علي محمد راشد

الباحثون عن لا شيء – علي محمد راشد

تمطى سالم في فراشه وتثاءب، وحاول أن يفتح عينيه، ولكنه لم يستطع، فهو مازال يغالب النوم الذي جثم على صدره ومنعه من النهوض، لقد كانت الليلة الماضية ليلة شاقة من الأعمال المضنية بالنسبة له، لذلك لم يقاوم غزوات النوم، واستسلم له وأسكنه ولم يبذل أي جهد للنهوض من سريره برغم حرارة الشمس التي أحس بها تغمر الحجرة وتسقط على جسمه المستلقي على السرير باستسلام.

هيا انهض من فراشك، لقد تأخرت اليوم في النوم يا سالم..

تناهت إلى مسمعه كلمات زوجته وهي تدعوه للنهوض، عاود تمطيه في الفراش ودعك عينيه وفتحهما، فوقعت على عينيه أشعة الشمس، فأسرع يغلقهما فلم يحتمل شدة الأشعة، واستجمع قواه ونهض من على السرير واستوى واقفاً، ومشى بخطوات متثاقلة وجرّ رجليه جرّاً إلى الحمام، وانتشرت الحركة في البيت، الأم في المطبخ تعد لزوجها وللأولاد طعام الإفطار، وقد وقفت بجانبها ابنتها موزة تساعدها في إعداد الطعام، ودخل عليهما عبدالله الابن الثاني ويبلغ الثالثة عشرة من عمره، ألقى عليهما التحية وأخبرهما بأن أباه يستحثهما في إعداد الطعام..

كان ذلك هو يوم جمعة، أي أن ذلك اليوم كان يوم إجازة، ومع ذلك فقد سار اليوم عادياً كأي يوم آخر، وكان بإمكان سالم الاستمرار في النوم والاستمتاع بالأحلام الهادئة، ولكنه تذكّر أن أخاه الأكبر علي سوف يزورهم اليوم مصطحباً عائلته معه، لذلك كان لا بد من الاستعداد لاستقبالهم.

بعد الإفطار، أحس سالم بالانتعاش وسرت في أوصاله الحيوية، وأحس برغبة في التجول في الحديقة، فنزل إلى حديقة منزله، تنفس الصعداء وملأ رئتيه من الهواء العليل، الممزوج بأريج الأزهار المنتشرة في الحديقة، وعاد بذكراه إلى ما بدأ به حياته، موظفاً صغيراً في إحدى الشركات، وتعاقبت عليه الأيام وهو ينتقل من وظيفة إلى أخرى حتى عين منذ أشهر مديراً لأحد الأقسام المهمة في الشركة، ثم قام سالم يتمشى في الحديقة وأرهف سمعه لعله يسمع صوت سيارة أخيه علي عندما يحضر، فعلي يعمل في شركة كبيرة في المدينة الكبيرة أو بالأحرى العاصمة، أما سالم فيعمل في إحدى القرى، وتبعد تلك القرية عن العاصمة مسافة 150 كيلو متراً، لذلك كانت زيارات علي لأخيه سالم قليلة، وقد مضى على آخر زيارة نحو شهرين، فكلاهما مشغول جداً في عمله ولا يكاد يجد فرصة لزيارة أخيه، وعندما اتصل به تليفونياً أخبره بعزمه على زيارتهم فرحب سالم بالفكرة.

أغمض سالم عينيه وهو جالس على كرسيه بالحديقة وسرح بفكره، وسمع وقع أقدام مقبلة نحوه، فتح عينيه ليرى القادم، فرأى زوجته فاطمة قادمة نحوه تحمل في يدها صينية عليها أكواب الشاي، تقدمت منه وابتسمت له، وجلست على كرسي متقابل معه، ووضعت أكواب الشاي على الطاولة التي أمامها..

– ما رأيك يا سالم في فنجان من الشاي؟

– طيب.

أراك تفكر يا سالم، ما بالك؟ أهنالك شيء يشغلك؟

لا مجرد شرود لا أكثر.

