قال جدي:
«سأذبحك كدابة الزريبة إن شاهدتك مرة أخرى مع تلك المرأة الملعونة».
كان يضغط على شطر رقبتي بقدمه الغليظة.. وكلما أمعن في حدة تهديده زاد تغلغل قدمه في لحمي. ابتعد تاركاً جسمي ينبض كقلب كبير. كنت أشعر بأنني أتمدد وأنكمش كنبات صحراوي يتلظى تحت حريق الشمس.
اقتربت من أنفاس أمي وتطلعت إلى عينيها ووجهها. «أيمنعني لأنها امرأة سوداء».
قالت أمي:
جدك يمقت الذي يخالفه. إن له فؤاد نوخذا يدفن غواصيه في عمق البحر بقلب بارد.. آه أشك أن باستطاعته أن يتجاوب مع توجعك تحت قدمه. لا تثيري حنقه بالمرأة..».
كنت أتساءل في نفسي عن سبب منعه إياي عن (دهمة) وقد لحظته، لقد تبدلت أحواله لمجرد أن تسامع بأن (دهمة) سكنت بالجوار منا. أراه معظم الوقت ساهماً، شارداً، ولا ينال إلا القليل من الزاد، وصار لا يخرج من البيت إلا لماماً فأشاهده منطرحاً على جنبه، والوجوم يسكن كل ملامح وجهه القاسية. وعند الفجر – فمن عادتي أن أقوم في الليل عدة مرات – أسمع سعاله يتناهى إلى مسمعي مع دخان غليونه كنت أتيقن بأن أمراً يقلق جدي إلى درجة المرض والاصفرار، وهذا التبدل حلّ على جدي مع قدوم المرأة إلى فريجنا، وعندما علم بأنني زرت دهمة، هاج وانفجر في وجه أمي.. وطرحني على الأرض يضربني بقسوة شديدة تفصلني عن أن أكون أحد جذوره الشرعية.
عاودت مرة أخرى زيارة (دهمة) يسحبني مقت جدي للمرأة، وقد تملكني الاستغراب لأنني لم أر سوءاً يبعث على الخوف، فالمرأة كانت جميلة إلى درجة أن يخشى المرء أن يطيل النظر إليها. فتية لها تكوين جسد جبار كأنه تكوين آلهة أسطورية كالتي ابتدعها البابليون والسومريون. آسرة كما تأسر المدن الفاضلة الإنسان المقموع.. كفها واسعة إلى درجة تثير المفاجأة. ولقد علمت أن الفقراء في البلدة لا ييممون إلا إليها، ورأسها يشبه تكوير رأس حمامة بيد أن ملامح وجهها تحمل سمة الصخر.
وعندما اقتربت منها، رأيت رقبتها السمراء مجدولة بضرب قاسٍ كأنه لسع سياط لم تعرف الرأفة البشرية.. وخلال لقائي بها لم تكن تفارق صمتها إلا بحديث ابتسامة واسعة كانت تفتر بها بين الحين والآخر في حين كنت أتابع النظر الوحشي إليها وبي لهيب أن تنطق المرأة.. وخرجت عنها وداخلي يموج بشعور ظامئ صوب (دهمة) التي تفترس جسدي.
(أمي ما حكاية المرأة؟).
أمي الأخرى كانت تجزع من سؤالي عن (دهمة) وتهرب هروب المستشيط بالنار.
(.. أمي سأذهب إلى (دهمة) وليفعل بي جدي ما يشاء).
تناولت أمي يدي وأجلستني لصقها وكان جسدها يرجف كمن به حمى..
(إن لهذه المرأة سمعة سيئة و…)
ذهبت إلى (دهمة) وكانت عيناها مسكونة بغبش كأنه ركام غمام يراوح في سمائه ولا يسقط مطره.. تفحصت وجهها وعينيها ويديها وصدرها وبقية جسدها، لم يكن جسدها قابلاً أن يستلقي وتمارس العهر، كنت أراها بشكلها الأسطوري المنتصب شبيهة بالشجرة التي تبتدع ذاتها في الوقوف والنماء والصيرورة.. آه إنني أشعر بأن عيني أمي تجافيان الصدق.
(.. أمي ما حكاية المرأة؟).
التهب وجه أمي بالصفرة القاسية، بلعت ريقها والتمست مني الرجاء.
(لن يرحمك جدك.. كُفِّي عن المرأة).
(أمي سأسأل جدي عنها..).
جأرت أمي قائلة، وهي تسقط عينيها على الأرض..
(إن المرأة التي تهمك ليست سوى سكيرة عربيدة.. انظري إلى عينيها).
وعند الفجر لم يكتم حركتي الخوف من سلطة جدي وتسارعت لاهثة إلى المرأة وفزعت إليها وعيني تتجه إلى عينيها كسهام مخبولة.. رأيت الآثار التي تحدثت بها أمي، كانت عروقاً حمراء تملأ داخل محجريها.. لكنها ليست خيوط سكرى تحمل لذة الشراب اللاذعة.. بل إن تلك العروق شبيهة بالتي تصنعها النار بمن يقاربها أو هي ناتجة عن السهر المؤرق أو التذكير المعذب للروح.
