منى عبدالقادر العلي

بطاقة العودة

كانت الأشواك الجافة تملأ جسدها النحيل الذي شكلت التجاعيد تضاريسه فأخفت الكثير من أنوثتها المتصارعة في الوقت الضائع ، وأظهرت حبال الأوردة الداخلية التي كانت متخفية تحت جلدها طوال خمس وأربعين سنة ، لا تدري لم خرجت حين تم حقنها بكل تلك الأشواك التي أخبروها بأن بها إكسير الحياة التي معها ستعيد ترميم خراب العشرين سنة الماضية .

جاءت معرضة حياتها لكل ذلك الوخز المؤلم على أمل أن تجد ما ضاع منها ، وهل يعود من رحل في يوم ما ؟! ربما إن ذهب فجأة فاحتمال عودته تكون أكثر من أن يذهب تدريجاً ، فمن يذهب منيقظاً مفكراً يكون قد أسقط أوراق جواز سفر عودته الواحدة تلو الأخرى ، هذا إن لم يمزقها حتى لا يكون لديه فرصة للعودة . أغمضت عينيها بسرعة والشمس تتمطى بأشعتها من النافذة مظهرة خطوطاً واضحة عميقة بين عينيها وجفنيها ، لتتذكر بالسرعة نفسها فتفتح عينيها متحملة أشعة الشمس القوية المرتطمة بها ، لا أدري لم تعاند تلك الخطوط التي تبرز نقوش تحول الحياة عليها ؟؟ مع أن لها جمالها المميز الذي تخص الحياة به كل شخص ، حتى لا يظل في الصورة والشكل نفسيهما لفترات طويله فيحفظ الشخص شكله لدرجة لا يستطيع نسيانه حين تتحرر منه الروح متنازلة عن الجسد الذي لم يعد يستطيع احتواءها لأسباب متعددة لها معنى وأخرى كثيرة لا معنى لها ولا يستطيع العقل البشري أن يجد له معنى حتى إن عصر كل الكتب المخزونة في المكتبات كافة ، لتخرج بمعنى يفهمه أو حتى لا يفهمه ، مجرد معنى ، ولكن هيهات أن يحصل عليه . أخذت تسترجع شجارها الأخير مع زوجها « سعود » الذي كان يرفض أن تعيد ما ضاع منها ، لم تدرك لم كان يرفض الفكرة بعصبية ، هل كان يرغب في وجود عذر له حتى يستطيع أن يتزوج عليها ، فهي إن وجدت ما أضاعت ستظهر أصغر م من جديد فلا يستطيع تبرير بحثه عن أخرى ، طبعاً هو لا يحتاج إلى تبريرات فهو يتعامل مع كل شخص بحسابات معينة تقوم على المنطق والأفعال المسببة للفعل المناط بالعمل .
أخذت تفكر بأنه حتى هو يبحث عن سبب يتماشى مع حساباته ليستطيع أن يسارع إلى تملك ما أضاعه حين تزوج بي ، فهو لم يعد مرغوباً فيه كالسابق ، حين كانت الفتيات يلاحقنه بنظراتهن ومقالبهن المغرية ليوقعن به ، ولكن لسبب يجهله الآن ولم يدركه حينها أفلت ما كان يتمسك به سنين طويلة ورضخ للتقلبات الحياتية التي كانت محسوبة عنده فلم يتذمر ، ولكنه إلى الآن يتحين الفرص حتى يستطيع التملص من المجريات التي غمرته بملل روتيني يقضي يومياً وتدريجاً على كل أحلام شبابه التي تشبه التجاعيد التي تشكلت على جسدي ، ولكن الفرق بأن تجاعيده غير محسوسة ولا تلمس باليد .

دخلت عليها الدكتورة التي أخبروها بأنها ستقيم حالتها ، وستحدد كم جلسة ستحتاج إليها لتعيد إليها ما ضاع منها ، ولكن فوجئت بها ، كانت تريد الاقتراب منها ، إلا أنها صرخت طالبة أن تبتعد عنها ، لا تقتربي مني .. أجل .. لا تقتربي ، أخذت تخرج كل تلك الأشواك الجافة التي حقنوها بها وهي تئن حرجاً وربما غضباً من وضعها ، كيف تضع ثقتها بهذه الدكتورة وهي كانت مسرحاً مشوهاً لنقوش الحياة ، فخرجت بالرغم من
اعتراض الممرضات والدكتورة التي وقفت مذهولة . رجعت إلى المنزل فإذا بها ترى زوجها متكوراً في الظلام يبكي بحرقة ، تركته دون أن تشعره بأنها قد رجعت مهزومة ، فلم تستطع أن تجد ما أضاعت ، وهو لن يجد ما أضاع ، فلم ترغب أن تحرجه بانهزامه ، ولا أن تحرج نفسها حين يرى آثار الحقن التي حفرت لها أيضاً طريقاً في جسدها المستسلم رغماً عنها .

(من مجموعتها “من النافذة”)

بطاقة العودة