كنتُ معجباً بذلك الشاب النحيل الأسمر مجعد الشعر إعجاباً لاحظه أبي وبقية أهلي.. وجدته كثير الحرص على تثقيف نفسه، كثير القراءة.. لا يكاد يعثر على أي موضوع ثقافي إلّا قصه من إحدى الجرائد، أو المجلات الفائضة التي يقوم الشباب المختص بقسم التوزيع بوكالة أبي بقص عناوينها، ثم بيع بقية الورق لأصحاب الحوانيت بالميزان.. كان يفعل ذلك يومياً حتى إذا حانت ساعة عودته إلى سكن الموظفين جمع حصيلته اليومية من القصاصات، وحفظها في ملفات مفندة تحتل حيزاً كبيراً من الصوان الخاص به، ثم شرع في قراءة ما تيسر منها، وتدوين ملاحظات في كشكول أحمر كان يرافقه أينما حل، أو ارتحل…
كان أبي رحمه الله وكيلاً لتوزيع معظم الجرائد والمجلات، والكتب في المنطقة الشرقية من البلاد، وكان للوكالة قسم خاص بالتوزيع خلف مكتبتنا العامة الواقعة على أهم شوارع عاصمة المنطقة.. وحين جاء عوض إلينا أول الأمر جاء واحداً من موظفي ذلك القسم الذين يقومون بترتيب، وتغليف، وإرسال الكميات المطلوبة إلى المكتبات والدوائر، والمؤسسات في المنطقة، لكن أبي بعد أن لاحظ شدة إخلاصه في العمل، وقدرته على جذب العملاء كلما وقف مصادفة في المكتبة نقله إليها.. ثم ما لبث بعد أن ازدادت مشاغله الأخرى أن سلّمه إدارة المكتبة.. كان لدى ذلك الشاب إلمام عجيب بمعظم الكتب ومؤلفيها، إضافة إلى سلوكه الهادئ المهذب المقنع لكل من يأتي إلى المكتبة بحيث لا يغادرها أحد دون كتاب، أو مجلة أو صحيفة على الأقل…
أخذ أبي يشجعني على مرافقة عوض بعد أن أعجب به أيضاً، فإذا بالحجرة الصغيرة في الملحق الخاص بالضيوف من بيتنا تصبح مركزاً ثقافياً تتناثر على أرضه، وفوق أرففه، وفي كل زاوية من زواياه الكتب، والمجلات، والملاحق الثقافية خاصة أيام الجمع.. أيام العطل الأسبوعية لي، ولعوض.. كنت أشعر بسعادة، وحماس شديدين وهو يحدثني عن أفكار جديدة عن العدل، والمحبة، والجمال، وحقوق الإنسان.. وإلخ.. أفكار جميلة، وجديدة عليّ لم أسمع أحداً قبله يتحدث عنها في خضم المستجدات اللاهثة خلف البريق، والطفرة المالية التي حدثت في البلاد، ثم ازداد حث أبي لي بعد أن لاحظ أنني كلما كنت مع عوض لا أدع أي صلاة جماعة في المسجد المجاور لبيتنا تفوتني.. وكذلك كان رأي الوالدة، وبقية الأهل، الأمر الذي جعل أبي ينقله للسكنى في تلك الحجرة بدلاً من البيت الشعبي المستأجر لبقية موظفي وعمال المكتبة، وقسم التوزيع.. كان أغلب موظفينا نازحين من مدن ودول أخرى…
استفدت من رفقة عوض أشياء كثيرة، وتقبلت منه أموراً ما كنت أتقبلها من أحد حتى أبي نفسه.. كان شديد الإقناع إضافة إلى إعجابي به، وكان أهم ما استفدت منه عدم تجاهل الأذان، وحب القراءة، وأشياء أخرى.. لكنني لاحظت عليه في الفترة الأخيرة عزوفاً شديداً عن الأمور الدنيوية لم أستطع في الحقيقة استيعابه.. كان أمراً حاداً شديد التناقض مع الخط العام لحياة الناس، ويكاد يبلغ حد التذمر.. لكن عوضاً كان مخلصاً في انتهاجه سعيداً به.. وبعد صلاة العشاء من ليلة جمعة عند مغادرتنا للمسجد الذي أصبحنا آخر من يغادره وقف عوض طويلاً أمام بابه لا تفارق عيناه امرأة مسنة راكنة إلى زاوية قصية من الرواق الخارجي، ووقفت أنا أنتظره.. كان منظر المرأة بهزالها الشديد، والأسمال التي ترتدي مؤثراً حقاً، وكانت ليلة ممطرة، بل شديدة المطر، لكن عوضاً أطال الوقوف كثيراً غير آبه بقطراته الكثيفة التي تنهال على جسمينا.. فلما اقتربت أستحثه العودة إلى البيت وجدت في عينيه دموعاً، ثم أدخل يديه في جيبيه، فأخرج كل ما فيهما من نقود، وكومها أمام المرأة، وانطلق مهرولاً نحو البيت مردداً:
… من لهذه المسكينة وأمثالها؟.. هل سيخبرني أحد؟..
