لم يحلـم أنه في يوم من الأيام سوف يجلس على هذا المقعد، فإذا كانت المستحيلات ثلاثة، فهذا رابعها بالنسبة له، هو الموظف الصغير الذي بالكاد يكفيه راتبه إلى آخر الشهر، لكن ما لم يحلم به حدث الآن، فها هو يجلس على هذا المقعد الوثير في الناقلة الوطنية، محاطًا بأجواء ممتعة وفاخرة، وبابتسامات المضيفين والمضيفات، وبكرمهم المفرط.
كان كلما سافر يمر، كغيره من المسافرين، على هذه المقاعد الأمامية الواسعة وهو في طريقه إلى الدرجة السياحية، فيخطف نظره إليها وإلى تجهيزاتها من مساند ظهر وطاولات وأباجورات، وكافة الكماليات التي تجعلها أشبه بشقة صغيرة، مفروشة وفخمة، وكذلك يسترق النظر إلى ركابها فيرى مظاهر الثراء، ثم يمضي إلى مقعده في الدرجة السياحية، حيث ينحشر بين الركاب حشرًا، دون أن يشعر بالحسرة، فقد اعتاد على أن هذه المقاعد ليست له. لكنه الآن، وللمرة الأولى، يجلس في الواقع لا في الحلم على هذا المقعد نفسه، يستمتع بعصير الأناناس في طريقه إلى لندن.
عندما صعد الطائرة وأرشدته المضيفة إلى رقم مقعده، شكرها، لكنه سرعان ما شعر بالارتباك والحيرة بعدما اتخذ وضع الجلوس. أمامه شاشة تلفاز كبيرة، وإلى يمينه شاشة أخرى صغيرة بأزرار للتحكم، ثم هناك درج جانبي نصف مفتوح يحتوي على مياه ومشروبات غازية، وعلى الطاولة أمامه، مصباح مضيء وزهور بيضاء جميلة، وسلة مليئة بالمكسرات والحلوى والشوكولاتة ورقائق البطاطس. ظل هامدًا، يقلب ناظريه، محاولًا التخفيف من ارتباكه، إذ عليه، ولمدة لا تقل عن سبع ساعات، أن يتأقلم مع مقعده وما فيه من تجهيزات وكماليات.
وسرعان ما أطلت عليه مضيفة، تسبقها ابتسامتها، تحمل صينية عليها مشروبات تقدمها له: شمبانيا، عصير برتقال، تفاح، أناناس… اختار منها الأناناس. وبينما راح يرشف من كأسه، حمد الله في سره أن المقاعد هنا متباعدة، مما يجعله في مأمن من العيون التي قد تلاحظ ارتباكه، فاسترخى قليلًا في مقعده، بانتظار الإقلاع.
بعد الإقلاع وإطفاء إشارة ربط الأحزمة، جاءه أحد المضيفين يرحب به : اسمي صادق، أنا مسؤول الرحلة اليوم. مرحبًا بك معنا، سيد جمال! وبما أنك من ركاب الدرجة الأولى، فلا تتردد في طلب أي خدمة. لدينا واي فاي على الرحلة، وبرامج عديدة على التلفاز، وأفلام وغيرها. كذلك، قائمة الطعام والشراب متنوعة، وإذا أردت شيئًا خارج القائمة، فأخبرنا رجاءً، فنحن في خدمتك.
ثم مرت مضيفة أخرى، تحمل مناشف دافئة وباردة، فخيّرته بينهما، فاختار الدافئة، ومسح بها جبينه ووجنتيه وعينيه، فشعر بشيء من الارتياح. وبعد قليل، عادت إليه بقائمة الطعام، وقائمة أخرى للنبيذ، وقالت: سأعود لأخذ طلباتك خلال الرحلة. اليوم نقدم وجبة الغداء وكافة المشروبات الباردة والساخنة، وقبل الهبوط نقدم وجبة خفيفة وسناك، ولكن بإمكانك أن تطلب ما تريد في أي وقت من الرحلة.
ثم أضافت بابتسامة: كما نقدم الكافيار قبل الغداء، إن رغبت.
