركته مع الكرسي الذاهب إلى الأمام والعائد إلى الوراء كالرقاص.

ها إنه ومنذ خروجهم دفعة واحدة، يشعر بوجوده الشامل، دمه ينبض فوق الكرسي، ومشاعره تعرش في الغرفة، وأفكاره تعشب في الفضاء.

ليرحل الآخرون إلى الجحيم كم كانوا جحيمه!

انسحب خيط الشمس في خفوت مثلما تسلل كاللص، وكاللص أيضاً أطلت بواكير عتمة شفافة، ثم اختلط الضوء بالعتمة وامتزجا، وأشاعا في الغرفة جواً حالماً أضفى على أحاسيسه مزيداً من المتعة والدفء ودرجة درجة أخذت مساحات العتمة تتزايد، ودرجة درجة كان ضوء الشمس يتلاشى، ثم لم يكن في الفضاء إلاّ بقايا نور متفتت وثمة دكنة لونها بارد كالجليد تنسل من أحشاء الشمس لتغمر الجو وتغرق الغرفة كلها في السواد.

هكذا، إذن، خرجوا دفعة واحدة، وهكذا، إذن بقي وحيداً مستمتعاً بالفراغ.

رسومات ورق الجدران، والكراسي والكتب الصامتة والباب والستائر، والطيف الجالس في اللوحة، كلها اختفت في الظلام القادم من بعيد، من وراء الجدران، واحتل المكان في سرعة لم يتوقعها.

توقف الكرسي عن الحركة: كبسة واحدة على الزر ويندحر الظلام، لكنه لم يستطع النهوض.

فوجئ أن رجليه غير موجودتين، حاول تحريكهما، لكن لا إحساس فيهما، لا إحساس لديه بهما

مدَّ إحدى يديه ليتحسس بها رجليه، لكنها لم تمتد.

حاول مد اليد الأخرى وبلا جدوى، ظلت في مكانها.

جسمه يعصي الحركة وعيناه غارقتان في الظلام.

اقشعر رأسه، غزاه رعب مدمر، ولقرون عديدة انهال فوقه الجليد والصمت المخيف المديد المدوي.

لن يسعفه إلا الصوت، لعل أحداً خارج الغرفة، وراء الجدران يسمع هدير استغاثته، نهر بكائه. فتح فمه، ثمة فرحة صغيرة اقتحمته: ثمة فم لا يزال صالحاً للاستعمال! ملأ صدره بالهواء حتى انتفخ، ثم صرخ بقوة صرخة ظنها ستحطم الجدران، لكنه لم يسمع شيئاً إلا دبيب الصمت والرعب المتكاثف حتى العماء، منذ خرجوا دفعة واحدة، وتركوه في لوحة معلقة فوق جدار.

من المجموعة القصصية (على حافة النهار)، إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992
الصـدى