القصة ما بين التجريب والاتجاه الثقافي

القصة ما بين التجريب والاتجاه الثقافي .. ( كائن الظل ) للإماراتي محسن سليمان ( نموذجا )

نجاة صادق الجشعمي – ناقدة عراقية مقيمة في مصر

محسن سليمان مؤلف مثقف  متميز، تجاوز حدود الجمال المألوف بالحكايات المسكونه بالنور والجموح واحيانا الخيال والتصورات وغالبا يحاكم الواقع والممكن والمستحيل، محسن سليمان يروي لنا في قصصه عن الكون والانسان والملائكة والشياطين فهو يمتلك موهبة خصبة الثراء وارادة وعي وسحر مكاشفة العالم..عالمه الذي لايستطيع ان يفارقه بسهوله،عالمه علم العذابات والشغف والدفء والمشاعر…القاص محسن سليمان في مجموعته القصصية( كائن الظل) التي صدرت بالإمارات العربية منذ عدة سنوات.لابد لنا أن نتكلم عن خصوصيات الأدب الخليجي الذي يعاني أمرين خطيرين:

فالأمر الأول: هو التهميش من جانب الجادين من المفكرين والمبدعين والمترجمين والباحثين في النقد.

أما الأمر الثاني– المدح الشديد: من بعض الصحفيين وأشباه النقاد الذين يسعون إلى الحصول على الرضا.. إذا كلا الأمرين يشكل عقبة ولكننا إذا أخذنا الأمر بشكل موضوعي  وبسيط للغاية تحت قاعدة  فكرية بسيطة وهي (المواطن الخليجي انسان وكل انسان يحمل هما ويحمل وجعا وفرحا،يأكل ويشرب ويمرض)لذلك علينا ان ننظر بنظرة واسعة وشامله بعيدا عن التعصب والاقليمية المحدودة يمكننا أن ننظر إلى الأدب الخليجي…من خلال هذه المجموعة القصصية كائن الظل التي تروي لنا أدق اللحظات في حياة الانسان عن معنى الحب والفراق والوحدة والعذاب في العلاقات وقداسة المشاعر عبر رسائلها الموجهه حرارتها لتؤكد الحب والجمال وأن الإنسان هو كيان مكتمل هكذا يتضح محسن سليمان حيث يمتلك حسا فريدا ووعيا  ثقافيا مغايرا واندفاعات نحو الحقيقة والبهاء والنور مسكون بالايقاع يدرك ويجيد ويكشف بصياغته الأقنعة سأتوقف أمام ثلاث قصص من المجموعة القصصية (كائن الظل) هي…. (شيطان …ونسمة من الشمال…ونزهة مع رجل أخرس).

القصة الأولى: (شيطان)

