تعلّم فجأةً ودون مقدماتٍ تُذكر أو تُشاع ألا يبكي. إن بكى فلربما لن يتوقف أبداً، ولعله لن يستطيع تحديد ما يبكي عليه بالضبط، ولن يدري هو نفسه كيف يوقف تدفق ذلك السيل إذا ما أخذ بالجريان. ولذلك وبعد عدة أيامٍ من العثور عليه وإيوائه في أحد المخيمات، قرر بأنه سيصمد أمام كل شيءٍ بعينين لن تطرفا، وأنه لن يغلق عينيه أمام أي شيءٍ مهما كان، وعاهد الله أولاً ونفسه ثانياً أنه -الفتى ذو الأربعة عشر ربيعاً- لم يعد طفلاً، وأنه لن يذرف الدمع قط بعد اليوم. لم يكن يؤمن أيضاً بأنه ثمة بكاء من الفرح، إن تعبير البكاء لهو تعبير عن الألم، الحزن، الندم، وأي شيءٍ آخر يصنف كشعورٍ سلبي، أما الفرح فهو يعرفه شعوراً إيجابياً لا يمت للدموع بصلة.
في مخيم النازحين ذاك، عرفه الناس كمعجزة وكجنيّ أيضاً، وقيل عنه الكثير من الكلام الذي اتخذ كتسلية وكتضييع للوقت في الظروف الصعبة التي يعيشها الجميع. لم يكن لهذا الفتى اسم، ولكن كان له لقب، كان يُقال عنه “الولد ذو الرقبة المنزوعة”، ذلك أنهم عندما عثروا عليه تحت أنقاض أحد البيوت الطينية الركيكة التي هدمها القصف فوق رؤوس ساكنيها من إنسٍ وجان، كان قد أصيب بقطعةٍ من الحطام في رقبته. وبطريقةٍ ما، وبالرغم من إصابته البليغة، ودفنه تحت الحطام لليلتين كاملتين، استطاعوا أن يسعفوه، وظلت ندبةٌ على رقبته شاهدةً على الحادثة.
هذا ما كان، وقصته لم يصدقها أحد، وقال الكثيرون إنها كذب، وإنه لا يمكن لأحدٍ أن يظل سالماً من الإصابة ولو حتى بخدوش تحت ذلك العدد الكبير من الحصى والحجارة التي انهارت فوق رأسه. وبالرغم من ذلك، ابتلع الجميع الحكاية، وأصبحت نكتة عن طفلٍ بسبعة أرواح. وهذه المعجزة أو الدعابة هي ما أقسم عليه المُسعفون الذين لم يسعهم إيجاد حيٍّ سواه تحت ذلك البناء، بل إنهم عندما وجدوا جثث والدي الطفل، وأخيه الرضيع الذي كان قد بلغ لتوه تسعة شهور من العمر، كانوا قد أصيبوا بالذعر تماماً.
وهكذا أصبح “الولد ذو الرقبة المنزوعة”، منزوع الرقبة فعلاً، وله من الثياب ما يغطي به الجرح الواضح في رقبته، فلم يكن يظهره لأحدٍ مع علم الجميع بوجوده، وشهادتهم غير المجروحة في بروز الخياطة في محله. أما النازحون إلى المخيم، فللصراحة، لم يكونوا يعلمون أين يذهب هذا الفتى كل يومٍ مع خلود الشمس إلى النوم بعد نهارٍ طويل. كان يخرج من خيمته التي تحتوي على ملابسه، وبِضع حاجياتٍ شخصية إلى الشارع، ويختفي تماماً وسط الخرائب، ثم يعود بعد انتصاف الليل لينام. وهكذا أصبح جنيّاً أيضاً لم يُعلم إن كان يتحدث ليلاً مع النجوم، أو الشهب، أو مع ما خفي عن أنظار البشر.