لم أدر ماذا أقول له حينها.. كان مرآه مؤثراً، وسؤاله صعباً بالنسبة لي.. ثم دخل خلال الأسبوع الذي أعقب الحادث في دوامة من الشرود العجيب فاجأني في نهايته بإحضار إزارين أخضرين، وعمامتين من نفس اللون، ثم مديتين.. قذف بطقم منها نحوي، وشرع بالتجرد من ثيابه العادية، فالتف بالإزار، ولف العمامة حول رأسه، ثم حشر المدية في أعطاف إزاره:
… حان وقت الجد يا صديقي..
لم أدرك مقصده حتى ذلك الحين، لكن شدة إعجابي به إضافة إلى الزي الغريب أقنعاني أن أفعل ما فعله صديقي، فاتزرت، وتعممت، وحشرت المدية بين خاصرتي، والإزار، وأخذت أنصت إلى ما يريد:
… قاضي قضاة المدينة وإمام جامعها الكبير هو هدفنا.. إنه المسؤول الأول عن تنفيذ شرع الله في المدينة.. سنذهب إلى بيته لنرفع إليه تذمرنا من المآسي التي رأيناها، ونطالبه برفع المظالم عن البؤساء، وتحقيق العدالة…
حدث ذلك عشية جمعة ذهبت فيها كل الأسرة إلى شاطئ البحر، ورفضت أنا مفارقة صديقي.. وكان من حسن حظ عوض وحظي، ثم حظ أبي أكثر أن كان الطريق الذي سلكناه إلى بيت القاضي في الجزء الجنوبي من المدينة طريقاً ساحلياً بعيداً عن الشوارع الرئيسة للمدينة، وشبه خال من الناس.. ذلك أولاً.. ومن حسن حظنا نحن الثلاثة ثانياً أن القاضي لم يكن موجوداً كما قالت المرأة التي خاطبتنا من خلف الباب:
… أخبريه إذاً أن عوض بن علي، وأحمد سعيد قد جاءا لمقابلته، وسيعودان في مثل هذا الوقت من الغد..
وفي طريق العودة كانت صلاة المغرب قد حانت، وأقرب المساجد بعيد عنا، ففرش صاحبي عمامته الخضراء سجادة لنا معاً غير آبه لنظرات استغراب أخذ نفر قليل من الناس كانوا في ذلك المكان يطلقونها نحونا.. وعندما بلغنا البيت، وفتحت أختي الصغيرة الباب انطلقت هاربة إلى الداخل وفي عينيها رعب
شديد…
لم نمكث طويلاً حتى جاء أبي وأصغر عمومتي.. وحين وقع نظرهما علينا رأيت على وجه عمي شيئاً من الخوف بينما هز أبي رأسه وابتسم ابتسامة صبورة:
… إنا لله وإنا إليه راجعون..
قال بصوت هامس، ثم غمز لي أن أغادر الملحق، وشرع يدنو بخطوات هادئة نحو صديقي:
… إلى أين وصلتم هذه العشية؟..
كنت قد بلغت حيث يقف عمي، فرأيت أخوتي الصغار خلفه في الرواق الطويل المؤدي إلى عمق الدار.. وفي نهايته وقف بقية أهلي من النساء:
… إلى بيت قاضي القضاة..
ظل أبي محافظاً على هدوئه بعد أن جلس بمحاذاة عوض:
… وما القصد من زيارة القاضي، يا شيخ عوض؟..
شعرت من ملامسة جسم عمي الملتصق بي بتيار ضحكة يجاهد كثيراً كي لا تصدر:
… القصد، يا عم سعيد أن الكيل قد طفح، وأن الظلم قد استشرى، وولاة الأمور غافلون عن معاناة الناس، وآلام العباد، ولا بد لنا من تنبيه الغافلين..
… والله إنك محق، يا بني.. لكن هل بإمكان قاضي القضاة أن يفعل شيئاً؟..
… واجبه أن يفعل، وإلّا فقد مبرر وجوده في ذلك المنصب..
… أيضاً أنت محق.. لكن لمَ هذه الأزر، وهذه العمائم، والمدى؟!.. القاضي نفسه لم يعد يرتدي مثل هذه الثياب.. كل الناس بمن فيهم القاضي سيرونكم مجانين، وبالتالي لن يلتفتوا إليكم، ولن ينصتوا إلى قضيتكم..