(.. جدي لماذا تمنعني عن (دهمة) ألأنها سوداء، إنها جميلة.. بدأت أحبها..).
تناول جدي شعري بين يديه، وعمق الألم في جلدة رأسي، إنها وسيلته الوحيدة في التعامل معي.
(أنت عاصية، ملعونة.. ورأسك هذا سأسحقه.. تسألين عن هذه العاهرة.. اسألي أيضاً عن أبنائها السفاحين العشرة). تحينت موعد خروج جدي إلى مجلس الرجال في وسط سوق البلدة.. وعجلت بالذهاب إلى المرأة.. لا أعلم السر الذي يفقدني اتزاني صوب المرأة.. يقول جدي إن لها عشرة سفاحين، لكنها امرأة وحيدة، ساكنة في الصمت، وحولها يحوم سر يضربني من أجله بقسوة ويعرضني لرائحته عندما يثور. وما يدهشني أن جدي يضعف عند ذكر تلك المرأة.
دخلت عليها ولم تكن وحيدة، كان بجانبها شاعر عجوز أعرفه جيداً، أراه في الطرقات والسكيك، وأحياناً أسمع صوته فجراً ينشد بصوت مرعب كأنه مجنون يرفض العالم والأشياء ويستسلم لمعقول وحيد قد يكون امرأة أو إيماناً بفكرة تعصف به. كان مستريحاً بجانبها مطمئناً.
قلت في دخيلتي ربما هذا المجنون هو سر المرأة.. سأسأله.. قربتني هي منها فجاءتني رائحة منبعثة منها كأنها رائحة نخلة، وعندما قربت ناظري لم تكن في موضع أن أحادثها أو ألتمس الرؤية عنها من الشاعر الذي لم يزايد بحديث….
ومسحت هي على صدري وابتسمت دون أن تفتح حواراً..
درت حول أمي.. وتوسلت ببكاء أن تقول لي شيئاً عن (دهمة).. انفلتت عني أمي، واتجهت صوب جدي ولم يكن موجوداً.. (إنها امرأة مخبولة لا تملك رشداً.. أمها لم تكن إلا معتوهة، وكانت تخرج عارية في الطرقات وتدخل البيوت وترفض أن تضع على نفسها خرقة تستر ذاتها.. الناس هنا رجموها وضربوها..).
ثم بحلقت أمي في عينيّ وقالت..
(وجدت مقتولة في إحدى الخرائب..).
وسكتت أمي ورأيت في وجهها تجعداً خائفاً.. وتلفتت إليّ بنظرة حيوان جريح..
(.. الناس هنا ماتوا من الجوع. والبحر لم يكن يوردهم إلا المأساة.. لذلك لجأوا إلى خدمهم السود والكل فعل ذلك الفقير والكبير.. وصاروا يبيعونهم بأبخس الأثمان.. أم دهمة سمعت بأن مالكها سيبيعها فقفلت على نفسها الخيمة وبقيت يوماً كاملاً ملتحمة مع القلق والخوف.. إلى أن جنت…).
(لماذا يكره جدي دهمة؟..).
ولم تجب أمي.. وبدأت أدرك مفارقة الناس عندما يبحثون عن خلاصهم الفردي بالمتاجرة البشرية.. ربما (دهمة) صامتة بشكل أبدي على أمها.. ربما هي محاصرة بتهتك العالم والأشياء.. وشعرت بالحقد على جدي.. وصرت لا أنام إلا فترة قصيرة، وأتصدع طوال الليل في مقابل جدار ينشرخ وينفرج عن وجه المرأة المعفر بالصمت وبابتسامة ليست هينة.
ذات فجر قربت (دهمة) رأسي من وجهها فتسللت إليّ رائحة شبيهة برائحة التراب الذي أتى عليه الطل.
قالت لي: (لا تزعجي أمك المسكينة. جدك ليس رحيماً).
وأصبح الصباح وأنا واقفة عند رأس جدي، قسماته لا تعدو إلا أن تكون قسمات نوخذا يمتهن المروق فوق أجساد الغواصين فتكبر ذاته بامتصاص دمائهم. لكن ما بال المرأة صامتة في حين جدي يجاهر بكراهيتها ولو درى بأنني لا أطيق الغياب عنها لنـزع حرارة جسمي.
إنني أتملى بالمرأة، تجعلني طافحة بالمعاني كالتي يحصّلها الواردون على تكوين مستقبليّ مروّع.. إن جدي يذبل مع الأيام لوجود المرأة في فريجنا.
ذات ليل اكتمل فيه القمر وصار بدراً.. طرق المجنون على نافذتي بعصاه.. وأخرجني معه إلى بيت المرأة.. ويا لهول ما رأيت، المرأة كانت في أوج جمالها وقوتها، وجهها امتلأ بمزيج من الصلابة والسلام والألم القاسي. عيناها كانتا صافيتين صفاء يفوق بريق نجمة أو صحراء تحت مظلة الليل. وقد أشعلت ناراً في وسط بيتها وهي لا تتوانى أن تذكيها بقطع الحطب.. أفٍّ لروعة حركتها. وهي تقترب من النار، أشبه بحركة راقص يزاوج بين الفرح والحزن والكلمات والمعاني وبين الصمت والكلام.