لـ “الولد ذي الرقبة المنزوعة” كتابٌ واحدٌ يقتنيه بين حاجياته القليلة، ويُنازع أي شخصٍ يلمسه أيّاً كان. كان هذا الكتاب هو كتاب الغريب لألبير كامو، وكان الفتى يقرأ فيه كل يوم، وكأنه كتاب بلا نهاية، ولكنه إذا ما انتهى منه عاد إلى قراءته مجدداً، كقصيدةٍ يود منشدها حفظها فيعمد إلى ترديدها دونما ملل أو كلل. السر في ذلك هو كون هذا الفتى قد عاد من المدرسة ذات ظهيرة إلى حفلة عيد ميلاده المنزلية المتواضعة، التي اقتصرت يومها على والديه وأخيه الذي لا يكف عن البكاء، فتلقى ذلك الكتاب من والده كهدية، ثم وكشيءٍ بالغ الاعتيادية، سقط بناءٌ كاملٌ فوق أصحابه. في تلك الظهيرة، كان قد بلغ الرابعة عشرة، تمنى أمنية لعيد مولده، وأطفأ شموع الكعكة، ثم خسر عائلةً وظل شبه ميتٍ تحت أطنانٍ من الحصى. لطالما كان ذلك البيت الذي يعيشون فيه آيلاً للسقوط، وكان والده يرفع يديه إلى السماء كل يوم، راجياً المولى ألا ينتهي بهم الحال كنازحين إلى أحد المخيمات المجاورة، مما سيزيد حياتهم صعوبةً. كان والده في كل ليلة يشكو لله عزّ وجلّ عن هذا الأمر، وكأنه يشكو لأحد أصدقائه فوق طاولة أحد المقاهي، أو يتذمر لنفسه -ككل يوم- عن محتويات الجريدة التي لا تتغير، رغم أنه كان يقرأ الجريدة كل يومٍ دون أن يدفع ثمنها! كان والد الفتى يذهب إلى مكانٍ يُقال إنه مقهى، وبشكل أدق هو طاولتان خشبيتان مهترئتان، بثمانية كراسٍ بلاستيكية، ودونما تظليل، ثم إن كؤوس الشاي الموجودة أقل من الزبائن بكثير، ولكن الوالد لم يكن يشرب الشاي، كان يطلب كل يومٍ كوباً من الماء، والماء لم يكن للبيع، فلم يكن يدفع شيئاً! أما الشيء الوحيد الذي كان الوالد يبتاعه لنفسه فهو السجائر، يفضّل النوع الذي يأتي من علامةٍ تجارية معروفة، يحبها أكثر من حبه لنفسه وعائلته، ويدخنها بشراهة وهو يشرب كوباً من الماء، ويقرأ الجريدة…
أما الوالدة، فكانت امرأة متواضعةً جداً، همها في الحياة هو أن يكبر ابناها، فتزوجهما، وترى أبناءهما، ثم تتوسد فراشها، فتموت وهي مطمئنة… ولكن، كان لها أمنية واحدة أخرى، كانت تريد من الله أن يرزقها مولوداً ثالثاً. تلك السيدة لا تهتم لصعوبة الحياة، أو المستقبل المتقلب، فكل مولود يأتي معه رزقه، وهي تمنت بنتاً. في ذهنها، البنات هن السلوان لأمهاتهن، لها نفس همومها، وآمالها، وكما يُقال: “الأمهات يكتبن أقدار بناتهن”، وهي أرادت ولو لمرةٍ واحدةٍ في حياتها أن تكتب قدراً.
كان والدا صاحبنا زوجاً وزوجةً تقليديين، وعلاقتهما بأبنائهما تقليدية أيضاً. البيت بيت الرجل، ولكنها مملكة المرأة، فالزوج الذي يعمل طول النهار، يعود إلى المنزل فيتفقد حال الأبناء، ويسأل عن أخبارهم، وربما يجالسهم قليلاً، يتناول ما تعدّه الزوجة برضا ثم يأوي إلى الفراش لا يريد من الله سوى أن يستيقظ في اليوم الذي يليه ليذهب إلى عمله مجدداً. أما الزوجة، فهمها لقمة الأولاد وشؤونهم، وتدابير المنزل وغيره، حنون على أولادها، ولكن إن أرادت شيئاً، فهي مسؤولية الرجل، وإن عاملها زوجها كملكة، عاملته كشهريار.