كانت مقصورة الدرجة الأولى هادئة، وعدد ركابها قليل، وهو يجلس غير مصدق أنه يشارك الأثرياء وكبار الموظفين ورجال الأعمال والمسؤولين المقصورة نفسها، التي لم يكن له في حياته أن يركبها، لولا ضربة حظ أخطأت الجميع وأصابته، فإذا به في الدرجة الأولى، على ارتفاع 38 ألف قدم، في طريقه إلى عاصمة الضباب التي يعرفها جيدًا من زيارات سابقة، لا أحد يزاحمه من هذا الجانب أو ذاك، كما كان الحال في الدرجة السياحية، ولا من الأمام أو الخلف، بل هو وحده يستمتع بالمقعد الوثير، يمد رجليه كما يشاء، ويمغط يديه كما يريد، وهو وحده في كابينة لها باب، ومقعد يتحول إلى سرير وثير، بفرش وغطاء، وهذا ما علمه للتو، حين جاءت إحدى المضيفات تعرض عليه فراشًا للسرير، وبطانية، وكذلك بيجامة للنوم، وتسأله إن كان يرغب في أخذ دوش خلال الرحلة، فاعتذر، إذ شعر أنه ليس بحاجة إلى مزيد من التوتر، خاصة أنه لم يستطع بعد تشغيل الشاشة أمامه على فيلم أو موسيقى، فتركها تعرض خط سير الرحلة.
منذ ركب الطائرة، والمضيفون يتوالون عليه للسؤال عما إذا كان بحاجة إلى شيء، لكن جمال توقف عند تايلور، مضيفة رشيقة القوام، ناعمة الوجه، ذات ابتسامة ساحرة، أدهشه اسمها حين عرفته بـ تايلور!، فسألها متعجبًا:
- كيف تايلور وأنتِ امرأة؟ أليس تايلور اسم رجل؟
ردت باسمة:
- تايلور اسم للجنسين، رجل وامرأة.
فتذكر فورًا:
- آه، مثل تايلور سويفت؟
- بالضبط، لولا أنني لست من مقامها.
- كنتُ أعتقد أنها تسمّت باسم رجل لإثارة الانتباه ومخالفة القواعد.
ضحكت قائلة:
- كلا، هذا اسمها الحقيقي، واسمي تايلور أيضًا، وهو شائع في الدول الغربية.
كاد يخبرها أن اسمه جمال، وهو اسم تتسمى به النساء أحيانًا، لكنه امتنع.
أما كوكو، المضيفة التي جاءت لتأخذ طلب الغداء وتعرض عليه الكافيار، فقد لفت اسمها انتباهه أيضًا: كوكو؟ ما هذا؟، تساءل في نفسه، كما لفت جمالها انتباهه؛ شعرها مربوط خلف رأسها، وتكشف عن وجنتين يانعتين مشوبتين بلون كالنحاس، وعينين تميلان إلى الزرقة والخضرة، تحت جبين متعالٍ، كما لفتته رقبتها الطويلة المشدودة لفتاة في العشرينات فحسب من عمرها.
وردد لها مستغربًا: كوكو؟ هل تمزحين؟ هل هذا اسمكِ فعلًا؟
- كلا، اسمي كورنيليا، لكنني أدلّع نفسي كوكو.
- عاشت الأسامي! حتى اسم كورنيليا غريب قليلًا، أهو اسم إغريقي؟
- كلا، هو اسم لاتيني يعود إلى عصور روما القديمة.
ثم أضافت:
- دقائق وأجلب لك الطعام. أعتقد أنك طلبت اللحـم، أليس كذلك؟ وسوف أجلب لك الكافيار أيضًا. دعني أعد لك المائدة.
مالـت باتجاهه، تفرش له طاولة الطعام بمفرش أبيض، فشم عندما اقتربت منه رائحة عطر خفيف يفوح من نحرها، ثم انصرفت، وانصرف هو إلى حاله غير مصدقٍ رحلة الأحلام هذه، فتمنى أنها تطول ولا تصل لندن أبداً.
لم يذق من الكافيار إلا قليلًا؛ كان على الصينية، إضافة إلى طبق الكافيار، بصل وبياض بيض وشرائح ليمون و شرائح خبز محمص، فاحتار ماذا يصنع، وكيف يتناول كل هذا، فأخذ الملعقة الصغيرة، وتذوق من الكافيار فلم يعجبه الطعم، فترك الصينية كما هي حتى عادت كوكو بوجبة الطعام الرئيسية.