وكان سالم صادقاً في إجابته، فلم يكن يفكر في شيء ما، بل كان كمن يفكر في لا شيء، وسكتت فاطمة، ولم تجد حاجة ملحة في الاستمرار في الكلام، فهذه عادة سالم أن يسرح بفكره ويشرد بذهنه إلا لا شيء.

نظر سالم إلى فاطمة نظرة ملؤها الحب والحنان، وابتسم لها ابتسامة تنم عن الرضا وتشرح حالة الطمأنينة التي يشعر بها، ودس يده في جيبه وأخرج علبة السجاير وفتحها، نظر إليها فلم يجد فيها سوى إصبع واحدة من السجاير، فقطّب جبينه وتوارت تلك الابتسامة وحلّ محلها الضيق والضجر. أحست فاطمة بالتغير المفاجئ الذي طرأ عليه، فنظرت إليه وقد علا شفتيها تساؤل مبهم عن سبب هذا التغير المفاجئ.

أحس سالم بمدى وقع هذا التغير على زوجته، فقال لها بعصبية واضحة:

– السجاير، لقد أتيت على آخر ما عندي، أريد علبة سجاير.

– طيب لا داعي للغضب، سأرسل عبدالله ليحضر لك علبة.

– علبة لا تكفي، ليحضر كرتونة تكفي لعدة أيام.

– طيب.

وانسحبت فاطمة من الحديقة إلى البيت، حيث أمرت عبدالله بالإسراع إلى السوق لشراء السجاير لأبيه.

– انطلق عبدالله إلى أقرب دكان لبيع السجاير.

– أريد مجموعة سجاير، أريد كرتونة.

– ارتفعت قهقهة من فم البائع ووجّه نظرة ثاقبة إلى عبدالله، وقال له:

– سجاير! لا توجد عندي سجاير.

استغرب عبدالله سبب ضحكة الرجل ولم يجد تفسيراً لقهقهته، واستغرب أكثر لعدم وجود السجاير. غريب جداً، هذا المحل الذي لم تكن السجاير تنفد منه. اليوم بالذات تنفد منه ولا يجد أية علبة فيه.

مضى عبدالله متجهاً إلى الدكان الآخر..

– وسمع نفس القهقهة السابقة ونفس الإجابة.

– سجاير! لا توجد عندي سجاير.

فتح عبدالله فاه من الدهشة.. عجباً أين السجاير؟ هزّ رأسه مستغرباً، ولكن استقر رأيه على مواصلة السير إلى محل آخر على ناصية الشارع المقابل فلابد أنه سيجد عنده سجاير.

وجد عبدالله أمامه مفاجأة.. وجد الكثيرين مزدحمين على الدكان..

تردد في البداية من محاولة اختراق هذا الحصار البشري للدكان، ولكنه آثر التقدم والاستفسار عن سبب هذا الزحام غير العادي في ذلك اليوم على الدكان الذي كان رواده قليلين.

– ما الخبر..؟!

– نريد سجاير.

– سجاير؟!

– أجل لا يوجد سجاير، مشكلة، أين السجاير؟ أين..؟

– لا أدري، المهم، نريد (دخان)، نريد سجاير؟

– وارتفعت الصيحات وامتلأ الجو بالصراخ، وتوترت الأعصاب ولم تنقطع صيحات الغضب.

– نريد سجاير..

– نريد أن ندخن.. نريد سجاير..

تسمر عبدالله في مكانه، ما الخبر؟ ماذا حدث؟ أين السجاير؟ شيء عجيب، ما هو السر وراء اختفاء السجاير المحال؟ سوف يغضب أبوه كثيراً لو رجع بدون سجاير، ولكن ماذا يفعل؟ السجاير غير موجودة.

فكّر عبدالله كثيراً، وأحس بأن لا فائدة من التفكير ولا فائدة من البحث عن السجاير. لقد وجد نفس الإجابة ونفس القهقهة تستقبله عند كل دكان، والشكوى من قلة السجاير تودعه وهو خارج من كل شارع.. فلم يجد بدّاً في النهاية من العودة إلى البيت، وليحدث ما يحدث..

كان مشتت الذهن، تتنازعه الهواجس والظنون، وكانت صورة أبيه تطارده، ماذا عساه أن يجيب لو سأله أبوه عن السجاير.