أما الأخ الصغير فكان رضيعاً لا يزال، ولكنه وبشكلٍ غير طبيعي، كان المحبب إلى قلب أخيه الأكبر. لم تكتشف الأم أن ابنها كان حنوناً بهذه الشاكلة حتى ولدت أخاً أصغر. وفي الحقيقة، لم يكن عليها سوى فعل ذلك، أي لم يكن يجب عليها سوى أن تلد طفلاً آخر حتى يتعلق في رقبة “الولد ذي الرقبة المنزوعة”، والذي وأخيراً قد سقطت رقبته من الثقل…
لم يكن في حياة “الولد ذي الرقبة المنزوعة” سوى ياسين الطفل الصغير. وعندها فقط علم أن الحياة بين الخرائب لم تكن سيئة، لم تكن كذلك على الإطلاق، كانت لذيذة بدرجة تفوق الوصف، وأما هو، فكان كالكلاب يرى الحياة بيضاء وسوداء، وفجأةً أصبح يرى فعلاً، واصطبغت دنياه بالألوان بمقدم ياسين. وهكذا، أصبح صاحبنا الموكل بجميع شؤون المولود الجديد، ليس لأنه الأخ الأكبر كما هي العادة، بل لأنه، وفجأة، وبرغبته وقناعته، أصبح أمّاً دون سابق إنذار…
يوم الحادثة، كان عائداً من مدرسة المنطقة المتواضعة مشياً على قدميه، والحقيبة على ظهره، وقبل أن يبدل ثيابه، دعته أمه إلى الاحتفال بالكعكة التي اجتهدوا كثيراً في إحضار مكوناتها، واجتهدوا أكثر في صناعتها. غنوا جميعاً بسلامته، وإتمامه سنةً أخرى في هذه الحياة، ثم وقبل أن يهف على الشموع، أعطاه أبوه الكتاب الذي كان جدّ فخور بشرائه، فوضعه الصبي في حقيبة المدرسة فوق ظهره، وأطفأ الشموع. صوت الهواء الخافت يخرج من فمه، وهو ينفخ، ثم دويٌّ عالٍ يصدح في المكان، الجدران ترتجف، والأرض تهتز، والعيون مرتقبة، كل هذا في ثوانٍ لم تسمح لأحدٍ بقول شيء. وقف الجميع في مكانه، ينتظرون القدر الذي نزل عليهم، والسماء من حولهم تتداعى. وفجأةً ملأت الظلمة كل شيء، ولم يدرك أحدٌ ما حدث، كل شيء بدأ وانتهى بلمح البصر، وكأن لم يحدث…
هناك، هو ممدد، شيء ما ينخر في رقبته، فيسيل منها سائل حارق، ظهره يستقر على حقيبته من خلفه، ويداه وقدماه ممددتان دون أي حراك، وكأنه جثة تنام في ثلاجة أحد المستشفيات، جثة منزوعة الروح. تحت الركام، لم يكن ثمة قبس من نور، لم يكن ثمة صوت، ولم تكن ثمة حركة، كان ثمة خوف، وكان ثمة وحدة، وظن صاحبنا أولاً أنه نائم، ثم عرف أنه ليس كذلك، ثم ظن أنه ميت، ثم علم أنه ليس كذلك، هل يكون في إغماءة؟ لا، ربما، في غيبوبة؟ أو أنها أحلام العصر؟ ولكنه يشعر بأشياء لا يشعر بها النائم، وتأتيه هواجس لا تدرك الراقدين أو من فارقتهم الروح! يرتفع وبنخفض فيه النفس كآلة إنعاش في قسم العناية الفائقة، يُخرج صوتاً كصوت الصافرة المبحوحة مع كل نفس، وحباله الصوتية لا تعمل. نظر في المكان بصعوبة، فبالرغم من الظلمة، علم أن جسده عالقٌ تحت عدد لا يحصى من الحجارة، وأنه لن يستطيع الخروج مهما فعل، وساعتها، أغمض عينيه. ولكن ماذا عن والديه؟ أهم تحت تلك الأنقاض أيضاً؟ وصار ينادي في جوفه لا يخرج منه صوت، فيتألم أكثر لأنه لا يستطيع النداء، إلا أنه استطاع أخيراً ولم يحز على جواب. عندها، كان سيعلم أنهم ليسوا من حوله، هكذا ظن، لم يدفنوا أحياء، ولكن هل ماتوا فلا يستطيعون الرد؟ لا، لا، هم ليسوا هنا أصلاً، ولكن أين هم؟ ما الذي حدث معهم؟ أأباه في العمل كالعادة؟ خرج من تحت الحطام مرتدياً ثياباً نفضها من التراب ومضى، أم أن أمه ستستفيق لتكنس ذلك الحطام؟ وأخاه الصغير، لا بد أن أخاه يلعب ببعض الحصى في مكانٍ ما. وهدأ قليلاً عن سابق إجفاله، ولكنه لم يستطع أن يتوقف عن البكاء، بكى، فنزلت كل الدموع التي كانت في جوفه حتى جفت عيناه تماماً، فدعا الله ببضع كلمات، ثم صمت صمتاً مطبقاً…
