أنا وجهي غير كل الوجوه، قلبي.. دبيب الدم في عروقي .. هكذا أشعر، وأنا أقف عند الشاطئ، عيني ترقب ساعد السماك وهو يسحب حبال (اللنج) سمراء داكنة، معروقة، شروخ البحر غائصة في لحم جبينه، قلت في نفسي يجب أن أكتب، لصالح هؤلاء تكون الكتابة حقيقية تذكرت كلام أمي، سيصبح لك شأن عظيم يا خليل، المستقبل لك، هكذا يقول قلبي وهذا لا يكذب أبداً. قلب الأم كتاب يحفظ أسرار الأبناء ركضت، بسرعة فائقة ركضت، كانت رجلي المعوقة تطير كعجلة تجرها ريح عاتية، دخلت غرفة مكتبي، لم أفتش عن الورق والقلم، كل الأشياء كانت معدة، وكأنها على موعد مع موضوع الكتابة. جلست، لم أطلب من أمي فنجان القهوة المعتاد، خفت أن يهرب مني الموضوع وأنا أستمع إلى دعواها. بدأت في الكتابة، السماك هو الوحيد الذي يشقى، يأخذ لقمة عيشه من فم جبار لا يلين ولا يهدأ، البحر العنيد يواجهه سماك شديد المراس. شعرت بشكة تنغرس في صدري، تذكرت حديث أمي، «سيكون لك شأن عظيم». المقال قد لا ينشر، سيحفظ في الأدراج، سيلقى في القمامة، قد أزجر بشأنه. الحديث عن المتعبين يؤرق بال الآخرين. فكرت، غصت مع السماك، سحبت معه الحبال، يدي الملساء تقبض على القلم بعنف، تكاد الورقة أن تفلت من يدي، لكنني أتمسك بها بشدة، أطالبها بأن تتحالف معي، هذا وقت الاحتراق، السماك يحترق كثيراً، يكابد، هذا لحم كتفي من أتعابه، من عرق جبينه، من كل التشققات في راحة يده. المقال يتنامى من تحت يده، يكبر أنهيت صفحتين، بدأت في الثالثة، توقفت قليلاً، ثم تابعت الكتابة. أعصر ذهني، أمزج العرق بالدم. السماك يعرق كثيراً، العرق يغسل بالملح، يلعق بعضه، وبعضه يبصقه على المحارات اليابسة، تذكرت كلام أمي «سيكون لك شأن عظيم».. أجل الذين يكتبون عن المتعبين يستحقون المجد العظيم، المتعبون يتعبون لنسعد، لنجد الحياة طريقاً ممهداً، هكذا كانت أمي تقصد، أظن أنها كانت تقصد ذلك. وإلا ماذا تعني عظمة الرجال في أعمالهم الخالدة. أنهيت المقال، اعتدلت في جلستي، تنفست الصعداء، طلبت فنجان القهوة، جاءتني أمي راكضة، وضعت الفنجان ووقفت قبالتي، ابتسامتها العذبة كانت تريحني كثيراً، أشعر بلذة فائقة عندما ترمقني بعينها ذات الشعاع الحاني. وراء كل عظيم امرأة، أمي تريد أن أكون عظيماً، لذا تقف معي في مثل هذه المواقف، كتابة مقال إنساني موقف. التحدث عن معاناة الآخرين موقف. المشاركة الحقيقية موقف. استأذنت أمي، خرجت من البيت في طريقي إلى مقر الجريدة، قابلت المدير، شرحت له الموقف، وعرضت المقال، قرأه بسرعة وهز رأسه، كنت متوتراً، عصبياً، أنتظر جوابه في قلق بالغ، رفع بصره في وجهي، ابتسم، ثم وضع إصبعه على جملة جاءت ضمن المقال.. قال في هدوء «هذه الجملة لا تتماشى مع مضمون المقال»، قلت في دهشة: تقصد أنها تحتوي على خطأ لغوي؟ هز رأسه، قال في هدوء: لا أقصد ذلك.. هززت رأسي.. عرفت.. عرفت.. إذا كان كما تظن، فلا بأس من حذفها، المهم أن المقال يأخذ طريقه إلى النشر.. سيكون مبتوراً، لكن هذا لن يقلل من أهميته.. المهم أن يصل إلى القراء شيء مما أريد. غداً سيقرأون شيئاً لم تألفه أذهانهم.. المقال فيه تحريض، تثوير غير مباشر، القراء يستنبطون ما بين السطور تهمهم الكلمات غير المباشرة، غير السطحية. فرحت، كثيراً فرحت، عدت إلى البيت وأنا أكرر كلام أمي، وأشكر المدير على تجاوبه. خطرت في ذهني فكرة، جملة لم أذكرها في المقال.. لو كتبتها سوف يكون لها وقع خاص في نفوس القراء.. فكرت في العودة إلى الجريدة، لأسحب المقال مرة أخرى، وإكمال النقص، هززت رأسي، لا داعي، الناس أذكياء ويفهمون مغزى الحديث. تابعت طريقي، وجمل المقال تتدحرج في رأسي كالزئبق: السماك، الحبال، (اللنج)، صوت البحر وهو يدغدغ شعرات ساق السماك، المحارات اليابسة، كلام أمي.. سيكون لي شأن عظيم. بالقرب من البيت قابلت جارنا سعيداً، صافحته، وقفنا برهة، سألني عن أحوالي وأحوال العمل، كان التعب بادياً على وجهي، وكذلك فعلت، سألته عن صحته وآخر الأخبار. لفت نظري كيس علقه بيده، شممت رائحة خبز، كنت جائعاً، أغرقت نظري في الكيس، كانت طية من الخبز ملفوفة بالقرطاس، لونه ليس بأبيض، كتابة مطبعية تسود حتى لون الخبز، الورق من النوع الذي يستخدم في الجرائد.. عندها تذكرت حديث أمي.. لن يكون لي..
1985م