أحمد حسين حميدان

الكاتبة الإماراتية ريّا مهنّا البوسعيدي في رحلتها القصصية الثامنة –
أحمد حسين حميدان

بعد عقود عدة تخطتها القصة الإماراتية القصيرة عن ميلادها، سنجد ثمة سمات مشتركة في قوامها السردي، وخصوصاً ما بدأ يتشكل في بنيته النصية في العديد من المجموعات القصصية التي صدرت في أعقاب الألفية الثانية، فتشابهت جراء هذه السمات المشتركة في ابتعادها عن استنساخ الواقع وجنوحها نحو التخييل، وأخذ السرد القصصي إلى شعرية أشاعت فيه التكثيف وتضاؤل المساحة التي كان عليها من قبل، إضافة إلى اعتماده على النهاية المفتوحة وأسلوب الترجمة الذاتية وتداعياته الداخلية التي غالباً ما تكون وليدة الأحلام، وما يسكنها من رغبات وتمنيات تشاكس الواقع وتراوغ أزماته وضغوطاته المتعاظمة، وخصوصاً على المرأة. وهو ما شكل قاسماً مشتركاً في قصص العديد من الكاتبات الإماراتيات مثل فاطمة المزروعي وليلى سالم الصم وعائشة عبد الله محمد… وما قدمته ريّا مهنّا البوسعيدي في قصص مجموعتها «الرحلة رقم 8» (1) يندرج في السياق ذاته، ويتزيّا بالسمات نفسه، حتى لعبة تساقط أعضاء الجسد الإنساني واختلاطها وتداخلها فيما بينها، شكّل حالة تناص بينها وبين هؤلاء الكاتبات مع الاختلاف في الاستثمار النصي وتوظيف مجرى سياقاته عند كل واحدة منهن.. ففي الوقت الذي جعلت فيه ليلى سالم الصم هذا التساقط عبر مجموعتها «أجزائي المتساقطة» ثمرة تشيئ الإنسان داخل حياة الاستهلاك الحديثة، جعلته عائشة عبد الله محمد ضمن مجموعتها «ما بعد الطوفان» نتيجة الرعب والخوف الجمعي الذي يطفح به المخزون الشعوري واللا شعوري للمرأة بسبب الممارسات الاجتماعية الذكورية التعسفية التي تعرضت لها منذ أمد بعيد (2). وهو ما تتفق معه ريّا مهنّا البوسعيدي وتحاول تجسيده على طريقتها في مجموعتها «الرحلة رقم 8»، وتمضي إلى غايتها من القصة الأولى «رمل» عارضة عبر سياقها الذكورة بصيغة الجمع من خلال رجال عدة يباشرون بمعاولهم تهيئة حفرة لمرأة يدفعونها إليها دفعاً ويهيلون فوقها تراب الغياب وهي على قيد الحياة، ورغم أن الكاتبة تُبقي أسباب هذا المصير الفاجع لبطلتها موارب عليه، إلا أنها تترك للراوي ما يومئ به عنها فيقول:

«عيناها نسر يحدق في المستقبل.. وفي أيدي الآخرين معاول وأدوات حفر.. عيونهم جمر.. بعضهم يحفر وهي عيناها للأمام.. دفعها أحدهم إلى داخل الحفرة فركعت على ركبتيها ووجهها للأرض…» (3).

