أُطفئت الأنوار في قاعة العرض، زادت العتمة من إحساسي بالتردد وأنا أمضي إلى الداخل باحثة عن رقم الكرسي الذي اخترته وأنا أدفع ثمن بطاقة الدخول. غمرتني الظلمة تمامًا، تعاظم شعوري بالبرد والوحدة، لم يكن معي أحد، عادة ما أجيء إلى السينما بمفردي. تمنحني الوحدة مساحة شاسعة لأتأمل الحياة التي تمر أمامي على الشاشة الهائلة. فكلما هزمتني الحياة أو كسرني الحب، أجدني أهرول إلى أقرب قاعة سينما، أتسمَّر ساعات أمام العروض التي تجري. أختار الدور الذي يروقني، أصير شخصًا آخر، وأتفرَّج عليَّ في الحياة البديلة!
لم أشعر بالخوف من الظلمة على الرغم من أنني بالكاد أتلمَّس طريقي وأحاذر أين أضع قدمي خشية أن أتعثر في الدرجات القليلة التي تقودني إلى حيث سأجلس. هذه العتمة لا تخيفني، ما يخيفني هو أن أسقط على وجهي أمام الناس فيضجوا بالضحك عليَّ، تشبثت بذراع الموظف الذي يضيء لي الطريق لأعبر بسلام بعيدًا عن أشباح الخوف! ومثل جميع هؤلاء الذين يسترخون على مقاعدهم ،لديَّ مخاوفي التي نبتت في سنوات مبكرة من عمري وما زالت تصحبني كندوب ثابتة .
لم يسبق لي أن اختبرت الخوف من الظلام ! حتى في طفولتي لم يكن الظلام الحالك الذي ينسكب علينا أنا وإخوتي ككثبان ثقيلة في الغرفة الضيقة التي ننام فيها، فنصير كأننا منسيون تحت طبقات غير مرئية من الردم الحالك. لا يكن يخيفني ذلك الظلام بقدر ما يُشعرني بالحماية، وبأنني مطمئنة فيه وغير مرئية، لا تراني جدتي ولا ذلك الرجل المقيت الذي انبثق لي من أحد الأزقة. كنت أستمتع بذلك الظلام الذي يبيح لي الدخول في عوالمي الحميمة، فأختبر معالم جسدي، وأتلمَّس تفاصيلي الخاصة حيث لا أملك الحرية ولا المكان الذي أفعل فيه ذلك خلال النهار. منعت جدتي أبي من أن يضع مرآة في غرفتنا!
قالت له: يكفيها السهر وقراءة الكتب حتى مطلع الفجر، المرايا تفسد عقول البنات!
أشد على ذراع الموظف دون أن أنتبه، فيهمس لي بلطف كي لا يثير الانتباه: »لا تخافي، لا شيء يدعو للخوف«، فأقول له: »لست خائفة!«، لكن ما أدراه عما يخيفني أصلًا؟ أقول لنفسي.
في أول عهدي بالمدرسة وقعت من أعلى سطح بيتنا، انكسرت ذراعي وأخذتني والدتي لمعالج شعبي، لا أدري لماذا صرخ في وجهي، ولا أدري لماذا سكتت عنه والدتي! قلّب ذراعي وصنع عجينة من أدوية ذات رائحة نفاذة دقها وخلطها ونفث فيها، انتابني شيء من التقزز وفكرت في أن أقول إن رائحة الدواء سيئة، لكنني خفت من عينيه ومن ضخامة يديه فسكت. وضع العجينة على ذراعي، ولفَّها بخرقة نظيفة، وعلقها برباط في عنقي، وطلب من والدتي أن تبقى هكذا لأسبوعين، بعدها سيزول كل الألم وتعود ذراعي كما كانت، لكنها ظلت تؤلمي فترة طويلة، ولم تعد ذراعي كما كانت حتى اليوم.
فاحت في القاعة روائح رقائق ذرة ومأكولات مقلية جلبها الحضور معهم ليتسلوا بها أثناء مشاهدة الفيلم، فلمعت ذاكرتي بخوف بارد يثور في قلبي عندما تتسلل الى أنفي روائح حادة تُذكرني برجل كانت تفوح منه روائح زيت مقلي وبهارات حارقة دفعني يومًا إلى حظيرة الأبقار وأنا أخرج من بيت الجيران في الطريق لبيتنا. كنت في السابعة، لكن صراخي وبكائي الشديدين دفعاه للفرار وجعلاني أرتجف خوفًا طيلة تلك الليلة، ولليالٍ كثيرة فيما بعد.
