علي العبدان

الذبابةُ – علي العبدان

– تفضّل يا عزيزي، فنجانَ شايِك.

– شكراً جزيلاً، والآن ماذا كنتَ تريدُ أن تقولَ لي؟

– في الواقع، أردتُ أن أُصارِحك في شأن حياتي الزوجية، فأنا لا أجدُ مَن أُفضفِضُ أمامَه، وأنت أكثرُ من أخٍ بالنسبةِ لي.

– لا بأس، تفضل، وعسى أن يكونَ خيراً.

شكراً. في الواقع لا أدري من أين أبدأ، ولكنْ دعني أقولُ لك بادِئاً بأنني لم أكن أهوى قراءةَ الأدب من قبل.

– الأدب؟!

– نعم.

خِلتُك ستُحدّثني عن مشاكلِك الزوجية!

نعم، فلكثرةِ المشاكل في حياتي الزوجية؛ بدأتُ أهربُ مؤخراً إلى القراءة، ومن بين مَن قرأتُ لهم فرنسيٌّ يُدعى ألبير كامو، الذي أصبحَ في الواقع من كُتّابي المُفضَّلين، إلا أن تعبيراً لهُ كان قد استوقفني أثناءَ إحدى القِراءات، إذ استغربتُ وصفَهُ طبعاً من أطباع الذباب في إحدى قصصه، حين قال: “منذ لحظةٍ، وذبابةٌ نحيلةٌ تحومُ في الناقِلة، بالرَغم من أن زجاجَ النافذةِ كان مفتوحاً. هذا ما قالَهُ كامو في قصته، وقد استغربتُ هذا الوصفَ، لأنني تساءلت: كيف تظل الذبابة تحومُ بلا معنى؟ وكيف لا تهتدي إلى الخروج من نافذةٍ مفتوحة؟ وخطرَ لي أن الكاتبَ الكبيرَ هذا فارغُ الهَمّ، إلى الدرجةِ التي يصرفُ فيها من وقتهِ ليُراقبَ سلوكَ ذبابة، ثم يُوظفُ ذلك في كتاباتهِ الأدبية، ولعلهُ كان خَيالاً منه، لكنني اكتشفتُ في يومٍ من الأيام أن ما كتبهُ كامو حقيقة، ففي الازدحام الكبير الذي تقعُ فيه وسائلُ المواصلات بين مدينتي والمدينةِ الأخرى التي أعملُ بها؛ يجدُ السائقُ العالِقُ وقتاً لا بأسَ به أقول مع الأسف:لا بأسَ به لتوفير انتباهِهِ إلى مختلِفِ الأمور التي لا أهميةَ كبيرةً لها فيما أظن، من ذلك مثلاً ملاحظة أنواع السيارات الجديدة، حالة الجوّ، البرامج الإذاعية التي تُبثُ في الصباح الباكر، والأفضلُ منها نسبياً الإذاعاتُ الموسيقية، فهي تبث أحياناً بعضَ المقطوعاتِ الجميلة، حسبَ ذوقي على الأقل، لكنّ الأهمَّ من ذلك كلهِ أنني لاحظتُ قبل أشهر حين كنتُ في طريقي إلى العمل وجودَ ذبابةٍ في سيارتي، أزعجتني كثيراً وهي تحومُ في الفراغالداخليّ، ومع أن النافذةَ كانت مفتوحة، إلا أن الذبابة لم تخرج منها، ذلك بالرَغم من أنني حاولتُ دفعَها إلى الخروجبيدي، وظلّت الحالُ بيننا هكذا عَبَثاً، هي تُزعجني بحَوَمانِها، وأنا أزعجها بمحاولاتِ طردِها بيدي، وأصبح أهمَّ شيءٍ بالنسبةِ لي في ذلك الصباح التخلصُ من تلك الذبابة. ولماذا يُهمّني ذِكرُ هذا؟ لأن استغرابي من تعبيركامو قد زالَ أخيراً باكتشافي صِدقَ ما وَصَفَ به حركةالذبابة، ولأنهُ أيضاً يؤكدُ أن أديباً مثلَ كامو لم يكن يُضيعُوقتهُ حين كان يتأملُ سلوكَها كي يوظِّفَ ذلك في قصتِه. إلا أن تجربتي على أيّةِ حال كانت مختلفةً قليلاً، فأولاً؛ أنا كما تعلم لستُ كاتباً أو أديباً كي أجدَ الصبْرَ اللازمَ لمراقبةِ سلوكِ الذباب، وثانياً؛ كان لديّ علبةُ محارِم في سيّارتي، كفيلةٌ بقتل تلك الذبابة، وإنهاء حالةِ الانزعاج التي كنتُ أُعاني منها، إذ إن أقلَّ انشغالٍ عن حركةِ سيْر السيارات أمامي أو خلفي، قد يؤدي إلى حادثٍ لا تُحمدُ عُقباه. لكنّ انزعاجي لم ينقطع بعدَ قتل الذبابة التي كانت تُزعجني في فضاءِ سيّارتي، فانزعاجي في الواقع لا يتعلقُ بالحشرات، بل بالبَشَر، وأقصد زوجتي، وهذا يعني أنني ما زِلتُ مُنشغِلَ الذِهن، ومُعرَّضاً للحوادث.