إن ريّا مهنّا بما تتكئ عليه من وصف راويها العليم لما يجري وبالاستناد على مخزونه المعرفي تقلّب بالأزمنة وتصطفي منها مُصاب المرأة ومكابداتها.. وإذا كانت بطلتها تمثل الحاضر، فإن نظرتها المصوّبة إلى الإمام ـ كما تصفها ـ تمثل المستقبل في السلسلة الزمني،ة بينما الحفرة التي أعدوها من أجلها وساقوها إليها هي الماضي الحاضر كل مرة في هذه السلسلة ذاتها جزاء لرؤيتها المستقبلية ما لم تكن بعيون الذكورة الجمعية، وبما أن بطلتها اختارت رؤيتها الذاتية للحياة لاقت مصير بنات جنسها المتعارف عليه وهو الوأد الذي لا يكون دائماً بحفرة في الأرض، كما قدمها السياق هنا، بل ثمة حفرة أخرى له بأعماق نفسية، لجأت الكاتبة في رصد عوالمها إلى عدد من التناصات التي أقامتها بين السردي وبين الحكائي التراثي والقرآني لتحقق من خلالها مبتغى عملية السرد المضمونية والجمالية.. ففي قصتها «الليلة 2002» تبدأ بإنشاء أول تناص لها، ومن العنوان يظهر هذا التناص مع الحكايات المعروفة في ألف ليلة وليلة، مضيفة إليها ليلة جديدة لتروي فيها على لسان شهرزاد حكاية إضافية من مآسي المرأة الممنوعة من فعل أي شيء سوى الحضانة.. وفي قصتيها «النهار» و«رحلة الغياب» تجعل بطلتها نملة تغرق في طوفان الأزمات، كما تجعلها ضفدعة تسوقها أحلامها إلى الموت.. وبذلك تنشئ تناصاً آخر مع فرانز كافكا الذي يفقد بطله بشريته ويتحول إلى حشرة (4)!.. وإذا كانت ريّا مهنّا تؤدي الفعل نفسه وتُخرج المرأة عبر هذا التناص من صورتها الإنسانية للتعبير عن فقدانها لمكانتها الحقيقية في المعادلة الإنسانية، وذلك بسبب ممارسات الذكورة الجمعية، فإنها تمضي في تناصات أخرى لتبين على نحوٍ ساخر تراجع هذه الذكورة الجمعية وضعف مواقفها أمام غزو الآخر لها ولمجتمعها الذي تتحكم به.. وتستعيد في قصة «خليفة» مجيء أبرهة الحبشي لهدم الكعبة وتجعله يعيد الكَرّة بإسقاط معاصر، وأمام التخاذل في مجابهته ومقاومة جيشه يتمكن من هدم البيت والمسجد والمدرسة بينما أبناء القوم كما تُظهرهم الكاتبة في قصة «الغراب» يعيدون قتل قابيل لأخيه هابيل بصورة حديثة ملوّنة بالدسائس والصفقات التجارية واللهو والمجون (5).. والكاتبة بهذا التصوير تعيد إلى الأذهان غياب الفعل العسكري العربي ضد العدو الحقيقي ونشوب حروب داخلية عربية عربية، لم تكن القصة الإماراتية القصيرة بعيدة عن مجرياتها من قبل، فدونت شيخة الناخي في مجموعتها «رياح الشمال» مآسي اقتتال الأخوة الأعداء في اليمن، كما صورت سعاد العريمي في مجموعتيها «طفول وحقول غمران» كوارث غزو العراق للكويت واقتتال اللبنانيين فيما بينهم (6)، فكانت جريمة قابيل ضد أخية وبالاً على أبنائه وكأنه أورثهم فعل القتل فسفكوا إلى اليوم دم بعضهم بعضاً، دون أن تتمكن الذكورة الجمعية العربية بكل عزمها وأعرافها وأواصرها من وقف نزيف هذا الاقتتال المستمر الذي وباله انعكس وينعكس على الرجل والمرأة معاً. الأمر الذي انطلقت منه الكتابة النسوية وبنسبة متعاظمة في اعتبار الرجل ضحية لهذه الأنا الذكورية الجمعية كما المرأة. وربطت العديد من الكاتبات تحرر المرأة بتحرر الرجل نفسه. وهو ما يفضي إلى تعددية المرأة وتضاعف جنوستها على حد تعبير جوليا كريستيفا، كما أنه يضيف إلى الوعي الذي طالبت فرجينيا وولف بزيادته في الكتابة النسوية لتساهم على نحوٍ فعّال في إعادة صياغة القيم التي يتشكل منها السلوك الإنساني في ذكورته وأنوثته (7)، وهو ما أدى إلى مضي العديد من الكاتبات في رصد معاناة الرجل وتَلمّس مآزقه الحياتية باعتبارها جزءاً جوهرياً من مكابدات مشتركة بينه وبين المرأة، وهو ما وعته في وقت مبكر غادة السمان فجعلت عنوان مجموعتها الأولى «عيناك قدري»، وشاطرها الموقف لاحقاً غير كاتبة خليجية وعربية (8).. والقصة الإماراتية القصيرة في منحى توجهها العام حذت في خطابها السردي الحذو نفسه في مقاربتها مكابدات الرجل، لكنها في الرصد العاطفي لم تترك له من سبيل أمام العوائق التي توضع أمامه وتحول بينه وبين حبيبته سوى الرحيل ومرارة البعد وجحيم الافتراق التي اكتوى بها مع بدء القصة الإماراتية عند شيخة الناخي (9)، ولم تبلغ المنتهى حتى اليوم فظلت على سيرتها الأولى في العديد من الإصدارات اللاحقة حتى الجديدة منها، كما في قصص عائشة الزعابي وليلى سالم الصم، وهو ما يتكرر هنا عند ريّا مهنّا في قصتها «الطريد»، فتفتح طريق الرحيل أمام بطلها فارس وهو مكلل بالحزن جراء رفض أهل الفتاة التي أحب له، وتجعل من عناصر المكان تقنيات مساعدة لها في السرد، فتتناثر حول بطلها الغيوم وتسأله الطريق المغبرة إلى أين سيمضي وتكرر الريح السؤال من حوله، ثم تعلق الكاتبة عبر لسان الراوي قائلة:

«نوار حلمه الدافئ البعيد، رفضه أبوها.. نادته فرسه المسافرة به دون خريطة، إلى أين؟.. قال الفشل بثقة: أعرف الطريق .. لنمضِ!..» (10).

عبر هذه النهاية المفتوحة يحضر الصوت العاطفي الذكوري مرة جديدة في هزيمته مدحوراً برفض والد حبيبته التي يغيب صوتها هي الأخرى في الهزيمة نفسها وأمام الرفض عينه، وبذلك تكتفي سياقات السرد بالتسجيل وتغيب الرؤية مما يجعل معظم قصص الكاتبة يرزح في أفق المعاناة وأزماتها التي تتوج من خلالها مأساة الرجل وهزائمه في قصة «الطاحونة الهوائية» (11)، وعبر بطل ثربانتس دون كيشوت الذي لم يبقَ له من معركته سوى الجوع وطحن الفراغ.. وتختار في قصتها «وريقات امرأة ماتت في السابع» (12) شخصية نسائية أكاديمية لتروي عبر تيار الوعي واللاوعي معاناة المرأة حتى بلغت سوية النخبة وتسامت حتى بلغت مرتبة الحب غير العادي والمتبادل مع الآخر المتميز والمختلف الذي يختطفه الموت منها ويتركها تغرق وحيدة في بحر الأحزان.. وبعد أن تهديه عبارات الحب في كتابها تتحول في قصة «هوية» (13) إلى كلمة تنأى عن المعنى حتى تصبح نجمة، بينما يصبح الضياع كتاباً للدلالة على تعاظم اختلال ميزان الحياة وابتعادها عن صورتها الحسنى، وعدم امتثال العلاقات الإنسانية فيها ـ ومن ضمنها علاقة الرجل والمرأة ـ لمعادلتها النموذجية المثلى التي تقوم على الشراكة والتكامل الذي كانت تهجس به الكاتبة في قصتها «الرحلة رقم 8» (14) التي اختارت عنوانها مسمى لمجموعتها القصصية وتدفع بطلتها في سياق هذه القصة لتتبادل الحديث مع العراف عن سبع زيجات تنتظرها ويقرأ على كفها صفات الأزواج وطبائعهم وحين ينكشف لها حجم الهوّة بينهم وبين فارس أحلامها تسحب يدها من كف العراف لتهدم بها جدار الواقع المختل وتمضي وراء أحلامها باحثة عن يد حبيبها الخضراء كي تلملم بها أجزاءها المبعثرة، وعند مؤشرات مواصلة الحلم تتوقف ريّا مهنّا محيلة بطلتها إلى بداية جديدة لعلها تكون أكثر جدوى، وهي بهذا الختام المفتوح على الاستمرار لا تختلف عن معظم خواتيم قصصها الأخرى التي لا تقدم فيها نهاية صريحة أو مغلقة لمجريات السياق، بل تحيلها إلى فضاء مفتوح تدل به على مواصلة شخصياتها للحياة المأزومة التي لم تنقطع عن المعاناة والمكابدة. فيبقى الخلاص من الأزمات التي تعكر صفو هذه الحياة معلقاً بين الحلم والواقع مما يجعل الرحلة القصصية الثامنة لريّا مهنّا البوسعيدي غير بالغة محطتها الأخيرة بعد. وتظل نصوصها المتأرجحة بين القصة والقصة القصيرة جداً تتلمس هذا الخلاص عبر فضاء سردي اعتمدت فيه الكاتبة على معمارية فنية تقوم على اللوحة القصصية المكثفة، كما اعتمدت لعالمها السردي عنواناً مركزياً تومض ببنيته الرحلة إلى تعدديتها وإلى تعدد جهاتها، وهي بذلك حسب رؤية امبرتو إيكو (15) تثير ذهن المتلقي بمزيد من المحفزات التعبيرية التي تستدعيه للتعرف على ما شغلته المساحة السردية، والتي جاءت في قصصها مشبعة بالذهنية وغائمة بالإيحاءات التي تباينت فيها المقاصد التعبيرية ودلالاتها على امتداد السياق..    

