سعيد سالم الحنكي

إلى عبدالله الصغير .. وصية – سعيد سالم الحنكي

تضاربت الآراء حين أعلن خادم بن زاهر استياءه من حسين، صاحب (البوم)(1) قائلاً: «إما أن تعطينا حقوقنا كاملة، وإما أن نترك لك بومك». وانقسم أهل المعيريض في ذلك، فمنهم من اتهمه بالجنون، لأنه قطع رزقه ورزق عياله بيده، ومنهم من كنّ له حباً عظيماً، ومنهم من قال: «من تدخّل في ما لا يعنيه، نال ما لا يرضيه». منذ تلك اللحظة كان عليه أن يؤمّن لقمته ولقمة عياله من صيد السمك. كان يكظم آلامه في نفسه، حين يرى زملاء الماضي، يتباعدون عنه كمن أصابه الجرب، وهو يمر بهم، يحمل شباكه على ظهره متظاهراً باللا مبالاة، وكم مرة شجعته زوجته للهرب إلى دبي أو الشارقة، لكسر حلقة الفقر التي اشتد ضيقها على أعناقهم، إلا أنه كان يرفض الفكرة.

كانت ثنية تود أختها ميرة، زوجة ابن زاهر، وتحرص على زيارتها، في كل مساء بعد صلاة المغرب، وكانت تصطحب معها ابنها عبدالله ذا الأعوام الثمانية، ليلعب مع ولدي خالته: سليمة التي تكبره بأربعة أعوام، ومبارك الذي يصغره بعامين، ريثما تذهب الأختان إلى بيت عمتهما عوشة، حيث تتسامر الثلاث حتى بعد صلاة العشاء، ثم تعودان لتجرجر أم عبدالله ولدها، وهو في حالة أقرب إلى النوم منها إلى اليقظة. هكذا كانت تمضي أمسيات عبدالله الصغير، كما كان يناديه ابن زاهر، عدا الأمسيات القليلة التي يكون فيها والده قد عاد من السفر. فهو يأتي وحده إلى بيت خالته ميرة، وغالباً ما ينام عندهم.

يقضي الأطفال ليلتهم يلعبون «ملك أو وزير» بأن يقذف أحدهم علبة كبريت في الهواء، فإن سقطت على رأسها، كان القاذف ملكاً، وإن سقطت على جنبها كان وزيراً، وإن سقطت على ظهرها كان لصّاً، فيحكم عليه الملك بالضرب، ويقوم الوزير بتنفيذ العقوبة. تدور العلبة على الثلاثة، فينتقلون ببساطة شديدة، من ملك إلى وزير إلى لص.. وهم يضحكون. وفي الأمسيات التي تزورهم فيها الجدة الطيبة «أم عبدالرحمن العمياء» يتحلّقون حولها، وهي تحكي لهم حكاياتها المسلية الطويلة، حتى يغلبهم النعاس، فتقوم بفرش مناماتهم، وهي تحدثهم: هل أعجبتكم (خرّوفة)(1) الليلة؟ يا الله يا أولادي.. هووَا.. هووَا.. – تهدهدهم- أتمنى لكم نوماً هانئاً.. ثم تغادرهم بسلام».

اقتربت الشمس من البحر.. تأهبت ميرة لإنجاز أعمالها. كعادة أهل البلد، في أيام الربيع، وقبل الرحيل إلى منازل الصيف. تنتظر دنو الأصيل، لتفترش الحصير في صحن البيت، وترتب على أحد أطرافه، طيات فراش النوم، وتنظف شيشة (الفنر)(2)، ثم تشعل فتيلته، وتضعه فوق الصندوق الخشبي المخصص لذلك. وبالقرب منه تغرز علبة الصفيح في الرمل، كقاعدة تثبت فوقها (يحلة)(3) الماء البارد والمعطر بالبخور. وما تنسى أن تضع بين طيات الفراش، المذياع الذي ابتاعه زوجها من الكويت، حتى لا تصل إليه أجساد الصبية، وهم يتعاركون أثناء غيابها.

أحضر خادم حبالاً اشتراها من مراد البقال. فك جدائل فتيلة احتياطية للفنر، وانكبّ عليها يتفحصها، وهو يهمهم «سأصنع واحدة مثلها بهذه الحبال، سأغمسها في الشحم، وسأضعها في شروخ البوم وتشققاته، سيندم.. رمقته زوجته «أنت تضيّع وقتك. قم واصطد لنا بعضاً من السمك».

– «اتفقت مع يوسف على ذلك، سترين حين تستعر النار فيه».

– «يوسف متبرئ من أهله، يهيم في الطرقات، يقول كلاماً غير مفهوم».

– نحن نفهمه. لا تخافي على ولديك، سيكبران يوماً ما».

– «ما أبردك!».

– «هه…».

نظر إليها شزراً، وظل يتابع ما بدأه.