– كيف ذلك؟

لقد عِشتُ أوقاتاً مريرةً في حياتي الزوجية، إذ لم يخلُ شهرٌ منها من مشاكلَ ذاتِ طابعٍ عنيفٍ مع زوجتي حادّةِ الطبع، ولا أُبرّئُ نفسي، فأنا أيضاً.. كلا، بل أنا أسوأُ منها، ولكنْ لم أكن أستطيع تجاوزَ بعض المواقف التي حصلت بيننا. منها مثلاً أنني زرتُها دون موعدٍ في مقرِّ عملِها، فرأيتُها تعملُ على الحاسوب، ورجلٌ يجلسُ إلى جانبِها، يكادُ أن يلصَقَ بها، ففارَ الدمُ في عروقي، ولم أدرِ؛ أَأُصبُّ غضبي عليها أم عليه، فأنت تعرفُ كيف يستسهِلُ كثيرٌ من الرجالِ النساءَ، لكنني وفّرتُ انفعالي للبيت، وهناك..

– ولكنْ، إذا كان هو المُخطِئ؛ فما ذنبُها؟

أوه، لا أدري. نعم، لم تكن هي المخطئة، إنها مُهذّبة، لا تعرفُ كيفَ تردُّ إساءاتِ الآخَرين، لكنها معي تصبح مختلفة. إن مشكلتَها الرئيسة حقاً تكمُنُ في استفزازها إيّايَ حين أُصارِحها في كثيرٍ مما يحصل لنا، وأنا بدوري لا أتحمّلُ ذلك الاستفزاز، فأردُّ عليها بعنف، وتثورُ المشاكل، لكننا في الغالبِ نتمكنُ من تجاوز تلك المشاكل، خاصةً بعد أن تهدأ نفسانا، أنا وهي، وكان ذلك الهدوءُ لا يحِلُّ إلا بعدَ أيام، وربما أسبوع أو أكثر في بعض الحالات النادرة، لكننا نعودُ مُتصالِحَيْن في النهاية، كي لا تتعطل حياتُنا الزوجية، إلا أن ارتيابَ كلٍّ منا في الآخَر، أو ارتيابي أنا على الأقل؛ كان ناراً تحت الرماد كما يُقال، فحينَ كنتُأعودُ لمصارحتِها بشأن أمرٍ ضايقني حصلَ منها؛ كانت تعودُ إلى استفزازي، وتثورُ مشكلةٌ جديدة..

– ثم تعودان للمُصالَحة؟

– نعم!

– أوه، حسناً.

– ما بِك يا صديقي؟ لعلّ حديثي أصابَك بالسأْم؟

– لا يا عزيزي، لكنّ حديثَك لا ينتهي إلى شيء، فالمشاكلُ تثورُ بينكما، ثم تعودانِ للصُلح، وهكذا دَوالَيْك! ولعلّك الآن بصددِ أن تحكيَ لي عن مشكلةٍ أخرى جَرَت بينكما، ثم عن الصلح الذي حدثَ بعدَها!

– لا لا، لقد انتهت هذه المشاكلُ مؤخراً.

– انتهت؟!

– نعم، نسبيّاً.

– كيف ذلك؟

أخشى أنها قصةٌ طويلة.

– لا بأسَ في ذلك؛ إذا كانت ستنتهي على نحوٍ جيّد.