يأخذنا القاص محسن سليمان الى مشهد بعيد عن الواقع..مشهد الكريم الساخر  المسكون بالكوميديا  حيث  ندخل عالمه الافتراضي للشياطين…الذين اصبحوا اكثر براءة ورحمة وحنان من البشر هنا نصبح امام سياق اللحظة السريعة الخاطفه لنكتشف جماليات فكر وابداع وتقنيات  القاص وايقاعاته فنحن في مكان شاسع وزمان مجهول..امام حدث لايحمل التاؤيل اجوف  مع انه قد يكون عقلاني متوهج بفكر القاص محسن سليمان لذلك نقد  التخلف والتغيب ليدفع القارئ الى التفكير والعقل والخروج من السائد المأسور عن الوعي الذي لايزال مستحيلا فالقصة ببساطة…مر شيطان عجوز بأحد البيوت، يسمع صوتا خلف الجدار فيسترق  النظر..  يبتسم ثم يضحك، يقهقه..يسقط على الارض مغشيا عليه..ويموت..تأتي مجموعه من الجآن  تحمله الى داره..زوجته واولاده يبكون، الأرملة لم تقض معه الا سبعة ألاف عام، وشياطينه  الصغار افتقدوا بغيابه  النموذج والقدوة ثم تقام الطقوس، والعفريت الجن يلقي  خطبته العصماء، يذكر فيها مناقبه مؤكدا أنه كان ينتمي لهم وانه بائس دميم عظيم الشر مقنعا في وسوسته وان رحيله خسارة  فادحة لمعشر الشياطين من خلال هذه السياقات تظهر المتناقضات المدهشة ولمحات تبعث حاله من الجدل العبقري الساخن بين الانسان والشياطين …فهنا نحن أمام حقيقة ان الانسان هو سيد الكون وان الله خلقه واحسن خلقه نعم نحن أمام مفارقة فكرية انسانية درامية عالية القيمة والدلاله ان الانسان هو الأول سيد الكون وان الشياطين نتاج خيال قاصر مريض  …هنا سنتعرف على كل محاولات الشيطان العجوز لمقاومة الانسان…وقد اخفى رجليه وأخرجه قرنيه فلم يخف الآدمي ولم يرتعش،  راى غرابا حط فوق رأس الرجل ثم طار  ودلاله الغراب معروفه عند العرب في تراثنا الموروث..ولم يهتز ولم يهتم..هكذا انغرست الشوكة في خاصرته اكثر واكثر دارت به الارض وضربته الشمس وبات في مكانه  جزعا اخرس، ومضت الايام  ووقع الشيطان ضحية وسوساته واغراء ضحاياه فاندفع الى التعرض للصبية.، والعربدة في الاماكن  المهجورة…واخيرا..الى جهنم ياشيطاننا  العزيز …

محسن سليمان حاول ان يقدم لنا في صورة بسيطة وعميقة  مفهوما  للشيطان ودوره على الارض  فهو ينظر للموضوع من جانب اخلاقي  …واختلاط الصور بين الميثولوجيا والرمز ليدين او يوضح لنا ماجرى في صورة فانتازيا للشيطان عند موته او انتمت الى التعبيرية…ونجح في اعطاء القارئ مايمكن ان نسميه اختزال الواقع والتفاصيل الكثيرة حول الشيطان.

القصة الثانية (نسمة من الشما)

القاص محسن سليمان في قصة (نسمة من الشمال) يطرح علينا الثالوث (الرجل ،المرأة، صوت فيروز)

الرجل بطل القصة حبيس السيارة والمرأة ايضا حبيسة السيارة والمتنفس الوحيد لهما والذي يجمعهما هو سماع صوت فيروز كل صباح في السيارة من كل المحطات الإذاعية التي تذيع  أغاني فيروز،  فالبطل محاصر في السيارة والبطله كذلك وهو حصار مادي ومعنوي ولكن فك الحصار والإحساس بالحرية يأتي من صوت فيروز والأغاني التي تبثها الاذاعة طوال الطريق، فالبطله نكتشف انها لبنانية  وانها تعاني من جروح لبنان وآلام التعصب  المذهبي  ووصلات الحرب،  لبنان  وجع من اوجاع الوطن العربي  في هذا العصر الحديث،  فالحروب  الاهلية  أهلكتها  والقاص محسن سليمان يشير هنا من خلال سطرين أو خبر في الإذاعة، تتجدد الاشتباكات بين الجيش اللبناني ومنظمة فتح الاسلام،  هذه الإشارة البسيطة في خبر اذاعي استخدمها بذكاء ،فبينما فيروز تبعث الجمال والحياة والاحساس من لبنان،  لبنان ايضا مقسم بين الجمال الفيروزي والقبح  الطائفي بين الطوائف   الشيعة والسنة،  الجيش وحزب الله  وهكذا ،لم يدخل القاص محسن سليمان في شرح الصراع  السياسي  الذي  يجري  على ارض لبنان  بل أشار إليه بسرعة  وركز على ان البطل  المحاصر في سيارته  كل صباح والسجين  يبحث عن منفذ للروح من خلال متابعته لهذه  الحسناء  التي يراها في السيارة كل صباح  تستمع إلى فيروز ويرى  دموعها….ويترك النهاية مفتوحة…هل اختفت في الزحام  أم أنها جلست  بجواره لتكمل معه الاستماع لأغنية  تبحث عنها تشبهها  وتشبهه.

