Glogo

المسافة – ليلى أحمد

يمزقه السؤال، يلامسه حتى العظم ويشق فيه مساراً لشيء ما. يتصل بصديقه ويطلب لقاءه:

– رائحة الموت تكاد تزكم أنفي.

– ليس للموت رائحة، إنما هو الحب يا صديقي.

– لا فرق. يجيبه وهو منشغل بالبحث عن علبة الكبريت.. يخرج من جيبه رقم تليفونها، صورتها وأشياء أخرى.. وينتهي كل ما كان يعتقد أنه يذكره بها.

يستلقي على الأرض، يتخيل الموت فتتملكه رغبة ملحة في السفر خارج جلده، تتوهج رغبته عندما تصطدم نظراته بالرماد المتبقي. يقرب شفتيه من الرماد ينفخه فيتبدد في أرجاء الغرفة.. يذكره تبدد الرماد بسنين حياته:

– هل أحببت يوماً؟ (يوجه السؤال إلى صديقه، وعيناه تراقبان بقايا الرماد الدقيقة، وهي تحاول أن تلامس الأرض).

– لا أؤمن بالحب.

– ألا تؤمن بالقدر؟

– لا شك أن الحب قدر، ولكن القدر ليس دائماً حبّاً.

… يعرف تماماً ما الذي يعنيه صديقه من وراء كلماته هذه.

ينظر إلى الساعة ويستأذن في الانصراف.

شعور بالانشطار يلازمه كلما دنا من البيت. يدخل فيجد زوجته ساهرة، إنها لا تمل انتظاره. تقترب منه، تسأله حناناً وفي مقلتيها صحارى ملح ظامئة، وفي مقلتيه كان كل شيء يموت.

ينهض في الصباح على صوت صديق يحمل إليه عبر الهاتف خبر وفاة زوج المرأة التي كان يحبها. تقفز إلى ذهنه أحداث الليلة الماضية، يعيد السماعة إلى مكانها صامتاً وفي داخله تتفجر ذكرى آخر مرة رآها فيها.

كانت تشع بهجة وحيوية بينما في حديثها مرارة مفتعلة.

– أحبك.. ولكن.

– ارحمي الكلمات المستهلكة، وكوني صادقة مع نفسك في لحظة احتضارك هنا.

يضرب رأسه بعنف، مشيراً إلى مكان احتضارها، ويغضب مفتعلاً هو الآخر.. تودعه وتنصرف ليشهد انهيار العالم وحده، ولتبقى هي في حياته يحتضر من أجلها كل يوم.

… ينتبه إلى صوت زوجته تناديه للإفطار بصوت يشبه الهمس الخائف. يجلس في مواجهتها. يرى كل ما أمامه إلا هي.. إنها صامتة تأكل في صمت، تنام في صمت، تنام في صمت، وتتكلم في صمت أيضاً.

امتداد الطاولة يذكره بالمسافة الجليدية التي تفصل بينهما. يزيح الأكل من أمامه وينهض. تتابعه بنظراتها ومرارة العجز تشاركها ما في فمها من طعام.

تمر فترة الانتظار طويلة، مملة ويأتي اليوم الذي يقرر فيه زيارتها، تنهض لاستقباله في حرارة مصطنعة (ما زالت تجيد انفعالها)، يحدّث نفسه وهو ينظر إليها غير مصدّق ما يرى.

لم تتغير، جميلة كعهده بها منذ عشر سنوات، لا يبدو أنها تألمت كثيراً لفقد زوجها، شأنها دائماً عندما تفقد شيئاً، فهي تعرف مسبقاً بأنها ستربح ما هو أكبر نفعاً وأكثر احتياجاً.

تخرجه من دائرة أفكاره. عندما تسأله:

– هل تزوجت؟

– أيهمك ذلك؟

– ربما (قالت واتسعت شفتاها).

– إذن سترفضين طلبي مرة أخرى، كما حدث سابقاً (يضيف).

– كنت غبية.

… يمتد الحديث بينهما يتذكران الماضي، وفي كل ذكرى كان يفقد جزءاً من حلمه، يعادوه السؤال، يمزقه للمرة الألف، يتذكر بقايا الرماد ويتساءل: كيف يمكن للانتظار أن يكون عقيماً؟ يتودد لنفسه، يسألها فرحاً وفي أعماقه كان عمرٌ يحترق.

يدرك لأول مرة أنها لا يمكن أن تحبه، ففي بداية حياته فضلت عليه شخصاً آخر لأنه كان يملك مميزات لا يملكها هو.

والآن توافق على الزواج منه من أجل أشياء لم تكن متوفرة له في الماضي. ستتزوج فيه المظهر، والمستوى اللائق مادياً وبريق المركز الاجتماعي.

يخرج من عندها نازفاً، ها هو يشهد انهيار العالم من جديد.

يحتد في داخله شعور بالتلاشي؛ مرة أخرى يتذكر بقايا الرماد وتتداخل صور كثيرة في ذاكرته.

يصل البيت.. يفتح الباب دون أن يداخله شعور بالانشطار، يدخل.

يقف في وسط الدار وينادي على زوجته. ربما لأول مرة يناديها هكذا.

يبتسم في شيء من الحب، وهو يفتح باب الغرفة باحثاً عنها، تختفي الابتسامة من على وجهه عندما يكتشف أنها غادرت المنزل دون عودة.

كانت دائماً تنتظره، لماذا اليوم بالذات تمل من الانتظار؟

يرن جرس الباب، يخرجه من جحيم التساؤلات، فيهرع ليفتحه متوقعاً أن تكون هي، يفاجأ بصديقه وقد أحضر له رسالة منها تركتها عنده قبل أن تسافر، يفتحها، يقرأ فيها بأنها ليست نادمة على حياتها معه، لأنها كانت تحبه والآن هي غير نادمة أيضاً على تركه لأن قدرها ألا تعيش معه.

ينظر إلى صديقه في حيرة وتساؤل:

– اذهب إليها وأخبرها بما حدث.

– إنك لا تعرفها.

– وهل تعرفها أنت؟

– لقد عرفتها اليوم، وما كنت أدري أنني عرفتها لكي أفقدها.

يتهالك على الكرسي بينما يقف صديقه إلى جانبه صامتاً لا يعرف ماذا يفعل. يجلس بجانبه. يطلب منه أن يهدأ قليلاً ليعرف كيف يفكر: أفكر؟ قالها ساخراً، متهكماً على نفسه، والناس، والحياة ثم أتبعها بضحكة عالية مريرة ليس فيها من الضحك سوى الصوت والرنين.

حاول صديقه أن يقول شيئاً فأشار إليه بالصمت، ألقى وجهه بين راحتيه. دفنه فيهما وأخذ ينتحب بصمت، لأول مرة يتخيل الموت واقفاً، وبينه وبين الأرض مسافة تتسع لأن يتبدد فيها الرماد.

1984م