حتى هو، إن سألناه ماذا حدث هناك، تحت ذلك الركام، لوصف مشاعر مختلطة، وأفكاراً مترددة وغير متسقة تتوافق مع الوضع الاستثائي الذي كان فيه، ولكنه كان سيقول بضرس قاطع إن ما كسره شيئان، عدم قدرته على الوصول لأحبته، وأنه غدا محتجزاً في مكانٍ لا يستطيع فيه الحركة أو الفرار، ربما هذا هو القبر…
لم يكن يشعر بمرور الوقت، لأن الدهر كله كان أمامه، وعندما وجدوه بعد يومين، كانت عيناه حمراوين، ونَفَسه متقطعاً، وجسده مبتلاً بالعرق، وكأنه دجاجة مرتعشة على وشك النفوق. عندها قال أحدهم: “وجدت شخصاً! إنه حيّ!”. وكان سعيداً بما وجد، ثم اندهش الجميع من سلامته التامة، غير رقبته، واندهشوا أكثر عندما قال بضعف: “حقيبتي! حقيبتي!”، فسحبوا حقيبة ظهره معه، وكأنها كل ما تبقى له من الحياة. بعد استخراجه بساعات، وجدوا ثلاث جثث، كانوا قد خيطوا رقبته، وأعطوه مسكناً عن الألم. وعندما استفاق، وعلم بالنبأ، وقف قبالة الجثث المصطفة، ثم تنهّد عدة مرات، والحزن الشديد بادٍ على وجهه. بعدها، بكى، ثم دفنهم بصمتٍ شديد، وعاهد نفسه بألا يبكي ثانية ما ظل حياً.
بعد ذلك اليوم، لم يفارقه كتاب الغريب، مع علمه تماماً أن أباه كان يجهل جهلاً شديداً محتوى ذلك الكتاب، وأنه لو علم بما يحتويه، لما أعطاه إياه، بل لكان قد صادره عنه. وكان في كل ليلة يخرج من المخيم، يخطو خطوات واثقة بعيداً عنه قدر ما يستطيع، ويفكر في نفسه، لو كان أخوه حياً الآن، لكان أتم سنة، سنةً ويوماً، سنةً ويومين، سنةً وأسبوعاً، ومع كل يوم، كانت تنهيداته تزيد كأنه أب فَقَدَ أحدَ أطفاله، وفعلاً، حزنه لم يكن يقل عن حزن الأب على ابنه. وظل على هذه الحال، لا يتحدث إلا نادراً، وتصرفاته الغريبة لا تُبرر بأي وجهٍ من الوجوه.
وهكذا مر عام، كان فيه من الجن، ومعجزةً، و”الولد ذو الرقبة المنزوعة”، أيضاً. كان لا يفعل شيئاً سوى تأمل الفراغ طويلاً، والدراسة على قدر ما تسمح الظروف، ولكن شيئاً لم يكن يملأ ذلك الفراغ في قلبه. كان موت أمه وأبيه ألماً كبيراً، ولكنه عندما فكّر في الأمر رأى أنه كان سيفقدهما على أي حال -وبشكلٍ طبيعي- مع تقدمهما في السن، أو هكذا أقنع نفسه لكي يستطيع الاستمرار بالحياة. أما فقدان أخيه، فلم يستطع شيءٌ في الكون أن يبرره، ولم يسعه سوى أن يقول بأن الله أخذ منه أمانة كان قد أعطاها، ربما لأنه لم يكن الكفؤ لحملها. وعندما حان عيد مولده بعد حول، زار القبور الثلاثة، قرأ الفاتحة، وجلس قليلاً ينظر إلى الأطفال يلعبون بين القبور. الآن، كان قد أصبح شاباً صغيراً، شاباً ليس له الحق في عيش شبابه، وهمه وحزنه أكبر من سنه. ووجد نفسه دائماً ينجذب إلى مجالس الرجال الكبار، ومجالس المفجوعين، ومن هم على نفس حاله.