إذن أقولُ لك؛ في ليلةٍ من الليالي الصافية، وبعد أزمةٍ صغيرة، صالَحتُ زوجتي، وبِتنا في الفِراش بعدَ أن أسعدنا بعضَنا بحديثٍ لطيف، فانقلبت هي على شِقّها الأيمن، وانقلبتُ أنا على شِقيَّ الأيسَر، وخلَدنا إلى النوم، ولكن في تلك الليلةِ بالذات، ويا لَلغرابة، رأيتُ زوجتي في المَنامتخونُني.

– تخونُك؟!

– نعم، مع رجلٍ لم أتبيَّن ملامِحَه، وقد أصبحتُ مذعوراً من هذه الرؤيا، لكنني كي أتحكمَ في مسارِ الأمور لاحِقاً لم أُبدِ لزوجتي أيَّ تعبير.

– وكيف تصرّفتَ لاحِقاً؟

لم أكن لأعرِف في ذلك الصباح، ولكنْ حصَلَ كلُّ شيءٍ صدفةً، أو ربّما قَدَراً، لا أعرفُ ما العبارةُ المناسبة!

– دعني أقولُ إنهُ قَدَر، فما الذي جرى؟

انطلَقنا في ذلك الصباح، كلٌ إلى عملِه، وحملتُ معي ارتيابي من رؤياي إلى مقرّ عملي، حيث كان للموظفينَ والمراجعينَ صَخَبٌ مزعج، اختلط بحالتي النفسيةِ السيّئة،فخَلَّفها أسوأَ من ذي قبل، وحاولتُ أن أُهدِّئَ نفسي،وأشغلَها بالنظر في المُحيطِ المُزدَحِم حولي كأنهُ احتِفال، فلَفتَ انتباهي رجلٌ نحيلٌ يجلسُ بالقربِ من مكتبي، في هدوءٍ تامّ، وثيابٍ متواضِعة، وهو يُنعِمُ النظرَ فيَّ، وكانت عَيْناهُ غريبتيْن، إذ كانتا تُشِفّانِ عن عُمقٍ بعيدِ الغَوْر، ولم يتركني لتأمّلاتي، إذ بادرَني بالحديث، لكنني لم أسمعهُ جيّداً بسبب الأصوات المرتفعة في القاعة، وكان صوتُهُ خافتاً بطبيعتِه فيما يبدو، فسألتُهُ أن يُعيدَ ما قال، وأصختُ سَمعي نحوَه، فإذا بهِ يقول: إنك لم تَنَمْ جيّداً البارحة“،فقلتُ لهُ، وقد انزعجتُ من ملاحظتِه هذه: نعم، على نحوٍ ما. هل أستطيع مساعدتك في شيء؟“، فقالَ: “لا شكراً، إن معاملتي قد أُنجِزت، وأنا في انتظار مستنَد الإيصال فقط”. وظللتُ أفكّرُ في طبيعةِ صوتهِ الخافِتِ لثَوانٍ؛ قبلَ أن تقتربَ امرأةٌ منهُ بعدَ أنْ رأتهُ جالساً في القاعة، فسلّمَت عليه، وعرّفتهُ بنفسِها، ثم شكرتهُ كثيراً لأن تفسيرَهُ لبعضِ أحلامِها قد أراحَ نفسَها كثيراً، وجعلَ حياتَها أفضل، ثمرَفعت يَديْها تدعو له، وذهبت، وعادَ هو للجلوس، وهنا تذكرتُ رؤياي، فارتفعَ رأسي، واتسعَت عَيْناي، ولاحَظَ هو ذلك، فابتسَم.

طبعاً، كنتَ تُفكّرُ في عَرضِ رؤياكَ عليه.

بلا تردّد، نعم، لكنه لم يقبل أن يُفسِّرَها.

لماذا؟

قال لي إنه لا يرغبُ في امتهانِ تفسير الأحلام، لأنه لا يُحبُ أن يستهلِكَ طاقتهُ في مشاكل العامّة، لكنني ذكرتُ لهُ إن هذا التخصص لا أدري إن كان تخصصاً قد يجُرُّ إليه دخلاً كبيراً، وضربتُ لهُ مثلاً بمُفسّري الأحلام الذين يظهرون في وسائل الإعلام، فكان ردُّهُ أن معظمَ أولئك تُجّار، ولا يُحسِنون تفسيرَ الأحلام، وأنهُ لا يُريدُ أن يكونَ مثلَهم.

