قال لهم: سيحتل الجراد دياركم،
فضحكوا منه وسخروا، ثم قالوا:
أنى لنا أن يكون في ديارنا زرع أخضر!
قال: الجراد يستبيح البيوت والنساء والحلال.
فضحكوا أكثر وقالوا: نساؤنا رجال وبيوتنا قلاع وحلالنا حلال.
قال: لا تطمئنوا، فالغزاة لا يعرفون سوى الموت.
هذه المرة قهقهوا وقالوا: أنت واهم، فنحن غيلان في وجه الموت!
لعق ملوحة العرق المتفصد من جبينه والنازف فوق شفتيه الجافتين.. كمن يلعق رحيق الموت المحتوم.
تعالى لهاثه واستعر، بدأت أقدامه تنتقل عن جريها المتواصل، ساعات طويلة وهو يجري، يلاحق الوقت عله يغلبه، فيبرق نصل الزمن في وجهه، يرقص هازئاً به، ساخراً منه.
أوصاله، تحللت تنخرها ديدان الإرهاق، عظامه تفككت، وغداً جسده الفتي مثل ثوبه الرث تتلاعب به رياح الصحراء.
قال لهم: لا تطمئنوا! سيقتلونكم ويمثلون بجثثكم.
هزئوا بكلامه وقالوا: وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟
قال: لن تكونوا مثل عبد الله أبداً! لن يبقى منكم إلّا ما تذروه رياح الصحاري! قالوا: أنت جبان رعديد، فابتعد عنا، ودعنا نحن أسود لا تهاب الموت!
قال: لن أبقى معكم!
فأخرجوه من ديارهم، أحرقوا داره، وأسقطوا في البئر رماد ثيابه وذكريات!
منذ رآهم قادمين وهو يجري، لم يتوقف عن الجري أبداً، وما زال يمتطي المسافات لاهثاً بلا كلل.. كان الزحف المخيف يتعاظم أمام عينه كجبال تمادت وبدت تعانق سماءً سابعة، حشوداً مدججة بالتماعات السيوف والبنادق، تنتقض في غزوها الجامح، كأنها تتشب في قلب الأرض الترابية أجسادها الغليظة، تزرع في بطن الرمال آثاراً دامغة لا تنمحي.
جرى أكثر.. ذاب نعاله المرهق مطوياً بين أثداء الرمال المتماوجة، أفلت منه، ثم اختفى أمسى يجري حافياً، عاري الأوصال، حتى التهبت قيعان قدميه، استعر الألم ثم خفتت حرقة التراب بعد أن اعتادها، مات الألم كما تموت الفاجعة بعد حين.
خرج من عندهم مقهوراً، مغبوناً، يحمل في قلبه حقداً يطوف ولا يفيض.
قرر الهرب من أمامهم.
كان يجب أن يرحل، بعد أن أحرقوا كل شيء،
لم يلبث وأن تسلل بين ظهور الأعداء،
أراد أن يعرف ما يبغونه، فعلم أنهم ينتوون الغدر
وعرف أن الغزو وشيك، في ليلة غاب عنها قمر السماء.
كانوا يفوقونهم عتاداً ورجالاً، وكان الغزو الوشيك قدراً محتوماً.
هكذا يصبح الغازون بعد أيام، حريقاً تعتاده الأجساد المتهالكة!
حينما فكر أنهم سينجحون، ويعششون في قلوبهم، تحول جسده إلى شعلة، بدأ يجري بلهفة أكبر، وخوف جائع للطمأنينة يدفعه إلى الجري أكثر.. وأكثر.. لم يشأ أن يلقي بهم في البئر كما فعلوا به من قبل، لم يشأ أن تحترق ديارهم كما أحرقوا داره، وكان يبكي لأنه يعلم أنهم لا يدرون، وآه لو كانوا يعلمون!
بدا جذعاً قاتماً متفحماً بفعل لظى شمس محرقة، غير أنه ظل متحاملاً على نفسه، يجري قلبه الكليل يخفق ببطء محتضر، جسده الواهن يتضاءل أمام بعد صحراء شاسعة، عيناه تتراقص فيهما المرئيات بشبحية مفزعة، في حدقتيه الظامئتين للنوم تتلون وجوه الذاكرة غير الواضحة.. شجرة وواحة وبحيرة من مياه عذبة، كان يعرف أنه السراب وأن الواحة مجرد خيال، مجرد فكرة واهمة تطوف في عقله ساعة شوقه
إليها.