وتساءلت: واضح أن الكافيار لم يعجبك؟!
فرد: نعم، لم أطق طعمه اللاذع.
بعد الغداء، طلب شايًا وفاكهة، وجاءته كورنيليا بشوكولاتة وسألته: هل أنت متأكد أنك لا تريد أن أفرش لك المقعد كي تنام؟ لا تزال أمامنا أربع ساعات، على كل حال. لو غيرت رأيك، أخبرني.
ضغط على زر المقعد فمال إلى الوراء وصار شبه سرير، فمد رجليه إلى آخرهما مسترخياً، وبدأ يفكر في جولاته التي سوف يقوم بها في لندن التي يعرفها جيداً إذ أنه كثيراً ما زارها وجال في طرقاتها وعلى معالمها الرئيسية وأسواقها بصحبة الأصدقاء، فأمامه ثلاثة أيام يقضيها هناك، ضمن هذه الرحلة التي لم تكن على البال ابتداءً من تذكرة الدرجة الأولى إلى الإقامة المجانية في فندق خمس نجوم لا يسكنه، عادة إلا الأثرياء، مقدمة من إحدى محلات التجزئة التي أجرت سحباً على المشترين، بمناسبة العيد فكان الفوز ضربة حظ طيرته إلى لندن بتذكرة الأحلام السعيدة.
دهمته رائحة الكافيار فجأة، ولم يعرف السبب الذي لم يطق مذاقها، هل يعود إلى المذاق فعلاً أم لسبب آخر أبعد من ذلك في طيات وعيه، فتذكر أنه يحب السمك المالح المجفف مطبوخاً مع الرز أم غير مطبوخ، يضيف إليه كما هي العادة، البصل وقليلاً من الفلفل الدقوس ويعصر عليه ليمون الباطنة، فيتحول طعمه في الفم إلى مزيج رائع من النكهات ما بين المالح والحامض والحريف الحار، هذا المالح من أكلات أهله وجيرانه في الماضي كما في الحاضر، لولا أنهم الآن قللوا منه وصاروا يأكلونه كلما اشتاقوا إليه خاصة في أول نهار عيد الفطر، ثم أن أسعاره ارتفعت كذلك إلى ما يقارب الستمائة درهم، للصفيحة التي تحتوي على ثلاث قطع كبيرة من مالح القباب ما يجعل المالح فعلياً موازياً للكافيار في سعره.
مرت كوكو مبتسمة من دون أن تسأل إذا كان في حاجة إلى شيء، لعلها لاحظت انشغال باله فانصرفت، وفيما هو يغالب النعاس، رأى والده يدخل البيت وفي يده سجاج سمك من نوع القرفا الذي يحبه، ثم طارت في الهواء رائحة الشواء اللذيذ وحين مد السرود بالرز الأبيض وعليه السمن البلدي وفوقه ثلاث سمكات قرفا آخذ نفساً عميقاً في مقعده الوثير الطائر، وكأن هذه المائدة الخرافية صارت أمامه، بديلاً للكافيار الذي لم يعجبه ولم يرغب فيه، لسبب لم يعرفه بعد، ثم فجأة شعر بحركة في أمعائه وبلوعة تكاد تخنقه، فاندفع إلى حمام الطائرة، وتقيأ كل ما أكله حتى الآن على الرحلة، وفاحت من القيء الضارب إلى الحمرة رائحة الكافيار التي ذاق منها قدر معلقة صغيرة، فعرف أنها السبب في غثيانه. بعد أن غسل وجهه ورش قليلاً من الكولونيا على وجهه شعر بانتعاش، وعاد إلى مقعده خفيفاً، ثم غفا على وجه السرعة، ليفيق على يد صادق تهزه بلطف : سيد جمال لقد بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي، أرجو إعادة المقعد إلى وضعه وربط الحزام. اعتدل في المقعد الوثير وتهيأ للهبوط إلى الأرض مرة أخرى بعد أن طار محلقاً أكثر من اللازم على ما يبدو، أو هكذا قال لنفسه.