محمد يوسف زينل

حيادية

ما بين اليقظة والنوم

يتراءى لي أحمد وهو يقطع أظرف الملح الصغيرة، ويسكبها في كوب زجاجي. الكوب نصف مملوء بالماء. يمسك الملعقة النحاسية، ويديرها في البداية ببطء منتظراً اختفاء حبيبات الملح. يزيد سرعة الدوران، ومعها يعلو صوت ارتطام الملعقة بجدران الزجاج. تستمر العملية لعدة دقائق، ثم يخفت الصوت تدريجياً معلناً عن ظهور سائل أبيض مشبع جديد.

أخيراً يأتي بقلم مربوط في منتصفه خيطٌ أبيض ينتهي بثقل حديدي، ويضعه في الكوب الزجاجي.

يحمل الكوب بعيداً، ويضعه على الرف الخشبي الذي يحمل مزهرية صفراء وبعض الورود الاصطناعية، ثم يرمقني بنظرة فيها سخط واتهام.

أنا لست جديداً على مثل هذه التجارب السحرية، فبعد أيام ستلتصق حبيبات الملح على الخيط الأبيض، سترتفع وترتفع، ستتكتل فوق بعضها ثم سينجو من ينجو، بينما يبقى معظمها في السائل لتواجه مصيرها المحتوم.

*

ما بين اليقظة والنوم

أقفز مرعوباً من صراخ امرأة متشحة بالسواد، تبدو كأنها تنعى أحد أقاربها.

ينقل التلفاز مشهد قارب بلاستيكي أرزق على وشك الغرق. 

القارب ممتلئ بالناس، رجال، نساء، وأطفال. صراخ وعويل.

تظهر المرأة في الصورة من جديد، هذه المرة معها شريط تعريفي كإحدى الناجيات من الحادثة.

تنتقل الكاميرا إلى مشهد القارب وهو يغرق، يختفي الناس تدريجياً كأنهم يذوبون في سائل البحر الملحي. الجميع يرفعون أيديهم بحثاً عن حبل النجاة.. حبل نجاة غير مرئي.

يصطف صف المتابعيين على الضفة الأخرى، أميز منهم سيارات إسعاف، مراسلين، وأزياء غير مدنية.

من هؤلاء؟ لماذا لا يساعدهم أحد؟ يظهر أحمد إلى جانبي فجأة ويشير الى التلفاز.

فكرت: أي العبارات ستكون أجدر بفهم طفل في الثامنة؟

هل أقول له إنهم نفايات التجارة الحرة العالمية، أم رواسب الطبقة الدنيا العاملة؟

أتابع المشاهدة وأنا أتصنع الحيادية التي أمارسها عند مشاهدة برامج عالم الحيوان، فأنا لست مع الفهد أو الغزال، أيهما على حق؟ لا يهم، ما دامت مصائرنا لا تتقاطع.

أمسك جهاز التحكم، وأغلق التلفاز، بينما تبقى يد أحمد وسؤاله معلقان في الهواء.

*

بعد يومين احتجت إلى استخدام الكوب الزجاجي. وضعت القلم والخيط جانباً بعد أن سكبت ما بقي من المحلول في المرحاض. على الخيط تشبثت حبيبات الملح بالحياة، بينما راح أغلبها في اللاجدوى.

في ظهيرة اليوم التالي، يسألني أحمد عن كوبه الزجاجي.

– لا أدري

أجيب، وأنا أقلب في التلفاز.

حيادية