دخل إلى حديقة المنزل وهناك وجد أباه مغتاظاً فتقدم منه وجلاً..

– أين كنت إلى هذه الساعة؟ وأين السجاير؟

– لا، لا يوجد سجاير، لم أجد سجاير في السوق.

– ماذا؟ لم تجد سجاير!

– أجل، لقد بحثت كثيراً، وكل الناس تبحث عن السجاير، ولكن لا يوجد اليوم سجاير في السوق.

– إنك تكذب، لا بد أنك تسكعت في الدروب، وربما نسيت وعندما رجعت الآن لم تجد حيلة لتبرر بها سبب غيابك إلا بالتعلل بعدم وجود السجاير، اذهب ثانية ولا ترجع إلا ومعك السجاير.

لم يجد عبدالله بداً من الذهاب مرة أخرى والبحث عن السجاير، فموضوع نفاد السجاير أمر مستغرب، بل وبعيد الاحتمال، ولكن لا بد من وجود سبب لذلك، ولا بد أن أمراً قد وقع.

ازدحمت الشوارع بالمارة فجأة، واغتصت بهم الدكاكين وامتلأت منهم الطرقات، وارتفعت الصيحات من جديد (وصكت) أذن عبدالله.

– نريد سجاير..

– نريد (دخان)..

ولم يجد عبدالله موضعاً لقدمه، وامتدت الأيدي إلى داخل المحال تطلب السجاير، ولكنها ردت خائبة، وارتسمت علامات الأسى والحزن على الوجوه، وعلتها أمارات الدهشة والاستغراب، وسرت بين المارة همهمات مهمة وتساؤلات حائرة لم تجد لها جواباً..

– أين السجاير..؟

– ماذا حصل؟

– لماذا لا توجد سجاير؟ لماذا؟ وهذه أول مرة لا نجد السجاير..

احتار عبدالله هذه المرة وارتبك كثيراً وهو واقف أمام والده مطأطأ الرأس.

– أين كنت كل هذه المدة، وأين السجاير؟

– قلت لك يا أبي، لا يوجد سجاير..

فغر سالم فمه من الدهشة وتملكته الحيرة، ولم يصدق ما يسمعه من ابنه، إنها أول مرة يسمع بأن السجاير غير موجودة، كل شيء يمكن توقعه إلا هذا.

هل صحيح ما يقوله عبدالله، أم هو محض كذب وافتراء.. والتقطت أذناه حواراً خارج السور يشكو من انعدام السجاير في القرية..

– لا يمكن، لا يمكن أريد سجاير، أريد أن أدخن، يا ربي ماذا أفعل؟

– إنه لأمر غريب حقاً.

– صحيح، ولكن ما العمل؟ ماذا أصنع الآن؟ أخبريني يا فاطمة.

– تسألني يا سالم..؟ إنني محتارة مثلك.. ولكن ترى ما هو السبب؟

– لا أدري..

وفجأة ارتفع بوق السيارة، خارج باب الحديقة، والتفت سالم إلى الباب، ووجد أن أخاه علي قد وصل، ففرح كثيراً وقال لزوجته:

– لقد جاء الفرج.. لقد وصل أخي..

واندفع إلى باب الحديقة، حيث وجد أخاه على الباب.. فتعانق الاثنان.

ودخل علي مع زوجته إلى حديقة المنزل، حيث كانت تقف فاطمة وتبادلوا التحية، كان علي في غاية التعب والإرهاق ولم يكن في حاجة إلى شيء مثلما كان بحاجة إلى الراحة، ولم يصدق أنه وجد كرسياً في الحديقة حتى تهاوى عليه، انهال عليه سالم بالأسئلة وكان علي يجيب عنها بتمهل وروية ويلتقط أنفاسه بين كل إجابة وأخرى..

وتذكّر سالم أمر السجاير فأسرع يقاطع كلام أخيه قائلاً:

– علي أخبرني هل معك دخان؟

– دخان؟

– أجل سجاير أقصد.

– للأسف لا؟

– إنني أريد أن أدخن، أريد (دخان)؟ منذ الصباح وأنا أبحث.

– تبحث عن دخان..

– أجل، أبحث عن دخان..

– إذن، ابحث عن الدخان..

1978م