 

هوامش وإحالات

1ـ مجموعة قصص «الرحلة رقم 8» – ريّا مهنّا البوسعيدي ـ دائرة الثقافة والإعلام ـ الشارقة 2003م.

2ـ مجموعة قصص «أجزائي المتساقطة» ـ ليلى سالم الصم ـ دائرة الثقافة والإعلام ـ الشارقة 2005م. ومجموعة قصص «ما بعد الطوفان» ـ عائشة عبد الله محمد ـ دائرة الثقافة والإعلام ـ الشارقة 2003م.

3ـ مجموعة قصص «الرحلة رقم 8» ـ ريّا مهنّا البوسعيدي ـ قصة «الرمل» ص6

4ـ المرجع السابق ـ قصة «الليلة 2002» ص11 وفيها تناص مع قصص وحكايات ألف ليلة وليلة.. وقصة «النهار» ص37، وقصة «رحلة الغياب» ص 53 وفيهما تناص مع الكاتب المعروف فرانز كافكا الذي تحوّل بطله إلى حشرة في روايته «التحوّل» ـ ترجمة مبارك واسط ـ دار الجمل ط1 ـ بيروت 2015م.

5ـ مجموعة قصص «الرحلة رقم 8» ـ ريّا مهنّا البوسعيدي ـ قصة «خليفة» ص47 وفيها تناص مع القرآن الكريم، سورة الفيل. وقصة «الغراب» ص 45 وفيها تناص مع القرآن الكريم، سورة المائدة ـ الآيات 28، 29، 30، 31 والتي تحكي قصة قتل قابيل لأخيه هابيل.

6ـ مجموعة قصص «رياح الشمال» ـ شيخة الناخي ـ إصدار اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ـ الشارقة 1999م ـ ومجموعة قصص «طفول وحقول غمران» ـ سعاد العريمي ـ إصدار اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ـ الشارقة 1990ـ1997م.

7ـ «زمن النساء» ـ جوليا كريستيفا ـ ترجمة بشير السباعي ـ مجلة «ألف البلاغة المقارنة» ـ عدد رقم 19 عام 1999م ـ و«المرأة والكتابة» ـ فرجينيا وولف ـ ترجمة وليد الحمامصي ـ مجلة «ألف البلاغة المقارنة» ـ عدد 19 عام 1999م.

8ـ قدمت هذه الرؤية لمكابدات الرجل كجزء من مكابدات مشتركة مع المرأة في وقت مبكر الكاتبة غادة السمان في أول مجموعاتها القصصية «عيناكَ قدري» وشاطرها هذا الموقف لاحقاً بعض الكاتبات العربيات والخليجيات نذكر كمثال منهنّ ليلى العثمان وشيخة الناخي وسعاد العريمي وسلمى مطر سيف وعائشة عبد الله محمد…

9ـ مجموعة قصص «الرحيل» ـ شيخة الناخي ـ إصدار اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات ـ الشارقة 1992م.

10ـ مجموعة قصص «الرحلة رقم 8» ـ ريّا مهنّا البوسعيدي ـ قصة «الطريد» ص34

11ـ المرجع السابق ـ قصة «الطاحونة الهوائية» ص31 وفيها تناص مع رواية «دون كيشوت وطواحين الهواء» للكاتب ثربانتس ـ ترجمة عبد الرحمن بدوي ـ دار المدى للثقافة والنشر في دمشق والمجمع الثقافي في أبوظبي ط1 ـ 1998م..

12ـ المرجع السابق ـ قصة «وريقات امرأة» ص39

13ـ المرجع السابق ـ قصة «هوية» ص21

14ـ المرجع السابق ـ قصة «الرحلة رقم 8» ص25

15ـ «البداية في النص الروائي» ـ صدوق نور الدين ـ دار الحوار ـ اللاذقية 1994م.