منذ زمن بعيد وهو يحدس هجومهم.. كانوا أشراساً يتأهبون لهذا الانقضاض المفاجئ وكان يحذر رجال قبيلته منهم..
- أنا أدرى بهم.. إنهم لا يعرفون المزاح..
سخروا منه كثيراً، قلبوا مواجعه حينما اتهموه بالجنون بعد موت زوجته
نامت ليلتها عليلة، ولم تَصْحُ إلا جثة هامدة بين ذراعيه
بكاها طويلاً، لكنه لم يلتاث بذاكرها كما يتهمونه.
لم يكن مجنوناً حينما ماتت، لم يفكر بها أبداً والخوف فوق ذاكرته، كان قادراً على اشتمام رائحة الحقيقة من وراء أسوار الكلمات المبهمة، بدت كلمات موفد القبيلة الشمالية لاهبة، تفوح من بطنها رائحة القتال وأزكمت أنفه شهوتهم للحرب. كانوا يعنون الغزو، لكن الآخرين ما فهموه أدباً كما فعل هو. قال الموفد المعمم، تقطر من لسانه سموم الغضب.
- حذرناكم من المجادلة كثيراً..
- كان علينا أن نجادل.. البئر لنا والأرض الصحراوية قد أخصبت وتحولت إلى واحة بفضلن ..
- كانت أرضنا..
- ورحلتم عنها حينما أجدبت.
- لم نرحل.. ما زالت أصولنا تقيم هنا..
- رفضتم الاعتراف بهم، عزلتموهم كالمصابين بالجذام، ظلوا هنا يزرعون ويحصدون حتى تحولت الصحراء إلى واحة..
طردوه وضحكوا منه، خرج محترق الأوداج، ترتجف عمامته فوق رأسه، يستشيط غضباً لا يستطيع نسيان مرآة عينيه وهما تتوقدان بجمرات غيظ ولهفة للانتقام.
أعماهم الحقد كما يعميه الرعب للآن، تهويل القصة كان في غير صالحهم، جن جنون أعضاء القبيلة الشمالية حينما روى لهم الموفد قصة طرده..
- – كانوا يضحكون كالسكارى يتابعون مجادلتي باستهزاء وكأنهم يسخرون منك شخصياً.. قالها الموفد لعجوزهم الحكيم، وتخضبت لحية العجوز بارتعاشه الغضب، قال وخنجره يسقط في بطن التراب أمامه..
- يسخرون مني.. هذا آخر المطاف..
زادت سرعته، الذكريات تتداعى في رأسه، كأنها تحثه على الجري أكثر، سقط فوق تلة.. غريب أمر هذه التلة، كيف زرعت نفسها بين السهول المترامية، كانت صحراء واسعة وشاسعة والتلال تذوب فيها بين الرمال، بدأ كريشة تائهة في وجه الرياح المتلاعبة، كاد أن يتهاوى مرات، ثم احتمل الآلام وأكمل طريقه..
كانت الشمس قد بدأت في الانحراف، ها هو الوقت يوشك على الانقضاء، لا يعرف الغازون زمناً للانتظار، إنهم يزحفون، الرجال والأفراس والبنادق وصرخات الانتقام، كل الغيظ المعتلج في النفوس وأهل قبيلته غافلون، غائبون عن وعي الخوف الهادر باتجاههم، لا يتخيل أحد منهم أن يسرق منه أمنه في لحظة مباغتة.
كان قد ترك قبيلته ورحل عنها، لم يطق عيشه بعد أن تحول إلى خيال مذلول يضحكون عليه، يكررون حكايات حدسه المضحكة في كل ليلة، سمعهم ينعتونه بالمجنون الذي فقد عقله بعد موت زوجته، أراد أن يغضب، يكرههم، يحقد عليهم، لكنه عجز عن ذلك، صار يتخيل أشياء كثيرة، حتى توهم أن يحاربهم العجوز، عجوز القبيلة المجاورة.. أن يحارب أولاد عمومته.. صدق توهمه حينما رآهم قادمين، يزحفون تجاههم جحافل موت لا تردعه سيوف ولا توقفه خناجر، بكت في أعماقه لوعة القهر، ليتهم صدقوه، ليتهم أخذوا حذرهم.. يعلم تماما أن المباغتة مذهلة.. أهل قبيلته ذاهلون، غائبون عن الوعي، لا يتخيلون المفاجأة كانوا يغفون مطمئنين يستعدون للحياة من جديد في اليوم التالي..