انتحى الشاعر بي مكاناً قصياً، وكان القمر بدراً، وذاتي ممتلئة بشعور غامر، فجمال (دهمة) يرهقني ويكلفني فرحاً ثقيلاً ورؤية نشيدية..
(من المرأة.. لماذا يكرهها جدي.. هل هي بغي؟).
مسح الشاعر على جزَعي.
(جنت أم المرأة وقتلها أهل البلدة لعريها، ودهمة بقيت عند مخدومها، وكانت فتاة يافعة، وجمالها كما ترين يقتل الفاحش قبل السوي.. فكان يستتر بالظلام ويأوي إلى فراشها متعززاً بشرعية أنه المالك لها.. في أول ليلة باعد بين ساقيها وربط كل ساق برجل السرير.. اعتاد على ذلك ليالي وهو يجهش باللذة الوحشية، وأدركت زوجته حقيقة الأمر عندما تكور بطن الفتاة.. فتشبعت بالحقد والقسوة على دهمة.. أمرت الفتاة أن توقع نفسها من مكان عالٍ ليسقط الجنين وضربتها على رقبتها وبطنها.. لكن الجنين بقي في تكوره كما تبقى الرسالة في تمرس البنى عليها.. فأطلقتها من الباب..)
نظرت إلى دهمة.. كانت لا تزال في رشاقة انحنائها ونهوضها لسعر النار.. شاهدت طبلاً بيدها.
(بقيت وحدها في خيمة من الجريد.. وكنت أجلب لها طعاماً وولدت بعد حين.. سعدت (دهمة) وانتشت ورقصت، وكانت تطلق غناء شجياً عندما ترضع وليدها.. ومنعتني ذات يوم من أن أجلب لها الطعام وخرجت هي باحثة عن عمل..).
عندما رجعت ذات يوم من عملها وجدت طفلها مذبوحاً.. بدأت دهمة تطرق على طبلها طرقاً خفيفاً وما يلبث يتعالى والنار تتقافز كأنها طيور حمراء تختفي في المدى..
(بعد ابنها ضممتها إليّ، هي تبدلت ولم تعد تتكلم، كانت تصمت بشكل رهيب.. وفي إحدى الصباحات نقلت خيمتها إلى عمق تواجد الناس في البلدة.. ولم أدرك ماهية الأمر إلا عندما فقد رجال البلدة السيطرة على أنفسهم فهاموا حول خيمتها كالذباب على العسل..).
كان وجه (دهمة) ممتلئاً بإشعاعات القمر وبظل الليل، وقد ضمت الطبل إلى تجويف صدرها، وهي تضرب عليه ورأسها يعلو كما يعلو رأس الذبيحة عند قطع وريدها..
(هام الأغنياء وفقدوا اتزان غريزتهم).
(هل لها عشرة سف…).
كانت تنتقي الرجال، فإذا اندفع إليها أحدهم بقيت معه أياماً متتاليات، حتى إذا شعرت بتكور بطنها أقفلت خيمتها على نفسها وامتنعت عن الرجال.. فيظل الرجل يهيم ككلب حول الخيمة..).
(وعندما تخرج وليدها يسمع في البلدة دوي نشيد يتغلغل في كل مكان في البيوت والسكيك، ويتسرب إلى فؤاد كل فرد في البلدة.. ويظل النشيد إلى أن تنتهي المرأة من رضاع وليدها.. ثم تحمله إلى بيت أبيه، والأب يستر ملامح وجهه في حين الوليد يكون متخلقاً بتلك الملامح واللون لون (دهمة) ويغدو الرجل كخرقة منقوعة في ماء).
بدأت المرأة تنشد.. وتعالى صوتها كما يتعالى صوت ألم المرأة تحت وطأة المخاض.
(فعلت هذا مع عشرة رجال…)
(لها عشرة أبناء..)
(لها عشرات الأناشيد، إنها لا تنقطع عن النشيد.. والبلدة تصرخ.. وقد أفصح أحد الرجال عن حقيقة ما جرى له مع دهمة، وكان يبكي كطفل.. إن (دهمة) كانت تستلقي وهي واقفة ولم تكن إلا في شكل الأرض التي تعاقب البذرة بالشجرة…).
(لماذا يكرهها جدي…)
(جدك أحدهم…).
وانتصبت المرأة وأنشدت.. وأنشد المجنون.. واقتربت من (دهمة) فشعرت بالدوار، وبتكور في داخلي يضرب في كل صوب من نفسي.. والتصقت مع المرأة وأنشدت.. ضربني جدي بفؤاد نوخذا.. وكان يزعق..
(.. إنها ممسوسة.. سأجلدها إلى أن تخرج الروح الغريبة منها.. إنها ممسوسة..).
1983م