وصلنا لآخر المقاعد في القاعة، قال لي الموظف: هذا هو مقعدك سيدتي، وصوَّب ضوء مصباحه الصغير على رقم المقعد. غمرني ارتياح شديد، فجلست حيث أشار لي، وفكرت للحظة أنه يمكنني شراء مصباح كهذا الذي يحمله، وفي المرة القادمة لن أحتاج إلى أن أتكئ على ذراع موظف آخر يكتشف هو أيضًا مدى خوفي من السقوط!
فكرت فيما جال في خاطره بعد أن غادرني، كيف نظر إلى هذه المرأة التي تحضر إلى السينما وحيدة، وتتشبث بذراع موظف شاب حتى تكاد تُسقطه؟ هل فكَّر أنني امرأة وحيدة بلا زوج ولا صديقات فأشفق عليَّ؟ أم فكر بأنني أعيش حياة زوجية غير سعيدة أهرب منها إلى هنا؟ أم…؟
لا يهم بماذا فكر وكيف نظر، المهم أنني أجلس مطمئنة في مكاني، منتظرة بدء عرض الفيلم.
بدأ الناس يدخلون تباعًا في جماعات، عائلات، أصدقاء وصديقات وأزواج يتردد صدى همهماتهم في أرجاء القاعة. انتابتني رغبة في النوم. المكان مناسب لذلك، اخترته في آخر القاعة حتى لا يزعجني العشاق بهمساتهم، والصديقات بثرثراتهن، والمراهقون بإزعاجهم المعهود. لا أحد يختار الصف الذي في نهاية القاعة غالبًا. ومع ذلك فقد امتلأ الصف الأخير من المقاعد هذا اليوم، هذا يعني أن الفيلم عظيم جدًّا. وضعت كوب القهوة في مكانه المخصص وتفقدت هاتفي، لا شيء يستدعي القلق، لم يتصل بي أحد من البيت، وهذا ما أتمناه في هذا الوقت.
أخيرًا بدأ الفيلم.. تتالت الأسماء وتسارعت مشاهد المقدمة بشكل مثير. التصوير رائع ومشاهد المدينة من الأعلى فاتنة جدًّا.
أحب هذه البهجة الخالصة التي تمنحني إياها السينما، إنها حياة أخرى موازية ولذيذة.
لا أصوات ولا همهمات، سوى حوارات أبطال الفيلم وموسيقاه، والكل مستغرق في الحكاية..
حتى قالت البطلة لحبيبها:
أحبك كثيرًا، لكنني لم أعد أطيقك!
تساءلت: كيف؟
وبدت لي العبارة متصنِّعة أو مترجمة بشكل غير مفهوم! فكيف يمكن لشخص أن يحب آخر، لكنه في الوقت نفسه لا يطيقه ولا يود أن يراه أو يتحدث معه أو يخرج معه كما كان يفعل؟ كيف يحبه إذن؟ لكنها قالت له: »أحبك كثيرًا«.
التقطت الفتاة التي أمامي صورة للشاشة، وهمست امرأة للرجل الذي بجوارها. وحين جذب البطل فتاته التي تحبه كثيرًا لكنها أصبحت لا تطيقه طابعًا قبلة على شفتيها أطلق مراهقون ضحكات عالية وصفروا بمرح، بينما تذمر رجل بصوت عالٍ.
يستفزنا الحب سريعًا، ويخلخل كيمياءنا في غمضة عين، ويجعلنا لا منطقيين. الحب شأن شائك دائمًا، ليست العبارة التي قالتها البطلة هي فقط اللامنطقية، الحب كله من أوله لآخره حالة من اللامنطق، لأنه إذا لامس المنطق انتهى!
أكملت الفيلم بشعور من الأسى سيطر عليَّ حتى إنه حين أضيئت الأنوار بنهاية الفيلم بقيت ملتصقة في مكاني، تمنيت لو أنام هناك في ذلك الظلام الذي كنت مستمتعة به خلال ساعتين كاملتين كما كنت في طفولتي!
بعد عدة أشهر من مشاهدة الفيلم، وصلت حياتي الزوجية لطريق مغلق، وبينما أمشي مسرعة لإنهاء آخر إجراءات الطلاق.. تذكرت الفيلم، وكأنني أرى الشاشة الضخمة بالعبارة نفسها أمامي.. كانت تلك العبارة التي قالتها البطلة يومها هي أكثر ما بقي عالقًا في رأسي.