سقط قرص الشمس محترقاً في واد سحيق. كان يجري وكأنه يلاحق أشلاءها البرتقالية.. كأنه يستغيث بها كي لا تختفي، كي تبقى في داخله أثر لأمل، لكنها ظلت تتلاشى.. تنمحي في هدوء وتضيع إلى الأبد.. غابت الشمس وتسرب القمر متباعداً
لم يبق للضياء أثر
وسمع في قعر الصحاري قرقعة
أصاخ سمعه وعرف بأنهم قدموا
بدأ يقيس المسافات بقلبه وعقله، فوجد الطريق طويلة، لا تنتهي.
هوى قلبه في فجوة أعماقه، تسلل النهار منه، شقت أول النجمات إلى كبد السماء.. كان يجري مخترقاً العتمة الحالكة كقذيفة صارخة، لا يدري إلى أين يتجه، يركض وعيناه لا تبصران إلا نجمة باهتة تعلقت كنقطة نور ضئيلة، حتى القمر لم يطل بعد، تحولت الصحراء إلى ما يشبه الفضاء، تحولت إلى لا شيء متناهٍ في الكبر، وجه عبوس صامت حالك.. كئيب مضجر.. صرخ يفجر صوته، كأنه يبحث عن صدى يدله على الطريق، بدا مذعوراً كأنه يؤنس خوفه الذي تحول إلى رعب.. صار يجري كمجنون فقد عقله!
صرخ وصرخ، لكن بطن الصحراء كان واسعاً.
كان يبتلع صرخاته
ثم يبصقها في أعماقه
فيغرق كمداً
اختفى صوته، كأنه ينمحي هو الآخر، مد ذراعه، لا توجد، قدمه تجري، يشعر بها غير أنه لا يراها، تحسس جسده، بدا موجوداً، مختفياً، نظر خلفه، لم يعد هناك خلف ولا أمام.. كل شيء تحول إلى فضاء واسع أسود، أراد أن يبكي حتى تعثر بحصوة..
سقط واندلع قهره بنشيج طويل، إنهم يقتربون أكثر، الزمن الموجع يقصر ويعجزه عن اللحاق به، شعر بأنه ضعيف، ضئيل، كالكذبة لا يساوي شيئاً في مقابل كل شيء، عاجز يتعثر فوق حصاة صغيرة، تذبح قدراته وتهز في أعماقه شعوره بالضعف والخوف..
صرخ أكثر، تمادت الصحراء في احتضانه، لم يعد قادراً على النهوض، شلت أعضاؤه، ماتت حركته والزحف يستمر، الأقدام تحفز في الرمال، تتعالى أصواتها حتى تصم آذانه، صليل أجساد البنادق الحديدية يخز سمعه يثير في جسده قشعريرة الموت..
موت الغافلين.. لا.. إنه ظلم.. ليس من العدل أن يغافلوهم، كانت المواجهة هي الرجولة هي الانتصار
للقوى، هذه المفاجأة خطة لئيمة ينتصر فيها الحاقد بغير حق..
صرخ أكثر، ليت أحدهم يسمعه، نادى رجال قبيلته، غافون في أحضان نسائهم، يعبون لذة النوم والطمأنينة. شعر بالغبن، شعر أنه الأقوى وهم الضعفاء، هم الغافلون!
كانت المسافة لا تزال بعيدة، الطريق إليهم طويلة، وجسده يتمرد غارقاً في لجة الموت واجفاً مذبوحاً متهالكاً فوق الرمال كأنه جزء منها، صرخ حتى تحشرج صوته وذاب، بكي فتحجرت الدموع فوق التراب وأصبحت طيناً لزجاً يغرقه في أعماقها. تحرك مغافلاً شيطان النهاية، لكنه عجز عن
الارتفاع بجسده من فوق الأرض. حاول أن يصرخ غير أن الصدى كان مغلفاً بالظلال المتوحشة. أراد أن يخرج مواجهاً جحافلهم بصدره العاري، نجح أخيراً في التملص من براثن الرمال، وتعملق مستأسداً في وجه الخوف الهارع ناحيته، سمع صهيل خيولهم، ورأى مشاعل النار تلتهم الظلمة الدامسة. صرخ. نابضاً بالرغبة في صراع الظالمين المعتدين، فضحك أحدهم وهو يجري بفرسه صوبه ويسوي به الأرض. صمت مجبراً والأقدام الغليظة تدب فوقه ولا تتعثر به وكأنما تمرست على سحق الأجساد واعتادت حلكة الصحراء البهيمة.
ماتت صرخاته إلى الأبد
تلاشى وجوده بين أمواج كثيفة من الرمال.. مات
ليلة أن قتلوا