ما أن انبلج الفجر حتى جاء من يخبره: «سعيدة بنت غافان.. غابت.
سارت إلى رحمة الله».
نهض متمايلاً بإيقاعه البطيء، وسكون الليل يغلق الصخر. «قم الليل» نشيد في القلب يغلف هذه الرغبة العارمة المكبوتة والمحفوفة بحزام العفة..
«أذكر الله» غسل وجهه، ثم مسح على الرأس: الله أكبر «أقم الصلاة».. نشيد صوفي يلجم الرغبة.
يمشي متمايلاً بسير مأتمي،.. أربعة رجال يتبعهم جمع، وآخرهم امرأة.. في الوسط إمرأة محمولة على قوائم خشبية «لا إله إلا الله».
محمد يتوسط الحشد: «سعيدة بنت غافان سارت إلى رحمة ربها».. نزعة نارية تشتعل في صدره.. كيف سيلقى ربه بقلب سلیم.
قبل ضياءات الفجر أتى من يخبره.
هل الزمن يقضي على الأحداث! تنبه محمد.. سنوات مرت بلا معنى سنوات مرصعة بالتوتر والتكفير. ثم يأتي الموت.. هذا الموت الأبيض المنبثق مع خيوط الفجر – الخيط الأبيض يأتي ليغزل الموت.
يمشي محمد متوازياً مع الجنازة.. رجل عجوز.. لحية بيضاء.. وتجاعيد عمر بلا معنى.. وهذا الجلال البهي الهائم في سماء الغفران.
تذكر محمد سنوات التكفير. حقاً الزمن يقضي على الأحداث.. تذكر غافان وكيف لجم بالسوط وخر صريعاً.. بأن تجرأ على سيده وولي نعمته، ابنته تلك الدميمة ذات البشرة السوداء.. تلك الخرساء التي تجوب الطرقات.. قال ناصر بن المترف: «هاتوا لي غافان واصلبوه».
«أنا من عرق الزنوج الذين ركبوا البحر.. في مراكب النخاسة الخضر.. أقرن بالحبال والأيدي المغلولة.. إلا أن لي روحا تغرد إلا أن لي روحا تغني».
كانت رجفة عابرة أثمرت عن طفل وئد في الحال – أتى في كيس غشائي.. قذفته تلك الطفلة الخرساء.. استله ناصر المترف ذات مغيب.. وليمة غسقية ارتجت لها جدران الغرفة.. صرخة أطلقتها على وليدها الذي اختنق بماء رحم أمه. «إن لي روحا تغرد.. لي روحا تغني».
قال محمد: «أتيتها في الغرفة – ذلك المعبد الطيني صومعة الحب والموت. كانت البلهاء تنظف المكان عندما داهمها سيدها وشعرت بالغثيان».
صرخ غافان لربه الذي خلقه.. وجعل له بشرة سوداء: بأن ابنته الخرساء البلهاء الدميمة الوجه سوداء البشرة.. قد أصيبت.. والفاعل هو سيده ومولاه وتاج رأسه.. محمد بن ناصر المترف، زعق غافان بأعلى الصوت.. في باحة المسجد بعد صلاة الجمعة وسط جمع من الرجال وكان الجواب – صمت جسيم. تجرع غافان حسرته ومضى.
تمنى لو شق صدره وانتزع ذلك الشعور بالذل.. والقلب النابض الذي يسكن هذا الجسد الأسود الملطخ بالعار والعبودية.
«يا أيها الرجل الطيب.. إنك خادم…! أطبق شفتيك غيظاً.. لأنك لن تتضمخ البتة بعطر سيدك».
أربعة رجال يحملون إمرأة.. مضت سعيدة بنت غافان في مهب الريح وعبرت الضباب.. تناهت إلى ما لانهاية.. كاشفة ستر سيدها.. عندما ترصع جسدها الداكن بنجوم سيدها الوضاءة.. إن لي روحا تغرد. محمد بني ناصر المترف.. فرخ النسر سنوات بلا معنى: قطع النسل.. محمد قطع النسل تزوج يا محمد ظل يلهج حتى مات.
جوهرة سوداء وأنا حبيس العبادة.. هائم في سماء الغفران.
قال محمد لأبيه بأنه رأى الكلاب وهي تجرجر جثة طفل وليد.. طفل له شعر أسود كانت الكلاب (…) على شعر الصبي.. وكانت تنبش التراب رأيت الكلاب يا أبتي. قال المترف: «سم بالرحمن يا محمد.. الولد يهذي إنك لم تر شيئاً».