وفي يوم مولده، وبعد أن زار القبور الثلاثة لبرهة، انتبه إلى نفسه، إلى أنه لا يزال لا يستطيع إطالة البقاء أمام تلك القبور لمرارةٍ تعتريه، وأنه يعود بهذه الزيارة المختصرة إلى الواقع. لربما هو لا يزال لا يستوعب، ولا يزال لا يصدق بأنهم لم يعودوا موجودين، وأن خروجه المتكرر كل مساء ما هو سوى طريقته في التأقلم مع عدم وجودهم، وذهابه للبحث عن أرواحهم في الاتجاهات المختلفة، واقشعر جسده لهذه الفكرة…
ليلتها لم يخرج في نزهته المعتادة كل مساء، وبدلاً من ذلك، أوى إلى الفراش، ولكنه لم يستطع النوم أيضاً. في الفضاء من حوله، ظل يسمع صوت بكاء لطفل، مما هو معتاد في المخيم، فلم يكن أمرٌ كهذا غير طبيعي في ظاهره، ولكنه كان غير طبيعي فعلاً، لأنه كان وحده من يسمعه. وبعدها بساعات، تيقن من هذا. كانت عيناه قد تعودتا على الظلام، فقام عن فراشه، وخطا إلى الخارج، ثم توارى عن الأنظار كمن ابتلعته الأرض، أو صعد إلى السماء.
بعد ساعات من التجول في الظلام، وسط حطام وركام من كل جانب، وأفكار مشتتة ومبعثرة، قرر أن يعود أدراجه. دويّ القنابل من بعيد يتردد في الأسماع، ولكن صوت الطفل في أذنيه لا يتوقف. وبعد عناءٍ طويل، قرر بأنه سيتعايش مع هذا الوهم تَعايُشه مع كل ما جرى ويجري. فما هو إلا وهم، والواقع هو أن أصوات الطيارات في الجو، والدبابات على الأرض، والألغام من تحتها، حقيقة لا مناصَ أو مفرَّ منها، وهو مدرك لذلك تماماً. عندها نظر إلى إحدى الخرائب، وهناك سمع صوتاً من نوعٍ أخر. صوتاً لم يدرك لماذا استطاع سماعه، وكيف استطاع، كان هذا صوت تنفس. كان ثمة ما يتنفس هنا، وتحديداً من الأرض تحت قدميه…
عندها صار يلتفت يمنة ويسرة، وينبش التراب من حوله بيديه في جهاتٍ شتى، ولكن دون جدوى. هكذا، حتى وصل إلى بقعة من الأرض أحس قلبه بأنها هدفه. في هذا المكان، استطاع سماع صوت الشهيق والزفير يعلو وينزل تحت تلة من التراب وأوراق الشجر اليابسة، صوت غرائبيٌّ، لم يكن يجب لبشرٍ سماعه. وبسرعة، أزاح كل ذلك من على الأرض، فظهر شيءٌ يتحرك، هما يدان صغيرتان كانتا يدي طفل لا يتعدى عمره التسعة شهور، موضوعاً في خرقةٍ بالية لا تغطيه حتى. وقتها فقط، اعتلى صوت بكاء الطفل الحقيقي، واختفى صوت الوهم من أذنيه. كان الطفل يمد يديه كمن يطلب حمله، وكان مصاباً في صدره والدم يجري منه. وعندها وحسب، جفل مما رآه، وللحظة تسمّر في مكانه من الصدمة، ولكنه سرعان ما انتبه إلى ما يجري، فحمل الطفل بين يديه، وضمّه إلى صدره، واضعاً رأس الرضيع على محل قلبه، وهو أكثر الأمكنة أماناً، ثم أخذ يجري بكل ما أوتي من قوة. ما الذي أتى بطفلٍ رضيع لهذا المكان الخاوي حتى مما يزحف أو يطير؟ وظل يتساءل في نفسه، وكانت قدماه تتحركان وحدهما، كمن ليس له سيطرة. كان صوت بكاء الطفل يخطف شيئاً من نفسه مع كل ثانيةٍ تمر، ولكنه كان طفلاً هو الآخر، كان يرتجف، ولم يعلم ما يفعل، حتى وصل إلى خيمة المسعفين. وهناك، سلّم الطفل لهم بأنفاس لاهثة. “هذا! الـ… الطفل… الطفل هذا وجدته في إحدى الخرائب! أرجوكم أنقذوه!”. وسريعاً، أخذوا الرضيع من بين يديه، وصاروا يتهافتون في ما بينهم.
