ناصر الظاهري

أزرق ولد.. أزرق مات – ناصر الظاهري

اليوم إن كان ما علق في الذهن هو قراءات أم خطرفات حلم أم مشهد في الحياة رأته العين، ايقظته خطواتي غير الواثقة في ذلك الشارع الضيق الرطب في بكين، وأنا أحاول أن أميز الوجوه المتشابهة هناك، لكن وحده من بين تلك الوجوه ظهر كحلم أو تراءى من خلف الذاكرة التي تخزّن صورته، تغيب عني، لكنها تظهر فجأة من غير استدعاء، كما ظهرت الآن في هذا المكان الساخن، تلك الصورة المغبّشة لآخر أحفاد الأسرة الإمبراطورية الصينية، والتي ظلت تترجرج بين حقيقة ربما كانت أو خيال كان يمكن أن يكون، يظهر لي شبح صيني تكاد أن تعد اضلاعه ليس من الجوع، ولكن من الأكل الذي لم يعتده، أراه في الثوب المهلهل، وهو يبيع ساعات مقلدة، ورخيصة في شوارع بكين، وكيف حطمت الثورة حلمه بأن يكون كغيره من السلالة، وريثاً لعرش امبراطوري دام زهاء آلاف الأعوام.

تخيلته وهو يرفل في الثوب الماوي الأزرق ذي الأزرار الخمسة، لباس الشعب وقد تخلى عن كل ذلك الحرير الصيني المعتبر، والأبهة الملكية.
تخيلته كيف يذرع الشوارع والساعات الرخيصة على معصمي يديه كعرض فقير ومتنقل للترويج، لقد بقي ذلك البائع البائس الذي يبيع شيئاً لم يكن مقتنعاً به يوماً، ولم يكن في مخيلة أسرته المقدسة، يبيع لا ليكسب قوت يومه، بل لأنه كان ساخطاً غاضباً من القوت ومن الوقت!
قد ينادي ويقول: ساعات مقلدة للقادة الجدد، غير الأصليين أو يسب الوقت الذي جعل قدميه الطاهرتين واللتين كانتا تقبلان وتخضع الرؤوس أمامهما، وهما اليوم موحلتان أو تضيقان بالحذاء الجلدي الممزق أو الحذاء القطني المبتل والمتسخ بالطين ومياه الأرض الموحلة، وخطوات المشي الطويل.

ربما كان ينادي على ساعات الوقت الذي أنزله من برجه العاجي وكرسيه الذهبي، ربما كان يساوم على بيع ساعاته الرخيصة للسياح الذين كانوا قبل قليل يتصورون أمام قصره الزاهر، ويتعجبون من عظمة التاريخ.

يمر عليه الناس، ولا يعرفونه، لولا تلك السيماء الملكية البادية على الوجه، وتلك اللمعة الباقية فيه، والتي يسندها تدفق دم سلالات زرقاء وإحساس بالتمايز، يبدو أنه ظل مخلصاً له، ومحافظاً على بعض هيبته، قدر ما يسمح به الوقت، وتسعفه الأحلام الطائرة، التي تجعله يئن من وطأة الزمن الطويل هذا، وتجعل من قفصه الصدري البارز يردد لحظات الخوف الجديدة والتي لاتنتهي حين يسند الرأس إلى ذلك السرير الخشبي المتقشر، بنّي اللون.
ربما ظل ينادي على ساعات الزمن، متمنياً أن تمضي بسرعة عند نهايتها المفجعة أو لو كانت توقفت في زمنها القديم، دون أن تحدث كل هذه الربكة لإنسان كان يمكن أن يكون له ريش طاووس!