القصة الثالثة:-  (نزهة قصيرة مع رجل أخرس)

تدور الاحداث حول الرجل عندما يكون مستبدا والمرأة وقضيتها المختزلة…تميز القاص محسن سليمان بالبلاغة الجمالية  الساحرة..والفكر التجريبي  الجديد المدهش المسكوكة  بفيض القهر والعذاب والاضطهاد والغياب …يضعنا القاص امام فكره عبقريته ووعي آليات وجماليات سرده الرشيق وتقنيات متوترة من مستوى اخر تكشف لنا معنى الابداع والفن ودلالاته الذي تجاوز  الزمن والحدود بحيث اصبح قادرا لطرح قضايا واقعية وسياسية واقتصادية في المجتمع ويضعنا ببساطة امام عذابات نساء ورجال الشرق،  حيث الكبت والقهر  والتسلط.والاجساد  المصلوبة على ابواب عقول الرغائب والغرائز والفكر  المرتد بحيث يبدو الطرح بريئا وبسيط فيأخذنا الى ذلك العالم المراوغ  الذي لايسمع  فيه الا صوت امرأة معذبة  أنهكتها أيام البحث عن الاكتمال….ويظل  الحضور الذكوري  الشرس يفرض سلطته وسطوته على المشهد رغم  غياب الرجل الكامل الفعلي في القصة…النزهة القصيرة مع الرجل الاخرس  هي حلم وكابوس وعشق واحلام ورغبات…هي شابة تروي وتكشف اسرار وخفايا الاسرار فتقول..اقترب منك للمرة العاشرة….احلم بك  تنتشلني  من ذروة العشرين الى عالم اجهله ولا اكره الخوض فيه…لي الرجال انت  يقولون انك رجل اخرس، عقيم ، عديم الفائدة  بلا روح لاترى ولا تسمع ولا تتكلم  وانا احبك هكذا اخرس وبلا روح، ،ولا احب الرجال الاحياء الذين  اصابوني بالشقاء…مللت  تلك الشوارب المفتوله ..حتى التقيتك وامتطيت بك جميع الرجال….أولهم خدعني والاخر اهان كرامتي وتركني فريسة في مهب الرجال …لم اجدك هكذا كنت جامدا هامدا وقورا تنظر لي مالا نهاية وعلى شفتيك  ابتسامة وانا بقربك منذ ان رايتك اول مرة في مدخل المتجر  كادت  رعشتي ان تنسيني  نفسي  ،، وبعد سنين  تهز كياني  وتشدني اليك…ومن يومها قلت هو ذا الرجل المنتظر…ثم ينقلنا إلى مشهد آخر وهو دخول الاخت واكتشافها فلم تمهلها على ملامسته  أو حتى الشعور به وتقول لها ..دمية…دمية…دمية  فاترينة  تاسرك…هنا تحررت رغم انه دمية في فاترينة عرض الا ان عذابها وحرمانها واشتياقها منحها معه الحياة وتحول إلى رجل يموج عشقا واندفاعات هذه الحالة تواجهها الكثيرات من النساء لذلك هربت من الواقع الى الخيال يصور لنا القاص محسن سليمان  المشهد كيف هربت المرأة من واقع قاسي الى خيال اشد واكثر قسوة وعذاب واستبداد…لتعيد كرامتها  لانه يتأملها ويأخذها بين ذراعيه يراقصها رقصة الخرساء…اخيرا نحن أمام عالم ثري واسلوب  يتميز بالبساطة الشديدة التي نسميها  السهل الممتنع واحيانا يلجأ إلى الشعر في اللغة وهذه  الفطنة من القاص محسن سليمان بضرورة تواجد اللغة الشعرية في العمل السردي  للقصة…كل الإعجاب بهذا العمل الثري الجميل