لم يصدق ما سمعه عندما أحضروا له كوباً من الماء، وأجلسوه، وقالوا إن وضع الرضيع حرج، وإنه من المحتمل جداً ألا يصمد مقابل الإصابة في صدره، وإنه إن تجاوز هذا الخطر، فسيعيش. كان الليل قد انتصف بالفعل، ولكنه لم يدرك الوقت، خرج ودخل مرات ومرات، وتساءل في نفسه: ألم يكن ليلة الحادث قد دعا الله بمعجزة؟! ألم يكن هو نفسه معجزة؟! اليوم، هو لا يريد لنفسه هذه المعجزة، ولا يريد أي شيءٍ، كما أنه لن يريد شيئاً آخر في حياته، ولكنه أراد معجزة واحدة أخرى، أراد أن يبقى هذا الرضيع حيّاً. دار حول نفسه مراتٍ ومرات، ثم حان وقت الصلاة، فصلّى صلاة الصبح، تلفت يمنة ويسرة، ثم تنهّد عدة تنهيدات، ودعا الله بذات الكلمات التي نطقها لنفسه ساعة دفنه. عندها ظن أنه ربما بالغ في ردّ فعله تُجاه طفلٍ غريبٍ، فلماذا كل هذا التعلق والانقباض وهو لا يعرفه ولا يصله به شيء؟! لقد فعل ما عليه فعله، وهذا يكفي! وبالرغم من هذا الخاطر، ظل قلقاً ومضطرباً، لا يجد لنفسه أي استقرار أو سكون. وفي وسط تلك المشاعر العارمة، وبشكلٍ غريب، أحس بتغير شيءٍ في روحه، ولم يدر ما هو. عند باب الخيمة، هدّه الإعياء، فأرخى عضلات قدميه أخيراً، وتمتم بكلمات، ثم نام.
ليومين، لم يذق طعم النوم الهانئ، ولم يحظ بطعام أو شراب أكمله عن آخره، كان قلقاً، حزيناً فوق حزنه، وقلبه يكاد يخرج من مكانه من الخوف الشديد. لم يكن ينفك يسأل عن الطفل، ولم يكن يتوقف عن الدعاء. وفي نفس الوقت، كان يتذكر عهده: سيجابه كل شيء بعينين لا تطرفان، وسيبكي، لا ظاهراً، ولكن في جوفه.
عند انبلاج فجر اليوم الثالث، كان يجلس أمام خيمة المسعفين، ورأسه بين قدميه، وجسده كله يرتجف. وفجأة، وجد يداً تمسح على كتفه بحنو: “قم، لقد استفاق الطفل، وهو في حالةٍ مستقرة”. عندها قام من محله بسرور عارم، وكمن لم يصدق، تأكد مما سمعه مراتٍ ومرات. حمد الله عزّ وجلّ، وسجد شكراً، ثم دخل إلى الخيمة، ليتفقد الرضيع في مهده الصغير. كان الطفل مستيقظاً يبتسم ويلعب مع نفسه، وعندما اقترب منه، انفرجت أسارير وجهه المنقبضة، وتلألأت عيناه بالنظر إلى ذلك المخلوق الصغير والجميل. ثانيةً، رفع الرضيع يديه إليه كمن يطلب منه أن يحمله، فلفه بذراعيه بحذر، وضمه إلى صدره. عندها، علم تماماً ما كان قد تغير في روحه. مع هذه الضمة، شعر شعوراً مختلفاً، وقرر قراراً أيضاً، قرر أن يصبح أُمّاً مجدداً، وقرر بأنه من اليوم قد وجد ياسيناً آخر، فضحك قليلاً، ثم امتلأ شيءٌ في قلبه، فبكى كثيراً، وهذه المرة، من الفرح…
القصص الفائزة في الدورة الخامسة عشر 2024 – جائزة غانم غباش للقصة القصيرة