«مين فيكن الأول؟»
سأل الأستاذ. كانت أوّل جملةٍ يسمعها الطّلبة منه في أوّل دقيقةٍ يقفُ فيها أمامهم. لم تستقبل المدرسة مُعلّماً جديداً منذ ما يزيد عن سبع السنوات. أحسّ طلبة الصف الرابع – الشعبة الثالثة بنين – يومها بأنهم أخيراً الأكثر حظاً. أسعد من الشّعبة الثانية، الذين يسمح لهم معلم اللغة العربية عادةً بعشر دقائق استراحة عندما تصادف حصّته الأخيرة. أكثر سروراً من الشعبة الأولى، الذين يقع فصلهم على بُعد بوابة زجاجية واحدة فقط من قسم البنات. وبالتأكيد أفضل حالاً من الشعبة الرابعة التي فازت بمسابقة أجمل فصل بعد أسبوع من التنظيف المزمن وتعليق زينة مبالغٍ في ألوانها الفاقعة وبهرجتها. «شكلكو عامل زي سيارة عروس مش مسدأة نفسيها»، سخر منهم معلم التربية الرياضية لمدة أسبوع بعد المسابقة.
قبل أن ينتهي الأستاذ من سؤاله أو يتمكّن أيٌّ من التلاميذ من إشاحة بصره المعلّق عليه كقنّاصٍ ماهر، رفع طالبٌ يجلس خلفَ طاولةٍ خشبيّةٍ في الصف الأول من الفصل يده.
«اطلعلي على السّبورة لشوف»
دفع الطالب كرسيّهُ بحذرٍ وتقدّم بخطواتٍ واثقة. عندما وقف إلى جانب الأستاذ، بدا أكثر ضخامةً وطولاً وهَيبة. عندها فقط انتبه الجميع إلى مدى نعومة جسد هذا الأستاذ الذي يكسو وجهه الشّعر الأشقر حيث لا يبدو منه إلّا أرنبة أنفٍ معقوفٍ وعدستا نظارةٍ شديدتَي النظافة.
أدار الطالب ظهره إلى الفصل كلّه – جدرانه وتلاميذه والأستاذ – واستقبل السّبورة السّوداء المغبرة. ما تزال عليها أطيافٌ من أرقام وعبارات تتشابك فيها الباء والـ T الإنجليزية، ودائرةٍ يمكن أن تكون جزءاً من رأس حيوان لا فقاريٍّ أو شكل هندسيّ. أمسكَ بالطّبشورة فأشار له الأستاذ بأن يضعها جانباً دون أن يتكلّم، ثم طلب منه أن يخلع حذاءَيه وجورَبَيه ويتمدّد على الطاولة الخشبية في منتصف الفصل.
ارتبكتْ نظرات الجميع. التصقت همساتهم في سقفِ حناجرهم، تخدش بأظافرها الحادة حبالهم الصوتية اليافعة. خِشيَت نظراتهم الارتطام ببعضها. تلعثَمَ خرسُهُم المفاجئ.
أخرج الأستاذ مسطرةً خشبيّةً عريضة. رفعها، وقبل أن يهوي بها على قَدَمي الطالب، تمكّن من سماع أصوات اصطكاك أسنانِ تسعةٍ وعشرين فتىً في التّاسعة من أعمارهم. بقيتْ قدما الطّالب ممدودتَين رغم ارتعاشهما على الطاولة الخشبية. احمرّتا ثم ابتلّتا بندى من، عرق، حينها فقط غَطّى وجهَهُ بكفَّيه. سحب الأستاذ كفّيهِ بقوةٍ وأعادهما ممدّدتَين إلى جانبه. كانتا مبلّلتَين أيضاً كما كلّ شبرٍ من جسده الذي تنقبضُ وتنبسطُ عضلاته بشكلٍ أهوج.
بعد ثماني عشرة دقيقة بالضّبط بدأت الحصة الأولى في الشعبة الثالثة من الصف الرابع بنين. كتبَ المُعلّم في منتصف السّبورة بخط عريض: «الدّرس الأول».
يطلعلي على السّبورة – من المجموعة القصصية (بيض عيون)