في تلك الليلة، وصل عبدالله مع والدته متأخراً. كان يتأمل عودة والده من السفر، ولكن بوم حسين لم يصل بعد، وكان مبارك قد رافق أخته لعيادة صديقتها هداية. غادرت المرأتان إلى عمتهما، ومكث الصغير مع أبيه خادم، كانت العباءة الأزلية، تطرز نفسها بنجوم فضية، وهي تلحف الأرض بصبر جميل، والفنر على عرشه الخشبي، يجهد نفسه ليشكل بقعة صفراء، في قلب الحوش الواسع، وقد خضع (الفريج)(1) لصمت متعب، تغلب عليه حوار الرجل والطفل.

من عادات ابن زاهر، عندما يسرح بفكره، أن يدخل عوداً من الثقاب بين أسنانه، ويصدر صوتاً يشبه زقزقة العصافير. نظر إلى النجوم المتلألئة، وقال كلاماً في سره، تعلمه من أحدهم في البحرين: «المجد للفقراء». واستمر يصدر زقزقة العصافير، وهو يشفط ما تبقى من سمك العشاء بين أسنانه، ثم يقذفها إلى الأرض البراح. مدّ ساقيه وأخذ يفرش ما تغضن من إزاره، داخل حضنه عليهما. كانا كسيخين من الحديد، يكسوهما شعر مجعد كثيف، ثم عرّاهما بعد هنيهة. فعل ذلك بسبب الحر الخفيف الذي بدأ يغلف الجو، وظل الصغير يصغي لثغاء الماعز والخرفان في طرف الحوش.

كانت بقية من نعاس تداعب الصغير، وبقية من هموم، طفحت على صدر الكبير، وبقية من ضجر تلفهما معاً. أراد أن ينسى، فأخرج المذياع من مخبئه وأداره.

كانت أم كلثوم تغني. كنز (مدواخه)(2) بالغليون، وأخذ يسعل تحت الضياء الواهن، بينما ظل الصغير يراقب الدخان المتسرب نحو الظلام بطيئاً وكثيفاً.

طرق المدواخ على الصندوق الخشبي، فلفظ بقايا الغليون المحترق. استلقى على ظهره، وتجشأ بصوت مسموع، ثم قال: «تأخر الولدان». لم يكترث الصبي لما حدث، وظل يتابع ابن زاهر في صمت عميق، وقد أسند ذقنه الصغير إلى ركبته، وكأنه أسلم نفسه للتخيلات.

أخذت النشوة ابن زاهر، فانقلب منكباً على بطنه، وأخذ يدندن مع الأغنية «كيف ذاك الحب أمسى خبراً…». كان الصغير يقلب لسانه في بطء شديد، محاولاً ترديد بعض الكلمات، إلا أن خادم لم يحل له الوضع، فظل يتلون، إما جالساً يدخن، أو منبطحاً على بطنه، أو مستلقياً على ظهره، أو نائماً على جنبه، رافعاً رأسه على راحته، ومستنداً بمرفقه إلى الأرض، حتى أخذته سِنة من النوم. وتذرّع الصغير بالصبر، وقد اكتفى بأن ينظر إلى النائم، من الفراغ الذي يفصل بين ركبتيه.

مرت فترة من الزمن، كان كل شيء فيها كما كان، إلى أن قفز خادم فجأة، وسأل الصغير الواجم: «ألم يأتيا بعد؟!». رد عليه عبدالله بتثاقل: «ليس بعد يا أبتاه». عاودته نوبة الزقزقة، دون أن يدخل عود ثقاب بين أسنانه هذه المرة، ونظر إلى السماء، ثم سأل عبدالله مشيراً بيده إلى المذياع «ألم تنته هذه (اللغاية)(1)!!». ورد الصغير في شبه استنكار «ليس بعد».

– «أنا أعرفها، لا تخلص بسرعة».

– «وما عليك يا أبتاه، أبي يقول عنها ممتازة».

– «أعرف ذلك، ولكني أفضل حمدان الوطني».

– «اسمح لي، لا تعرف شيئاً».

– كانت غلطة من الصغير، لا يعرف كيف فلتت منه، فصرخ ابن زاهر في وجهه: «ما تقول يا جاهل؟».

– لا شيء يا أبي خادم، كانت غلطة».

أخرج الرجل ثقابه، واعتدل في جلسته، وشحن المدواخ ليحرق ما بداخله من تبغ، ولما فرغ من مصه، هدأت حالته، وكأن شيئاً لم يكن. إلا أن الصغير، لم يطب له الحال بعد ذلك، فأخذ يتلفت ذات اليمين، وذات اليسار، كمن فقد شيئاً، وقال: «لقد تأخرا كثيراً لم نلعب الليلة ملك أو وزير».