كان الطفل يشبه البالون الأبيض المنفوخ بالهواء.. كيس به ثقوب.. وكأنها جعلت للتهوية.. الكيس به كتلة لحمية متوهجة الاحمرار.. الكيس كان شفافاً والكتلة لها شعر أسود نابت في مؤخرة الكيس.. وعندما كانت الكلاب تنبش التراب وتستخرج ذلك الشيء.. لم أتبين بعد إذا كان الطفل فيه أم لا. وعندما صعدنا المئذنة.. وقال لي أبي: هيا لقد حان موعد الأذان.. صعدنا أنا وأبي ورأيت المدينة تحت قدمي وكانت مليئة بالكلاب والحفر وكان الوقت فجراً. عندما صعد أبي إلى المئذنة، وقال لي سوف نصلي بمحاذاة الإمام مباشرة. تذكرت المئذنة الدائرية الشكل – وأنا وأبي نرتقي تلك السلالم الخشبية والحفر المتناثرة في قاع المدينة – والطفل والكلاب وهي تهم بفتق الكيس.. وكانت يد أبي أسرع من أنياب تلك الكلاب المدربة، والتي يحتفظ بها لأيام الصيد.
حفر أبي الحفرة داخل الفناء.. حفرة صغيرة تتسع لطفل وليد – دس بها ذلك الشيء وردمها.. ثم رشها بالماء، وساوى بها التراب، وأخذ يدكها بقدميه. كان الوقت فجراً.. عندما خرج أبي إلى المسجد واستيقظت على نباح الكلاب.. وعندما رأى ذلك المنظر.. منظر الكلاب وهي تجرجر الكيس.. هرول مسرعاً حاملاً الكيس على ظهره ومضى.
حمله إلى المقبرة وربطه بحبل وذهب به – وجلست أنا أبكي. أبوها قال لي: الولد ابنك، قال ذلك قبل أن يموت – وأبي يقول: لا إنها مجنونة تجوب الطرقات، وأنا لا أعلم أهو ابني حقاً؟
أبي يقول إن الطفل كان ميتاً.. أنا لم أقتله.. هو كان ميتاً. قال ذلك وهو على فراش الموت.. وقال إنني يجب أن أصدقه وأسامحه.
ولكن الطفل كان حياً وكان يموء من داخل الكيس. كان صوته يصلني، وأبي يمسك برأس الحبل، وأنا كنت أتبعه.. تبعته إلى داخل المقبرة، رأيته وهو يرمس القبر رأيت ذلك وبكيت – ثم عدت إلى بيتنا وقال أبي:
«يالله نصلي الفجر».
نهض متمايلاً بإيقاعه البطيء.. وسكون الليل يفلق الصخر – مسح وجهه ثم رأسه.. تفقد فناء المسجد، ثم أقام الصلاة «قم الليل» كان وجه غافان مرسوماً على صفحات الجدران على سجادة الصلاة، عن يمينه وعن يساره.. رآه وهو يصلي.. قال له: أبوك مات.. لقد مات ناصر بن المترف، مضى، تلفت يبحث عن أبيه وكانت النعوش مصفوفة بشكل مرتب في فناء المسجد…
قالوا له: يجب أن نصلي عليه في المسجد، وستخرج الجنازة من المسجد الجامع.. هذا أبوك، كانت مجموعة من الرجال، وهو يتوسطهم يحملون المترف إلى المقبرة حاملاً الكيس على ظهره ويهرول.. يجب أن نصلي عليه.. فرغ من صلاته، وكشف عن تلك النعوش المصفوفة، ولم ير وجه أبيه ولم يجد غافان.. استعاذ بالله من الشيطان الرجيم.. مسح على وجهه وكبر ثم أقام الصلاة. لم تكن نعوشاً تلك التي رآها.. كانت أكياساً داكنة مزمومة ومنتفخة ليس بها ثقوب.. أكياساً منضودة فوق بعضها البعض في الباحة الخلفية.. كان عامل النظافة يجمعها ويكومها.
كانت تلك الدوائر.. دوائر سوداء توصد الرؤية أمام عينه، ولم يتبين له شيء.. كانت عيناه شبه مغمضتين خلف الزجاج المعتم، وهو يغالب الهاجس الداخلي – «الله أكبر».. كان قد دعا الناس إلى الصلاة، كان على وشك أن يؤمهم عندما جاء من يخبره بأن سعيدة بنت غافان: غابت، سارت إلى رحمة الله.
- إضاءة: الشعر بين معقوفتين للشاعر الإفريقي أندريه مارسيل دانس.