… إنه زي الجهاد، يا عم سعيد..
… الجهاد ليس زيّاً يا بني، ولا شكلاً غريباً على الناس..
… كان الأوائل من المجاهدين يرتدون هذا الزي..
… نعم كانوا.. لكنهم سيرتدون ما يرتديه الناس لو عاشوا معنا حتى الآن.. سيفعلون ذلك حتى لا يبدون غرباء في عيون من يجاهدون من أجلهم.. لقد كان جهاد أولئك يا بني، لتغيير نظم فاسدة، وإزالة معتقدات آثمة لا لترسيخ زي، أو تحديد شكل.. لقد كانوا رضوان الله عليهم حملة حضارة السماء إلى أهل الأرض بعد أن تفشى فيها الظلم، والجهل.. لقد سعوا نحو الأحسن، والأحدث، والأجمل، وأكدوا أهمية العلم، واستفادوا من الجديد، ولم يصروا على القديم الموروث حين رأوا الحديث أفضل منه…
تعلمت من أبي ذلك الدرس.. لكن صاحبي حينها ظل مصراً على موقفه رافضاً التخلي عن الإزار، والعمامة، والمدية.. وكانت المدية بالذات مثار خوف أبي علينا، وعلى عوض نفسه بعد أن لاحظ منه إصراراً على استخدامها.. لذا اضطر إلى إغلاق باب الملحق عليه، ثم استدعى ذويه ليتدبروا أمره:
… أشعر بأسف شديد على هذا الشاب، وأجد له عذراً إلى حدٍ بعيد.. لقد وصل حال الأمة إلى حد الإحباط، يا بني، وأرجو من الله أن يجعل لنا من همنا فرجاً..
ذلك ما قاله أبي عن عوض في حين ظننته سيصفه بالجنون على الأقل، وسيعنفني أنا على مجاراته، ثم أردف:
… شدة الضغط تسبب الانفجار يا أحمد، وليس مستغرباً أن يصدر من هذا الشاب، وأمثاله من المخلصين الصادقين في مشاعرهم مثل هذا الفعل.. إنه رد فعل لما يعانون من شعور بالإحباط، لكن الأسلوب الذي اتخذه عوض شديد الفجاجة.. لا قاضي القضاة بيده الحل ولا الإزار، والعمامة، والمدية هي الشعار.. ليست غاية الدين يا بني بالمغالاة في تقصير الثياب، ولا بإهمال اللحى إلى حد مفزع، ثم اتهام من لم يستسغ فعلها بنقص في الدين كما يفعل البعض للأسف.. إن الله جميل يحب الجمال، فلمَ يصر هؤلاء المغالون أن يبدوا لنا، ولباقي الأمم بهيئات قبيحة!.. لمَ يصرون على إبراز القشور، فينفروا من أراد الاتجاه إلينا!.. ثم من وكلّ هؤلاء بإيهام أبنائنا أن آباءنا وأجدادنا الذين تعلمنا منهم الدين كانوا جهلة به؟.. الدين يسر يا بني، وأوصى بالتيسير في كل شيء، وما خُيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلّا أخذ بأيسرهما.. الوسط، والاعتدال في كل الأمور الشعار الصحيح لديننا، فلا داعي لأن يقوم هؤلاء المغالون
بتصعيب الأمور على من أراد الاتجاه نحونا؟ .. لمَ يفزعونهم بالقشور، والهيئات المرعبة، والمغالاة في التهديد، والوعيد…؟
بعد أربعة أعوام التقيت بعوض مصادفة في أحد شوارع مدينة مجاورة، فاحتضنني شوقاً، ثم دعاني إلى كوب من الشاي بعد أن اعتذرت عن وجبة غداء في بيته.. كان الشاب قد تزوج حديثاً، وأصر على دعوتي، لكنني كنت على موعد سابق.. فلما يئس أخذنا نتذاكر ما حدث، فأخذ يضحك.. ثم قال:
… لقد كان العم سعيد حكيماً في كل ما فعل، وقال.. لقد أنقذني جزاه الله خيراً من فعل طائش كنت عازماً عليه.. أبلغه تحياتي، وشكري، وأخبره أيضاً بأنني قد تذكّرت، وتعلمت الكثير مما قال في ذلك اليوم.. وعند وفاة أبي – رحمه الله – فوجئت بصوت باك خلفي مباشرة.. كان ذلك في المقبرة.. ثم احتضنني عوض بحزن صادق، وهو يردد باكياً:
… رحمة الله عليه.. رحمة الله عليه…
العين
4/8/1998
العمائم الخضر – من المجموعة القصصية (شيء من هذا القبيل)