– عجيب!

– نعم.

– وفي النهاية؟

– في النهاية، وافقَ على تفسير حُلمي. إنه رجلٌ غامضٌ ومُريب.

إنك ترتابُ في كل شيء. المهم، بمَ فسّرَ رؤياك؟

قال لي “إنها رؤيا واضحة، فأنتَ تُعاني بعضَ المتاعبِ والهُموم جَرّاءَ معاملةِ زوجتِك لك، هذا كل ما تدلُّ عليه هذه الرؤيا“، فقلتُ له وأنا مُرتابٌ في معرفتهِ بالتفسير: “لكنّ الرؤيا تقولُ إنها تخونُني!”، وهنا عدّلَ الرجلُ من جلستِه، ونظرَ إليّ بثقة، وقال لي: “اسمع يا أخي، فهذا أمرٌ دقيقٌ وعميقٌ جداً، الأحلامُ لا تُقاسُ أبداً بالواقع الذي نعيش، الأحلامُ لغةٌ أخرى، قد تُخالِفُ لُغتَنا بنحوٍ معكوسٍ في كثيرٍ من الأحيان، فنحنُ في كلامِنا المُعتاد نقولُ عن الزوجةِ الزانيةِ: خائنة، لكنّ صورة الزوجةِ الزانيةِ في المنام لا تأتيبهذا اللفظِ العُرفيّ هكذا، بل تأتي مُرَموزةً برموزٍ تُخفي الحقيقةَ القبيحة إذا كانت قد وقعت، وتلك حكمةٌ، إذ بها يتأخرُ انفعالُ الرائي حين يستيقِظ، لأنهُ لن يعرفَ ما تدلُّ عليه الرموزُ مباشرةً، فلا يرتكب أخطاءً بحق الآخَرين، يندمُ عليها فيما بعد”. وسألتُهُ وأنا مندهِش: “رموزٌ مثلُ ماذا؟”، فقال: “بيضةٌ عليها دَمٌ مثلاً، فالبيضةُ تدل على المرأة، كما وُصفت في القرآن؛ {كأنهنّ بيضٌ مَكنون}، والدمُ في هذا السياق يدل على الإثم، أو الزنا، ومن الأمثلةِ أيضاً أن يرى الرجلُ حيواناً كريهاً في فِراشِه، فهذا قد يدلُّ كذلك على أن زوجتهُ تزني”. وهنا سألتهُ فجأةً: “حيوان على الفِراش؟ آه، لقد حلمتُ في إحدى الليالي بقطةٍ تُخمِّشُ مخدّتي على السرير، فهذا يدل..“، لكنهُ قاطعني قائلاً: “لا لا، إنك لا تَعي ما ترى، أنتَ قلتَ قِطة، ولم تقل قِطاً، القِطةُ أنثى، وأنا أتحدثُ عن حيوانٍ كريهٍ ذكر“، فعُدتُ أسأل: “ولكن ما معنى هذه الرؤيا القديمة؟“، فقال: “معناها يؤكد ما قلتُ لك مِن أن زوجتَكَ تقضُّ مضجعَك بإثارةِ المشاكل فقط، فهي القطة التي في الرؤيا، والمخدّةُ رمزٌ عن محلّ راحتِك، فمعنى ذلك أنها أحياناً تبُثُّ الهمومَ في حياتِك، ولكنها لا تقومُ بأمرٍ أسوأَ من هذا كما أنت تظن، أو هذا ما يبدو إلى الآن على الأقل، فكل ما تذكرُهُ ليس فيه أنها تزني، أو تخونُك كما تُعبِّرُ أنت“.

– حقاً هذا كلامٌ دقيق.

