مريم الزعابي

صورة عائلية – مريم الزعابي

تلك الصورة الجميلة مازالت متصلبة في الذاكرة لا تغيب. أمي التي تملك شعراً أسود داكناً، وبشرة بيضاء كالثلج، وتلك التجاعيد التي تبان حين تبتسم فتظهر لي شقاء عمرها الجميل. كانت تضع دائماً أحمر شفاه والقليل من الكحل لتبرز عينيها الصغيرتين. لكنها في الحقيقة أجمل بكثير عندما لا تضع على وجهها مساحيق تجميل. اعتدت منذ صغري أن أبدأ صباحي بوجهها، ثم أجلس على مائدة الطعام لأتناول فطوري. كانت دائماً تحضر لي الوجبات التي أحبها. كوب حليب، وبجانبه حلوى يسيل منها الكاكاو. كانت تنصحني دائماً بعينين صلبتين..
– يجب أن تتوقف عن تناول هذه الأطعمة. لا أستطيع منعك منها إذا لم تقتنع أنت.
وكنت أبتسم ابتسامة صفراء وأبدأ بالتهام طعامي. ما زلت أتذكر حين تشاجرت مع طالب في المدرسة، ونادوا والدتي ليتحدثوا معها. كنت لا أريد رؤيتها، ولا أريد سماع غضبها. نادتني المديرة وذهبت ورأسي لا يرتفع عن الأرضية المزينة بمربعات السراميك رخيصة النوع. دخلت غرفة المديرة. وقفت جانباً..
– لا تفعليها يا أمي.. لا تعاتبيني هنا..
قطعت تفكيري المديرة قائلة لأمي:
– ماذا يجب أن نفعل معه؟ فهو دائماً هادئ، ولا أريد أن أعاقبه، فهذه أول مرة يقوم بمثل هذا التصرف..
– أنا متأكدة من أن عمر لم يفعل شيئاً عن قصد. هو طيش أطفال.. سوف يصبحان صديقين..
– صديقان؟!! لا.. لا.. حتى في المنام لن نصبح صديقين..
التفتت أمي إلي..
– سأتحدث معه.. ولن تحدث مشكلة أخرى..
غادرنا المدرسة. وأمي لم تتحدث معي منذ ركوبنا السيارة، إلى أن أخذت طريقاً أخرى غير طريق منزلنا.
سألتها بتردد..
– إلى أين نذهب؟
– إلى مطعمك المفضل. لا بد أنك جائع..
طلبت كل ما كنت أشتهيه من وجبات. سرقنا الوقت ونحن نتحدث ونضحك، لكن الأهم من هذا كله أننا وصلنا المنزل قبل والدي.
أبي بشعره الرمادي. بمزاجه المتقلب. ثمة موقف عالق كالمسمار في ذاكرتي، فهو دائماً يخبرني عن ذكريات طفولته، وحتى عندما كان يكرر بعضها يبقى لدي الشغف نفسه..
– أتعلم يا عمر.. عندما كنت صغيراً لم أكن أهتم بالدراسة. كنت أذهب إلى المدرسة من غير طموح. وفي إحدى المرات في حصة الفنّ طلب منا الأستاذ أن نتعلم النحت، وترك لنا حرية اختيار الفكرة لننحت. لم نفكر كثيراً، واخترنا أن ننحت رجلاً. بعد ما انتهينا من النحت أخذنا نتأمل المجسم. كان الرجل يحمل رأساً كبيراً ورقبة صغيرة كالقلم. لم نهتم كثيراً لملامح وجهه. لكن.. أتعلم ما المضحك في الموضوع؟
– ماذا؟
– عندما أردنا تسليمها للأستاذ سقط الرأس..
أختي ريما كانت دائماً تجلس معي في وقت فراغها. وعندما أطلب منها أي شيء تنفذه وهي سعيدة. كانت سعيدة دائماً.. إلى أن عادت لمنزلنا وحيدة بعد زواج دام سنتين لعدم قدرتها على الإنجاب، فحاولت التخلص من هذا العبء وعادت إلينا. بعدها تغيرت كثيراً.. لكني ما زلت أنتظرها.. أن تعود سعيدة، فهي تعلم أني أنتظرها.
جدتي تملك وجهاً مليئاً بالتجاعيد، وشعرها متساقط لكنها لا تخجل منه. لم تنس أبداً ماضيها، رغم أنها تخطئ باسمي لتناديني ريما فأضحك، فتشتمني. جدتي التي كانت تحلم دائماً بي أن أكون عريساً. كنت دائماً ألبس غترة أبي، ولا أنسى أبداً بشت زواجه من أمي. وتشغّل جدتي الأغاني القديمة التي تحتفظ بها في المسجل الذي تحبه. كنت أحاول تقليد والدي في مشيته في يوم زواجه، بعد أن شاهدت تسجيل يوم زواجه بأمي أكثر من مرة. جدتي التي تنقذني من غضب والدي عندما أقوم بتصرفات تغضبه. وكل يوم بعد صلاة المغرب تجلسني بجانبها لتسافر بي إلى الماضي، وتخبرني حكايات متنوعة، أحياناً عن الجن، أو صديقاتها، أو جدّي فهو حبها البطولي. لم أنس أيضاً ذلك المسجل الذي بقي لها من جدي. لم ترغب بشيء آخر غيره، رغم أنه لا يعمل أحياناً، فتقوم بخبطه على الأرض لتعود إليه الحياة.
لكن غرفتي كانت مخبئي الوحيد من هذا العالم القاسي. كم اشتقت للغرق فيها! كم اشتقت إلى سريري الذي قمت باختياره لأشعر بأني أفضل رجل في العالم! وعندما رأيت دعم أبي لي وهو يقول لأمي:
– أصبح رجلاً.. وأصبح يختار لنفسه سريراً..
كنت أحلم بارتياد الفضاء، ودائماً كنت أحب أن أراقب السماء لعلي أصل يوماً هناك، وأرى ما تخبئه. ليتحقق مثل هذا الحلم أظن أنه يجب على رائد الفضاء أن يتخلى عن عائلته ونفسه..