بين الكتابة والقراءة ضوء ساطع يصل بينهما بشكل واضح ومباشر كالخط المستقيم الذي يقال إنه أقصر طريق بين نقطتين، هناك بين نقطتي الكتابة والقراءة خط وهمي يفصل ويصل بآن واحد، خط لا يدركه الكثيرون ويقصيه أو ينفيه آخرون كلٌ حسب حاجته لوجوده، كلا الفعلين اللذين أريد الإشارة لهما وهما القراءة والكتابة، مرتبطان مع بعضهما البعض، لا اتفق مع من يفصل بين الأمرين ويصدح جهاراً نهاراً بأنه كاتب فقط وأنه لا حاجة له بين حين وآخر للقراءة، مكتفياً بالإشارة إلى أن الكتابة لديه موهبة ربانية لا يجب الاتكاء بها ومنها على قراءة نتاج الآخرين، ملغياً بذلك الدور الحقيقي والفعّال للقراءة، وهنا أنا لا أشير للقارئ العادي الذي يحب القراءة، بل أشير بهذين السطرين السابقين للكاتب الجديد الذي يطبع كتباً ويوزعها على الآخرين، وحين يُسأل في محافل ثقافية عن دور القراءة في حياته يحاول بحواره وكلامه تهميش دور القراءة في حياتة ككاتب (مبتدئ)، هناك في حياتي فعلان أحبذ أنا غالباً العيش داخلهما إن صح لي التعبير، وقد لا أتخيل حياتي دونهما فهما أكسير البهجة لروحي ولعقلي، هما القراءة في حين والكتابة في آخر، والفصل بينهما أعتقد أنه جور على الأمرين، وأن من يفصل بينهما، في وجهة نظري الخاصة، إن كان يحمل صفة كاتب فهو ليس كذلك، هذان الفعلان يكون كل منهما بحد ذاته فعل عيش بالنسبة لي، واتصوره بمنظور شخصي بأنهم فعلان متصلان بذات الإنسان، فكل فعل منهما يصقل روحه كإنسان، ويشذّب نفسه ويهذّب أفكاره، ويرتبان شعث التيه داخله أحياناً كثيرة، روحه التي قد تكون في وقت مبكر من الزمن لم تتلمس الطريق وتعثرت بمطبات الحياة، فأنا في حين ما حالي حال الكثير من البشر وجدتني كالذين وجدوا في لحظة أو ربما لحظات أنفسهم عائمون هائمون بين هضبات حياتية عالية في حين ومنخفضة في أخرى، وعاشوا داخل نفسية مبعثرة على قارعة الأفكار والنفس ولجأوا للبحث عن الذات أو عن الفكر الخاص والمناسب لهم، أنا وجدتني في أعوام حياتي التي يفسرها العلم أو المختصون بمرحلة المراهقة أعلو ثم أهبط لأستقر بعدها، على ما أظن، على هضبة أظنها عالية بعيدة عن الآخرين، هي هضبة القراءة والكتابة، التي أعيش داخل بوتقتها وأشعر بارتياح داخلها، في لحظة لا أتذكر كنهها أو وقتها تماماً وجدتني أعلو وأحلّق، وكان السبب يومها هو القراءة، ليس كتاباً معيناً ما فعل بي ذلك ما جر قدم عقلي وقلبي نحو تلك البهجة، بل الفعل نفسه، وبحد ذاته الانزواء داخل دفتي كتاب بين سطور وكلمات وأوراق، فعل القراءة ما فعل بي ذلك، ومثله فعلت الكتابة حلّقت بي بعيداً لتكون لي غيمة خاصة بي، أنهل من مطر الفكر داخلها وغيث المعرفة بين حين وآخر، وتنفجر داخلي ينابيع المعرفة، وأنا هناك أجلس بين وداخل دفتي كتاب، كنت أقرأ بنهم الجائع، كنت أشبه أميلي نوثمب في رواية «بيوغرافيا الجوع»، كنت كلما شعرت بالجوع للكلمات غذيت روحي بها، ولم يكن وقت الفراغ، الذي لم أكن أعرف كيف في سنوات مراهقتي وطفولتي المبكرة أن استغل معظم ساعاته، حالي حال الكثير من الناس والآخرين الذين عاشوا على وجه هذه الأرض، ومروا بفترات الحياة المختلفة بين مطبات المراهقة والثبات النفسي بعد نهم الفكر وفيسيولوجية الجسد وتيه الذهن، لكن في لحظة ما في زمن العلو والانخفاض وجدت القراءة لتكون هي طعام روحي، لتأتي بعدها الكتابة كوسيلة أخرى للعيش، الكتابة ذاك الفعل الذي يجب، على ما أعتقد، أن يُفرد له مقال في كيفية إيجاد ذاك النجم الذي يسطع في لحظة داخلنا لنتبعه ويقودنا نحوه بعد أن تتغذى عقولنا بفعل القراءة، فلا فيصل بين القراءة والكتابة بوجهة نظري الخاصة، ولا يصلح حال الكتابة دون صلاح حال القراءة، فالقراءة ركيزة الكتابة الأولى، ولا يصح الفصل بينهما، كأن يعتمد البعض على الكتابة، وينفي في تصريحات ما أو يشير إلى أهمية الكتابة، ويقصي دور القراءة الأعظم الذي هو في حقيقة العقل الركيزة الأولى، كما أشرت سلفاً للدور الحقيقي للكتابة، فلا تستقيم إلا بها وأن صلحت صلح حال الآخر في علاقة طردية واضحة لا تشويش يغمرها أو يلفها، الكتابة تلك الهبة التي تختزل الفرح والألم، ففي دراسة أطلعت عليها يقال إن أصحاب العقول المفكرة دائمة التفكير كعقول الكتاب والعلماء لا يصاب أصحابها بداء الزهايمر، لأنها تبقى داخل حيويتها الخاصة، وتمارس نوعاً من الرياضة التي تؤخر أو تنجي من الإصابة بداء الخرف الذي يبتلي به المولى البعض، فالكتابة رياضة الذهن الذي يخطو بها نحو الصحة التي يحتاجها الكثير منا، فهي ببساطة، كما يفسرها بعض المختصين، فعل رياضي له التأثير ذاته الذي تفعله الرياضة بجسم الإنسان، حيث تمده بطاقة إيجابية وصحية، هكذا تفعل رياضة الكتابة بالعقل، فهي تمنحه مع القلب حيوية مبهجة خاصة به، يمارسها على وقع خطوات قلم أو كيببورد إلكتروني، كيبورد يحقق مبتغاه من إيصال أفكاره الخاصة التي تتكون من خبرات الحياة ووهج المعرفة، المعرفة ديدن الكاتب والمثقف، المعرفة لا طريق يوصل لها سوى القراءة، فحين يقصي البعض المدعي للثقافة بأنها لا تؤتي أُكلها بالنسبة له، أظن أن احترامي أنا والآخرين، الذين سنفكر يوم ما باقتناء كتبه والاطلاع عليها وعلى نتاجه، سيجعلنا نتوقف قليلاً وندير ظهور رغباتنا ونمضي بعيداً عن اسمه وإن كان صاحب سيط، فاليوم هناك قنوات عدة، وأغلبها سهل للوصول للسيط الثقافي بين الناس، كقارئة تحترم عقلها ليس ككاتبة مقال أو رواية أتمنى أن يقف البعض عند هذه النقطة التي يهمشها جيل جديد من الكُتاب.