– نعم، لكنني عدتُ لأسألَه عن رؤيايَ الأخيرة، كيف لا تدل على الزِنا؛ وهي في ظاهرها تدل عليها؟

– فماذا قال؟

– قالَ لي كلاماً مُعقَّداً حقاً، إذ أوضحَ لي أن زِنا الزوجة في الواقع المُعاش يُورِثُ الشريكَ هموماً وأنكاداً كبيرة كما هي العادة، وبما أننا عُرفاً نُسمّي الزنا خيانة، فكلمة الخيانة مرتبطةٌ عُرفاً بالهموم والمصائب، ولهذا فحين يكونُ الإنسانُ في هَمٍّ ناجِمٍ عن معاملةِ شريكِ حياتِهِ له، فإن هذا يُساوي هَمَّ الخيانةِ في المعنى، ومن هنا يرى الخيانةَ في المَنام رَمزاً عن الهموم، فقط، ولا يدل على الزنا، وأكّدَ لي أن الزِنا لا يأتي بهذه الصورة في الأحلام، ولكن كما قال من قبل، يأتي في رموزٍ أخرى.

– يا لَهُ من كلامٍ عميق.

– نعم، ثم حين رآني في حَيْرةٍ بعدَ استماعي إليه، سألني بصراحةٍ قائلاً: “هل تظن أن امرأتَك في الواقع امرأةٌ صالحةٌ أم سيّئة؟”، فحاولتُ أن أُطيلَ في ردّي لأوضِّحَ رأيي فيها، لكنه لم يَدَع لي مجالاً، وقال بحزم: “أَهيَ صالحةٌ أم سيّئة؟ كلمة واحدة فقط”، فقلتُ: “صالحة”، وعندئِذٍ حذّرني من التسرّع في الأحكام، ومن الارتيابِ في زوجتي، وأنّ عليَّ أن أتصبَّرَ على ما يبدُرُ منها، وإلا فلا حَلَّ لهذهِ المشكلة، ثم أخذَ أوراقَ معاملتِهِ التي وصلت إليه، وخرجَ من القاعة، وهو ينظرُ إليَّ بعينيْهِ الغريبتيْن مُبتسِماً!

– نصيحةٌ طيّبة، فهل عملتَ بها؟

نعم، وقد ذكّرتني نصيحتُهُ بالمَثَل الذي كانت جدّتي رحمها الله تذكرهُ كلّما نَشَبَ خِلافٌ بين أفرادِ أسرتِها: “الزين مِن جَنبين”، أي إن استقرارَ الحال بين طرَفيْن يقتضي حُسْنَ التصرّفِ من كليْهما، ولذلك قرّرتُ أن أستقبلَ استفزازاتِ زوجتي بالابتسام، وقد نجحَ هذا القرارُ نجاحاً سِحريّاً، إلى الدرجةِ التي اضطربَت معها زوجتي في التعامل معي، وهذا ما أسعدَني، لأنني بِتُّ أشعرُ بأنني المُسيطِرُ على الوضع، فكلُّ استفزازٍ منها قابلتُهُ بهدوءٍ وابتسامٍ حقيقيّ، فكانت لا تعرفُ ما تفعل، ولا تستطيعُ شيئاً سوى الاستجابةِ لذراعيَّ المفتوحتيْن، والارتماءِ في حِضني، للانتهاءِ بلقاءٍ حميمٍ على الفِراش، وهكذا تبيّن لي أنني أنا الذي لم أكن أُحسِنُ التصرف، وقد عِشنا في الأيام الماضيةِ أجملَ مراحل حياتِنا منذ شهر العسل!

– جميلٌ جداً، إذن فقد انتهت المشاكل!

– آآ.. لا.

ماذا بعد؟

مع ذلك كلهِ، ما زِلتُ أرى نفسيَ أرعَنَ وقِحاً، قدرَ وقاحةِ الذبابة التي وصفها كامو في قصتهِ التي أشرتُ إليها في أول حديثي، إذ قال عنها أيضاً: “وكانت وقِحة، تروحُ وتجيءُبلا ضجّة، منهوكةَ الطيران”، وأقصِدُ بوقاحتي أنني كنتُ في المُدّةِ الأخيرة أُعاملُ زوجتي برفقٍ، دون ضجّة، وأنا مُنهَكٌ من آثار خلافاتِنا السابقة، الأمر الذي حسّنَ من علاقتِنا على نحوٍ جيّدٍ كما ذكرتُ لك، إلا أنني وهنا مَحلُّ الوَقاحة فيما أظن ما زلتُ مُرتاباً فيها!

والآن يا عزيزي، ما رأيُك؟

رأيي أنهُ كان ينبغي عليك أن تقرأَ الأدبَ منذ وقتٍ مُبكِّرٍ من حياتِك.