ضحك الرجل وقال: «أعطني اليحلة لأشرب.. ملك أو وزير، قل شحاذ أو ابن بحار، هذا يكفي»، لم يحاول الصغير فهم أي شيء مما قاله. سلمه اليحلة وجلس. وعاد خادم يكمل طريق السخرية في سأم «هه.. ملك أو وزير، قل أجير عند حسين في بومه المبني على السحت.. أأكون كالمرأة المهجورة، أندب حظي على الشاطئ وما زلت بصحبتي.. تركني الكلب أكابد الحزن بعد أن غمرني بالديون». صاحت أم كلثوم في غفوة الكلام: «أعطني حريتي أطلق يديّ…»، فقال ابن زاهر وقد ظهر الغضب على وجهه: «أعطني حريتي، أطلق يديّ، هذا الكلام الزين»… «آه من قيدك أدمى معصمي…».

فتأوه ابن زاهر وقال: «آه من القيد أيها الرجال»، وكان الصبي ينصت في غرابة، ثم نطق:

– «ما بك يا أبوي خادم؟!».

– «لا شيء.. لا شيء.. مجرد وجع».

– «وجع!».

– «أي بني، لكنه ليس كوجع الداء، إنه أشد وأبلى».

بالطبع لم يفهم الصغير، لكنه أحس بوخزات من الألم، وظل الاثنان في صمت وخشوع حتى أنهت اللغاية أغنيتها!! وقال المذيع: «تصبحون على خير»، بعد أن أفرغ هموم العالم في آذانهما.

خشخش المذياع، وتضاربت الإذاعات، لاحتلال مكان الإذاعة التي انتهت مبكراً، مدّ خادم يده فأسكت الخشخشة، ثم أشعل مدواخه وصفن، فصفن الوجود كله، أو هكذا تراءى للصغير، ثم نطق الوجود كله.. قائلاً للصغير بتودد: «أُدنُ مني يا عبدالله».

اقترب الطفل. كان الليل يتوغل بخطواته الصامتة. قال ابن زاهر وهو يمد يده بين فخذيه، ويسوي إزاره: «أُدنُ مني أكثر يا صغيري». دنا الصغير، فدنا الخوف من نفسه. لا يدري ما الذي يخشاه من أبيه الثاني، لكنه تذكّر أباه، فهو يفعل حركاته نفسها، ويتكلم بطريقته نفسها، عندما يطلب من أمه أن تدنو منه.. إلا أن هناك أشياء كثيرة تجعله يطمئن، ومنها أن عينيّ ابن زاهر مسمرتان في مكان لا تصدر عنه شهوة. قال الرجل: «أتعرف الظلم يا ولدي؟»، فأجاب الطفل: «أسمع عنه، ما الظلم يا أبتِ؟»، فقال الرجل وهو يحاول أن يخفف من تجعدات وجهه: «الظلم هو أن يوجد فينا واحد مثل حسين، هو يملك كل شيء ونحن لا نملك ما نسد به الرمق». تصاعد الدم في رأس ابن زاهر فأصبح كالمرجل، وأردف وهو يشير إلى الصبي بسبابته: «اسمع مني يا ولدي، ها هو أبوك يدور كالثور المربوط في (المنيور)(1) من الهند إلى إفريقيا إلى المملكة. يصب الخير في جعبة حسين ويزداد أبوك فقراً على فقره، وديناً على دينه.. وعندما يمل منه، سيقذف به في البحر، كما فعل معي، ها أنت تراني كالآلة المعطوبة، أو كالتيس الخصي.. كن بحاراً – يا ولدي – فنحن كالسمك يميتنا البعد عن البحر، ولكن لا تكن ثوراً يدور لصالح أحد، فالثيران يجب أن تتحد لصالحها المشترك».

كانت الثواني تحيك حبائلها، فها هو الثور المجدور يتفجر كالحمم، عصر رأسه بكلتا يديه.. أحس بدوار شديد.. مادت به الأرض.. ارتفع الفنر إلى السماء، سقطت السماء بفضياتها على الأرض.. ارتفع ثغاء الجداء يدق في رأسه المعطوب كناقوس ضخم.. تصدع رأسه، واحتقن وجهه، تورمت شفتاه، وتهدلت الشفة السفلى.. صرخ بأعلى صوته: «آخ الصداع».. لم يفعل الصبي شيئاً ساعتها، لأن مدّ الحياة انحسر عن أبيه خادم.

حضر الجنازة خماس الأعور، وعيسى الأعرج، ومراد البقال، وسيف (المطوع)(1)، ولم يحضر حسين صاحب البوم، وكذلك عبدالله الصغير، فقد كان واقفاً على الشاطئ يرقب عودة أبيه، ويفكر في قضية مقتل ابن زاهر.

1984م

(1) نوع من السفن التجارية الكبيرة قديماً.

(1) حكاية.

(2) الفنار: مصباح الكيروسين.

(3) جرة.

(1) منطقة سكنية: حي.

(2) أداة تدخين شبيهة بالبايب.

(1) من اللغو: كثير الكلام.

(1) الساقية.

(1) معلم القرآن.