علي عبيد الهاملي

وكان المقهى في مكانه

     أمسكت مقبض الباب ودفعته أمامي داخلا. توقعت أن تكون بعض طاولات المقهى مشغولة بزوار أتوا قبلي، لكن أحدا لم يكن في الداخل. نظرت إلى الساعة المعلقة على الجدار. كانت عقاربها تشير إلى التاسعة والربع صباحا. توقعت أن يكون المقهى مزدحما. أعرف أن هناك بعض موظفي الدوائر الحكومية والشركات القريبة من المقهى يبصمون ثم يتوجهون إليه لتناول إفطارهم أو قهوتهم الصباحية، لكنهم اليوم غير موجودين. ربما كان اليوم عطلة نهاية الأسبوع أو أنها عطلة رسمية. بحثت عن الرف الذي عادة ما توضع الصحف عليه لألتقط منه صحيفة تسعفني فوجدته خاليا. تلفت أبحث عن النادل كي يقودني إلى إحدى الطاولات فلم أجد إلا الفراغ. لماذا كتبوا إذن “انتظر حتى يتم إجلاسك”؟! اتجهت إلى المحاسب كي أستفسر منه عما يحدث فلم أجده في مكانه. توقعت أن يكون قد ذهب إلى دورة المياه، خصوصا وأنه لم يكن هناك زبائن في المكان.

       لاحظت أن الموسيقى لا تصدح في المقهى كالعادة. كان صوت الموسيقى المرتفع هو أكثر ما يضايقني في المقهى. ربما كانت هذه هي الإيجابية الوحيدة حتى الآن منذ أن دخلت. بدأت أشعر بالقلق لهذا الصمت الذي يخيم على المكان. هذا هو أول يوم من أيام إجازتي. كنت قد قررت أن أجعله مختلفا، فأتناول قهوتي في المقهى بدلا من البيت كما أفعل عادة.. تناولت من مكتبتي رواية “العمى” للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو. كنت قد قررت أن أبدأ قراءتها في اليوم الأول من إجازتي. تتحدث الرواية عن وباء غامض ينتشر في إحدى المدن، حيث يصاب أهل المدينة بالعمى فجأة، الأمر الذي يخلق موجة من الذعر والفوضى في المدينة. تتوالى الأحداث بشكل دراماتيكي حتى يختفي المرض فجأة كما ظهر.

     كنت متحمسا للبدء في قراءة الرواية لكن الوضع داخل المقهى يثير القلق إلى درجة أنني توقعت أن أكون قد دخلت مقهى آخر غير الذي قصدته، لكن كل شيء حولي كان يقول إنه المقهى نفسه، بما في ذلك الاسم المطبوع على علب المناديل الورقية والمفارش الموضوعة فوق الطاولات، عدا أن أحدا من العاملين والزبائن لم يكن فيه. خطر ببالي أن أدخل المطبخ لأعد لنفسي فنجانا من القهوة، لكنني تراجعت عن الفكرة في اللحظة الأخيرة. خفت أن أجد هناك مفاجأة غير سارة مثلما أنا غير مسرور الآن بهذا الصمت والفراغ اللذين يحيطان بي.

     لا أعرف كم مضى من الوقت منذ أن دخلت المقهى، فقد توقفت عقارب الساعة المعلقة على الجدار، ربما نفدت بطاريتها. كنت قررت ألا أضع في معصمي ساعة وأغلق هاتفي الجوال كي أتخلص من عادة النظر إلى شاشته بين كل دقيقة وأخرى لأبتعد عن التوتر.

     حين خرجت من المقهى وجدت الظلام يخيّم على المدينة، لكن أضواء المقاهي المجاورة والمحلات التجارية كانت تضيء المكان حولي، وكان الناس الذين يجلسون في المقاهي ويرتادون المحلات التجارية ينشرون في المكان الضوضاء والحركة. نظرت خلفي فرأيت المقهى الذي كنت داخله في مكانه والناس يدخلون إليه ويخرجون منه!

     كنت ممسكا بالكتاب الذي كان مفتوحا على الصفحة الأخيرة من الرواية فوقعت عيني على النهاية:

     (كانت زوجة الطبيب تقول: لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون.

     نهضت زوجة الطبيب واتجهت إلى النافذة. نظرت إلى الشارع في الأسفل، المليء بالقاذورات، إلى الناس الذين يصرخون، يغنون. بعدئذ رفعت بصرها إلى السماء فرأت كل شيء أبيض. إنه دوري؛ فكرت لنفسها. جعلها الخوف تخفض بصرها بسرعة فرأت المدينة لا تزال في مكانها).

علي عبيد الهاملي